قضايا

النسب والتغير الديموغرافي واللقب

صالح قيس الزهيريمن الطبيعي أن يحصل التغيير الدِيموغرافي في البلدان والأمصار على مر العصور والدهور، فعند إنتشارالإسلامِ مثلا في تلك الفترة تلاشت حدود كثير من الدول وإنصهرت القوميات فيما بينها، وأصبح المُسلمون بغض النظرِعن ألوانهم وأجناسهم أخوة، ودولهم التي إعتنقت الإسلام دولة واحدة، نتيجة للفتوحات والإنفتاح الكبير الذي حصل على الشرقِ والغرب، ودخلت قوميات وأمم وعناصر ودماء وملل ونِحل وطوائف جديدة إلى أرض العرب، والعكسُ صحيح أيضاً، فقد سكن الكثير من العرب بلادا ًغير بلادِهم، وطاب لهم العيشُ فيها، وإستقروا بها، لأسباب كثيرة لاعد لها ولاحصر، لعل من أهمها الفتوحات والغزوات والتجارات أوبحثاً عن الماء والكلاء، والهجرات والأمثلة كثيرة على ذلك ومنها: (قصة إرتداد جبلة بن الأيهم آخر ملوك الغساسنة وذهابه إلى ملك الروم وتنصره ثم ندمه بعد ذلك) وكذلك قصة (تغريبة بني هلال).

أما على مستوى الطائفة ومسألة التشيع والتسنن، في العراق والدول الأخرى فليس كل أهل العراق من شيعة أميرالمؤمنين علي ع فهناك من تشيع للإمام علي ع بعد مجيئه، ولكن الجزء الأكبر لم يتشيع، فبعد إستشهاد الإمام علي ع ومجيء الإمام الحسن بن علي ع وتسلمه الخلافة من بعد أبيه، ثم إبرام الهُدنة بين الإمام الحسن ع وبين معاوية بن أبي سفيان، ثم نقض معاوية لبنود الهدنة وما أعقبها من حملة إعتقالات واسعة، وكان يقتل كل من تشيع على الظن والتهمة،

فالكوفة مثلا ً لم تكن الأغلبية فيها شيعية أيام إستشهاد الإمام الحسين ع عام 61 ه، وإنما هي أغلبية سنية، وكان العراق يومها الكوفةُ والبصرة، وقد هَجَر عُبيدالله بن زياد جماعة من العرب إلى بلاد خُراسان، لا لشيء إلا لتشيعهم للإمام علي بن إبن أبي طالب (ع)، ومن مُدن خراسان (مدينة طوس) التي تُسمى اليوم ب (مشهد) والذي دُفن فيها غريب طوس الإمام علي بن موسى الرضا (عليهم الصلاة والسلام) وذلك بعد نفيهِ من قبل الخليفة العباسي .. وكما قلنا من قبل فلم يكن المذهب بمنأً عن هذا التغير، ومن الأمثلة على ذلك مصر الفاطمية وإيران، إلا أن بداية علاقة إيران بالتشيع ما تزال محط جدلٍ تأريخي بين تحويل الصفويين أهل إيران للتشيع الإثني عشري بالسيف مطلع القرن السادس عشر الميلادي والحادي عشر الهجري، بعدما أبقت على مذهبها السُني الشافعي (٨٠٠ عام). ومقولة أخرى تشير إلى أن قِطاع كبير من الإيرانيين كانوا يعتنقون التشيع قبيل تأسيس الصفويين لدولتهم.

وقصة طلاق زوجة الشاه محمد خُدا بنده والمذاهب الأربعة مع العلامة الحلي القادم من العراق أشهر من أن تذكر.

ومن الأمثلة على التغير الديمغرافي أيضاً ما فعلتهُ الدول المُحتلة والمنتصرة في الحرب العالمية، وإستقطاعها لأقاليم وأجزاء مهمة من أمة العرب، وإعطائها لحلفائها كغنائم ومكاسب حرب، والأمثلة كثيرة على ذلك، وهذا ما أثبتهُ ويثبتهُ لنا اليوم العِلم الحديث المُسمى بالحِمض النووي ال(DNA)، فهذهِ الأسباب وغيرها هي سر قِلة نفوس أمة العرب، وإلا بماذا نُفسر قِلة عددهم وهم أمة قديمة قياساً بالأمم الأخرى. وقد ملئت أمة العرب السهل والجبل والواد قبل الإسلام، حتى قال الشاعر عمرو بن كُلثوم التغلبي الربيعي مُفتخرا ًبكثرة قومه: (ملأنا البَر حتى ضاق عنا ... وماء البحر نملؤهُ سفينا).

وإفتخر عنترة بن شداد ٍالعبسي بكثرة عديد بني عبس قائلا ً: (نحنُ الحصى عددا ًونحسبُ قومنا ... ورجالنا في الحرب غيرَ رجال ِ).

كما إفتخر جرير التميمي بكثرة تميم فقال فيهم: (إذا غضبت عليكَ بنو تميم ٍ ... حسبت الناس كلهم غضابا).

ما أردت قوله هو: أن البقاع والأصقاع، والبلدان والأوطان، في كل زمانٍ ومكان، لا تثبتُ على حالةٍ واحدة، فالتغير من سنن الطبيعة، فدول تضعف ودول تقوى، وقبائل تَهزم وأخرى تُهزم، وقبائل ترحل وأخرى تستوطن، وربما تمددت وتوسعت في نفوذها على حِساب غيرها .. وهذا أمر طبيعي .. لهذا كان العربي مصيباً عندما إنتسب للثابت ولم ينتسب للمتغير، كرد فعل عقلائي عندما رأى خطورة مايجري من حوله من الحروب والحوادث والخطوب، للحيلولة دون ضياع الأنساب والأعقاب، فالنسب ثابت والمكان متغير، وقد صوب ذلك الإسلام قال تعالى: (ادعوهم لابائهم هو أقسط عند الله).

فليس من العدلِ والإنصاف في شئ أن أحكم على عائلةٍ أو عشيرةٍ أو قبيلةٍ بأنها ليست عربية، لمُجردِ أنها جاءت من بلاد فارس أو تركيا مثلاً، أو مكانٍ آخر غير بلاد العرب، وأصدر حُكماً عليها قَبل أن أتفرس في الوجوه والقدود وأقرأ عنها وعن خؤلتها وعن غزواتها وفتوحها، والدول التي قدِمت منها، وحُدود تلك الدول قديما ً، ومن الأمثلة على ذلك (ديار بكر) التي هي اليوم في جنوب شرق تركيا، وقد أطلقت عليها هذهِ التسمية نسبة لإستيطان بني بكر بن وائل من ربيعة (الفرس) بن نزار، وقبل إستيطان بني بكر كانت تسمى (قهستان) .. وهذا كله يدعونا إلى البحث في الأنساب والأعقاب قراءة تأريخية وجغرافية مُستفيضة، ونقرأ أشعارنا وأشعار غيرنا، لأن الشِعر ديوانُ العرب، للتعرف على خفايا وأسرار هذا العِلم الشاسع والبحر الواسع، ونتأمل ونتأنا قبل أن نُصدر حُكمنا الذي هو قناعةٌ شخصية، ولا نلزمُ بهِ أحد.

***

الباحث الأكاديمي: صالح قيس الزهيري

 

في المثقف اليوم