قضايا

الغرب والتوظيف السياسي لحقوق الإنسان

عدي حسن مزعلفي البدء اسمحوا لي بنبذة سريعة وموجزة حول حقوق الإنسان في الغرب واللحظة التاريخية الحاسمة التي أسهمت في تدشين هذه الحقوق على أرض الواقع قولاً وفعلاً. فالغرب في العصور الحديثة، وبعد صراع طويل مع الكنيسة وطبقة الأمراء والإقطاع، تمكنت قواه الجديدة الصاعدة من هزيمة الطبقات القديمة، وصعود طبقة جديدة هي الطبقة البرجوازية، التي تمثلت الفكر الليبرالي بوصفه أيديولوجيا انبثقت منها جملة من المفاهيم والأفكار حول الحقوق والحريات، وهي التي بشر بها فلاسفة عصر التنوير الأوروبي أمثال (جون لوك، جان جاك روسو، فولتير، مونتسكيو... الخ). وقد أصبحت أفكار هؤلاء فيما بعد دليلاً ومرشداً للطبقة البرجوازية، خاصة بعد الثورات الكبرى التي اندلعت في (بريطانيا وأمريكا وفرنسا)، وحصل أن ضُمنت مبادئ وأفكار هؤلاء الفلاسفة في التشريعات والقوانين التي سنتها النظم السياسية آنذاك.

وهكذا، بعد مسيرة طويلة من الكفاح، تحقق للغرب ما نسميه بــــ (حقوق الإنسان)، فحمل شعلة هذه الحقوق والفكر الذي جاء بها إلى باقي بلدان العالم، بوصفه (أي الغرب) الأكثر تقدماً وتحضراً، لا على صعيد الحقوق والحريات وحسب، وإنما على الصعيد السياسي والاقتصادي والصناعي، فضلاً عن الثقافي نفسه. وقد مكنه هذا التقدم والقوة، قبال الضعف والتأخر على كافة الصعد في باقي أنحاء العالم (آسيا وأفريقيا)، من الزحف صوب هذه القارات تحت شعار تمدين وتطوير باقي أمم العالم التي تعاني من التخلف والانحطاط. وبعبارة موجزة: جاء الغرب وهو يحمل رسالته الحضارية إلى أمم العالم، الرسالة التي من شأنها إنقاذه من بؤسه وتأخره، وبالتالي تطويره لصالح اللحاق بركب الدول المتحضرة.

وتجليات هذا المعنى نجدها في الوجود الغربي في العالم العربي نهايات القرن الثامن عشر وما تلاه. إذ كان هذا الوجود يُبرر ويقدم تحت ذريعة (المهمة الحضارية)، وإن المراد منه فائدة شعوب المنطقة، إذ سيسهم حكمهم من طرف القوى الاستعمارية في تحديث حياتهم وانتشالهم من التخلف. مثال ذلك ما قاله نابليون إبان غزوه لمصر عام 1798: (نحن هنا من أجلكم ومن أجل الإسلام)، وما قاله آرثر جيمس بلفور، رئيس وزراء بريطانيا ووزير خارجيتها بعد احتلال مصر عام 1882: (نحن هنا من أجلكم ومن أجل الغرب كله)، والحال كذلك مع الوجود الأمريكي في العراق عام 2003، فقد بُرر هذا الوجود وقُدم للجمهور الأمريكي بحجة محاربة الإرهاب، ودفع خطر الحكومات الاستبدادية التي تشكل تهديداً مباشراً على حياة الغربيين ومصالحهم، فيما قُدم لعامة العراقيين على أنه لأجل تحريرهم من سطوة الحكومات الاستبدادية.

غير أن هذه الشعارات، ما هي سوى ذريعة، تخفي أهداف كانت في عصر نابليون موصولة بالاستعمار المباشر، أما في عصرنا الحاضر، وبعد انقضاء عصر الاستعمار، فترتبط بالهيمنة السياسية والاقتصادية. والمهم أن هذه الشعارات، تنفعنا في فهم كيفية تعاطي قادة الغرب وساسته مع جمهورهم، فإذا كان الاستبداد مرفوض على صعيد الوعي الغربي في الداخل، فلا سبيل إلى ممارسته في الخارج إلا بتشويه الآخر (غير الغربي)، وذلك عبر نعته بشتى الأوصاف كــــ (التخلف، الهمجية، الخطر، وآخرها الإرهاب). ومثل هذه السياسة في التعامل مع الشعوب الشرقية وغيرها هي إحدى وسائل النخب السياسية في الغرب. ذلك أن هذه النخب المنتصرة لقيم (الحرية والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان)، بوصفها قيم عليا تشكل أساس الحضارة الغربية الحديثة، تطبق في الخارج سياسة نقيضة لما تؤيده في الداخل، وما تشويه الشرق واحتقار شعوبه إن هي إلا وسيلة لتبرير تلك السياسة في الخارج. وذلك هو ما فعله نابليون ومن بعده بلفور وصولاً إلى ساسة الولايات المتحدة الأمريكية اليوم.

لكن مع ذلك سيكون من التعسف وعدم الصواب، حصر التوظيف السياسي لحقوق الإنسان من طرف الغرب في السياسة وحدها، أي النظر إلى السياسة وآليات عملها إزاء العالم العربي وغيره من أمم العالم، بوصفها السبب الوحيد وراء هذه الازدواجية والتناقض في التعاطي مع ملف حقوق الإنسان، الذي تتخذ منه القوى الكبرى حجة وذريعة للتدخل في شؤون الدول الأخرى. والذي أريد قوله: ثمة معطى آخر تستند إليه السياسة في الغرب وتنطلق منه، وهو طبيعة المعرفة التي شكلها الباحثين والكتاب، ومراكز الدراسات، ووسائل الإعلام من صحف، وتلفزيون، وسينما حول تلك البلدان، ولا سيما دول منطقتنا.

