قضايا

لا سبيل للتقدم إلا بتطوير الجامعات

محمود محمد عليما زلت أومن أكثر من ذي قبل بأنه لا سبيل للتقدم في حياة الإنسان إن لم يسبقه تقدم في عالم الأفكار، ويستوى في ذلك الكبار والصغار. متى تعلم الإنسان تغيرت أحواله. ومتى استمر في التعلم تطورت حياته، والتعليم لا ينتهى بالتخرج، ولكن التعليم هو أسلوب حياة، فإذا كان الأساس لدينا ضعيفا في المدارس، وتطلب إصلاحها الكثير من المال الذى لا يوجد لدينا، فمن الممكن ترتيب الأولويات بحيث نطور التعليم الجامعي أولا، ثم التعليم ما قبل الجامعي ثانيا.

ولقد فطنت الهند إلى هذه المعادلة، لذلك وضعت تركيزها على 10 إلى 15% من المميزين في المجتمع لكى يحصلوا على تعليم متقدم، ويعاونوا الحكومة فى تحمل التكلفة الرهيبة لكتلة السكان الكبيرة في الهند، وهذه التجربة لابد ان تكون ماثلة أمامنا ونحن نخطو خطوة إلى مجموعة البريكس، فالمفتاح هو تطوير الجامعات.

فالجامعات هي عقل وضمير كل أمة فيها يعد شبابها ليكونوا حفظة تاريخ الأمة وصناع مستقبلها، فالجامعة تختلف عن مؤسسات التعليم الأخرى في أنها ليست مجرد مؤسسة تعليمية بل تتخطى ذلك إلى أنها مؤسسة تعليمية تدريبية تثقيفية بحثية يلتقي فيها طلاب العلم في جميع فروعه ليعيشوا سنوات من عمرهم في مناخ يخلق حرية الفكر والتعبير والإبداع في جميع مناحي الحياة ليتعلم الطالب فن الحياة قبل أن ينهل مما يختاره من فروع العلم ويختلط مع جميع عناصر المجتمع من طبقات وأعمار وعقائد ومرجعيات مختلفة في بيئة آمنة يشرف عليها خبراء من أعضاء هيئة التدريس يساعدون الطلاب على إثراء هذه البيئة، واكتساب أكبر قدر من الخبرات قبل المعرفة وحمايتهم في مرحلة حساسة من العمر من الأفكار المتطرفة والهدامة في فترة حساسة من مراحل النضوج الفكري.

إن الجامعات تعد منارات العلم ومعقل الفكر وموئل المفكرين وذخيرة الوطن من العلماء في شتي مناحي الحياة، وقاطرة التقدم في المجتمع للوصول إلى بناء الشخصية المصرية والحفاظ على الهوية الوطنية، وتأصيل المنهج العملي في التفكير وتنمية المواهب ونشر القيم الحضارية والروحية، متوخية في ذلك المساهمة في رقي الفكر وتقدم العلم والاعتلاء بالقيم الإنسانية، وتزويد البلاد بالمتخصصين والفنيين والخبراء في جميع المجالات وإعداد الإنسان المزود بأصول المعرفة وطرائق البحث المتقدمة والقيم الرفيعة ليساهم في بناء وتدعيم المجتمع وصنع مستقبل الوطن وخدمة الإنسانية، وهم أهم ثروات المجتمع وأغلاها، فإن من أهم عملها واختصاصاتها مراعاة المستوي الرفيع للتربية الدينية والخُلقية والوطنية، وهو ما يفرض على أساتذة الجامعات التحلي بالأخلاق الكريمة والسلوك القويم بما يتفق مع التقاليد الجامعية العريقة لكونهم قدوة لطلابهم يعلمونهم القيم والأخلاق وينهلون من علمهم ما ينفعهم.

ولن أنسي أنه يوم قام العالم من حولنا في الثمانينيات بثورة في الأفكار ،وأصبح العالم ينمو ويتقدم بها وبالمعرفة التي يغرسها العلم والتعلم والتدريب وإجراء البحوث وتطويرها كانت سنوات الثمانينيات فاصلة في حياة دول كثيرة دخلت كلاعب في الاقتصاد العالمي مثل كوريا والصين وماليزيا والهند وسنغافورة وغيرها، وكان يمكن أن نكون كذلك في مصر لولا إهمالنا للتعليم القائم على المعرفة والأفكار الجديدة ، لقد كان التفريق الناجح بين الذرات والجزيئات بفضل العلم والبحث قد حوَل عوامل الإنتاج من الأرض ورأس المال إلى الأفراد والأفكار، الثمانينيات والتسعينيات وما أدراك ما حدث فيهما من تغييرات حقيقية وقعت من انطلاق موجة الاكتشاف والابتكار.

وأدركت حكومات الدول التي تخطت عتبات الفقر والجهل أن مصلحتها القوية أن تدعم إنتاج ونشر المعرفة وتوسيع قاعدة التعليم وحماية الملكية الفكرية، وإن كان القول المأثور المعرفة هي نفسها قوة, يعود إلى أوائل القرن السابع عشر إلا أنه صعد بقوة هائلة فى بلد مثل ألمانيا حينما أعلن المستشار الألماني جيرهارد شرودر إعلانا مثيرا للدهشة فى عام 2004 حيث أعلن أن البنك المركزي سوف يبيع جزءا كبيرا من قاعدته الذهبية ليستثمر هذه الأموال فى الجامعات الألمانية.