ذلك أن هذه المعرفة هي التي خلقت وأسست لتمييز جذري بين الغرب وغير الغرب، أي أنتجت تقسيماً ثنائياً بين الغرب والشرق بوصفهما حضارتين متمايزتين ومختلفتين جوهرياً. وهذه المعرفة هي التي يعتمد ويستند إليها الساسة في الغرب، وهي التي تحرك وترسم سياساتهم، وهي في النهاية أيديولوجيا تفتقد إلى الموضوعية والحياد العلمي، أيديولوجيا تتكون من مزيج من تصورات دينية متعصبة، وأبحاث أكاديمية، وتصورات شعبية، وقصص وروايات، فضلاً عن مصالح اقتصادية وطموحات سياسية في الهيمنة الإمبريالية. وقد أسهمت في تشكيل صورة ترى في العرب والمسلمين العدو الأول للغرب، وهو ما يقتضي من الغرب إبقاء شعوب العالم العربي والإسلامي تحت هيمنته وسطوته دفعاً لكل خطر قد يأتي من هذه الشعوب. وهذا المعنى هو جوهر ما ذهب اليه الناقد الفلسطيني/ الامريكي إدوارد سعيد في دراسته الشهيرة (الاستشراق ـــــ 1978).

غير أن حديثي هذا لا يعني أن هذه الصورة الموجزة لكيفية تعاطي الغرب مع ملف حقوق الإنسان هي الصورة الوحيدة لهذا الغرب. فمن غير الأنصاف وغير الموضوعية أن نرى الغرب كل الغرب، وكأنه نسخة واحدة ثابتة لا تتغير، وإن بلدانه لا تختلف فيما بينها سياسياً وثقافياً. فضلاً عن ضرورة التذكير بأن هذا الغرب هو الذي نذهب إليه للتعلم وطلب المعرفة، وهو الذي نستهلك منتجاته، وهو الذي نقرأ أعمال كبار كتابه وباحثيه، وأخيراً هو الذي نلجأ إليه هرباً من أوطاننا، حين يطغى الاستبداد فيها وتتحول إلى جحيم، فننعم إلى حد كبير بالحرية والأمان، ونحظى بالحقوق التي طالما حلمنا، ولا زلنا، بغرسها في أوطاننا، من(الحق في الحياة وفي حرية التعبير والمساواة أمام القانون وعدم التمييز). أقول ذلك: لأن تقديم صورة واحدة عن الغرب، وكأنه شيطان وشر خالص ومطلق لا خير فيه، أمراً غير صحيح بالمرة، يوقعنا بما وقع فيه من تضليل وزيف، ممن نظروا في غير الغربي من الغربيين أنفسهم. كذلك تقديم صورة واحدة ووحيدة عن الغرب بوصفه جنة عدن، والفضاء الرحب للإنسانية في أبهى صورها، والمدافع الوحيد عن الحضارة والمدنية، وان ثقافته وقوانينه يجب أن تدرس وتعمم، ويؤخذ بها من باقي الأمم والشعوب كحل للأزمات والمشاكل التي تواجهها، أمر لا يخلو من تضليل وخداع. فللغرب، كما لغيره من الأمم، صُور عدة، ومن الخطأ اختزاله في صورة واحدة والعمل على تعميمها.

ويبقى أن التدخل الغربي في شؤون غيره من الأمم تحت مسمى حقوق الإنسان، وإن كان يرمي إلى تعميم النموذج الليبرالي الغربي، وخاصة الأمريكي، لحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية، فإنه ينبغي إن لا ينسينا جملة مشكلات وأزمات حقيقية تعانيها مجتمعاتنا. وأقصد بذلك أن النظر إلى التوظيف السياسي لهذه الحقوق من طرف الغرب، ينبغي أن لا نجعله حجة وسبب في رفض كل ما يأتي منه، بوصفه دخيلاً وغير أصيل في تراثنا أو ثقافتنا، أو غزواً ثقافياً يرمي تمزيق هويتنا الحضارية، كما نقراً ونسمع اليوم. ذلك أن معظم النظم الاستبدادية هي من تلجأ إلى هكذا ذرائع، وذلك من أجل رفض أية عملية إصلاح سياسي أو اقتصادي.

لذلك يقتضي الأمر، والحال هذه، مراجعة نقدية لعموم مؤسساتنا السياسية والاقتصادية والثقافية، وهو ما يمكننا من وضع يدنا على كل ما يعيق إصلاحها، ويدفعنا إلى النهوض والتقدم إلى الأمام، بدلاً من تحميل الغرب دوماً وأبداً أزماتنا ومشاكلنا. وإصلاح حقيقي إذا ما تحقق وفق ما يقتضيه واقعنا وحاجاته، واستجابة لمتطلبات سياقه التاريخي الراهن، بكل ما يحمله من أزمات ومشاكل، ومنها ملف حقوق الإنسان الذي لا زال مؤجلاً في مجتمعاتنا، رغم ترديدنا لهذا المصطلح بكثرة في التلفاز وفي الندوات والصحف، فإن ذلك يدفع خطر كل تدخل خارجي، ويفقد الآخرين أياً كانوا، دولاً كبرى، قوى إقليمية، حجج التدخل في شؤوننا. 

***

د. عدي حسن مزعل

كلية العلوم السياسية/ فرع الفكر السياسي

في المثقف اليوم