ثم سرعان ما حذا البنك المركزي في فرنسا حذوه ، أما في سنغافورة فقد جعلوا التعليم العالي دين الدولة كما كتب ديفيد وارش في كتابه المعرفة وثروة الأمم, والمترجم عن المركز القومي للترجمة ، وفى الصين والهند دربت الجامعات مهندسين وحاصلين على درجة الدكتوراه بمعدلات غير مسبوقة وطورت جامعاتهما إلى درجة المنافسة للحصول على الطلاب الدوليين وفى عام 2005 عين رئيس الوزراء الهندي لجنة للمعرفة لوضع أفكار الإصلاح الجذري.

ويمكن القول بحق إن الجيل الذى حقق َ الثورة في مجال الحاسب الآلي والاتصالات فى الولايات المتحدة الأمريكية استطاع أن يحصل على تعليم مدرسي جيد بموجب قانون تعليم الدفاع الوطني لعام 1985 الذى ضاعف حجم المساعدة الفيدرالية الممنوحة للتعليم خاصة العالي منه، وإن الدول الأفضل هي التي استطاعت أن تهتم بالتعليم اهتماما يفوق أي اهتمام آخر.

وعندما دخل علينا القرن الحادي والعشرون بعنفوانه وعولمته والسباق المحموم بين الدول والذى لم يسبق له مثيل منذ القرن التاسع عشر ودخلت إلى حلبة هذا السباق العلمي والمعرفي والتقدم دول شرق أوروبا والبرازيليون والروس والأستراليون والأتراك والهند والصين وغابت مصر والعرب وذَلَت أقدامنا بسبب تخلف التعليم ونظمه وغياب مبادرات التخطيط العلمي من النوع الذى وضع اليابان على طريق التصنيع في أواخر القرن التاسع عشر.

إننا نعيش في عصر اشبه بالخيال المعرفي يسير بسرعة البرق في التقدم التكنولوجي والعلمي في كافة التخصصات العلمية مما يحدث طفرة هائلة في تقدم الكثير من الشعوب والدول التي تسير بخطا ثابتة في البحث العلمي والتكنولوجي، لذلك فإن العلم وصناعة الوعي المعرفي وجهان لعملة واحدة لإعداد كوادر علمية وشبابية ناجحة في مختلف المجالات بكافة أنواعها مما يتطلب علي القائمين علي العملية التعليمية علي المشاركة الفعالة في صناعة الوعي وبناء العقول الصاعدة سواء أكان أساتذة الجامعات في كل من الجامعات الحكومية والخاصة والمعلمين في المدارس بمختلف مراحل التعليم وكذلك إمام المسجد والقسيس في الكنيسة وكل من هو شريك في إلقاء المعلومة والعملية التعليمية وتربية النشيء والأجيال وتوعية الناس بصفة عامة.

ومن جهة يجب علي أساتذة الجامعات المشاركة الفعالة والحث المستمر للطلاب والطالبات علي تجديد الوعي لديهم بالنسبة للمادة العلمية في تخصصهم أو للمعلومات العامة والثقافة تجاه الوطن وتخصيص جزء من محاضراتهم في كل محاضرة لذلك من أجل تخريج جيل كفء قادر علي استكمال مسيرة بناء التنمية الشاملة والمستدامة.

ولذلك يجب وضع منهجا ملزما على أساتذة الجامعات يساهم في زيادة وعيهم، والذى ينتقل بالضرورة إلى طلابهم، بالإضافة إلي ضرورة عقد ندوات الزامية الحضور على الطلاب للشخصيات العامة في الدولة، في كافة المجالات بشكل أكبر وأشمل من المنفذ حاليا، بحيث يرى الطلاب أمامهم نجوم الرياضة والسياسة والفن يتحدثون عن تجاربهم وكيفية الايمان بأحلام الشباب وتدعيم طموحهم.

وعلاوة علي ذلك فالجامعات المصرية تلعب دورا مهما وفعالا في تنمية الوعي السياسي لطلابها سواء من ناحية دور كل من عضو هيئة التدريس، المقررات الدراسية، الأنشطة الجامعية، الاتحادات الطلابية، المناخ الجامعي. فلا بد أن يكون المناخ الجامعي صحيا سليما مشعبا بالفهم والتقدير المتبادل وقيم العدالة والحرية والمساواة، فأنه بلا شك سيساعد على تنشئة الفرد سياسيا، فضلا عن نمو شخصيات متكاملة ومتزنة ومتوافقة نفسيا، وتبني عضو هيئة التدريس لفلسفة الحوار، وتقبل الاختلاف في الآراء بين الطلاب، وضرورة مراعاة الفروق الفردية بين الطلاب.

إصلاح الجامعات أسهل كبداية، وأسرع في تحقيق النتائج. والدليل على سبيل المثال هو الكليات العسكرية. إن خريجي المدارس كلها يتساوون لدى دخولهم إلى الكليات العسكرية. والأخيرة تصنع منهم رجالا على قدر عالٍ من الاحترام، ولديهم قدر كبير من العطاء والتفاني والانضباط. وإذا كانت الكليات العسكرية تستطيع عمل هذه النقلة النوعية الكبيرة، فهذا معناه، أن إصلاح الجامعات قد يؤتى بنتيجة إيجابية في وقت قصير لا يتعدى سنتين أو ثلاثة. كما يعنى إصلاح الجامعات أن تطوير التعليم ما قبل الجامعي سيخضع لشروط الجامعات المطورة ولابد أن يتقدم خطوات إلى الأمام.

والسؤال الذي يطرح نفسه: ماذا نجد الآن في معظم الكليات الموجودة بالجامعات المصرية؟ أي التعليم الذي يتم في الجامعات المصرية؟

إن التعليم بصورته الراسخة الآن لا يحقق الهدف منه فمعظم التخصصات ليس لها علاقة بسوق العمل، ويبدأ الطالب بعد البكالوريس رحلة النضال لاكتساب مهارات وتنمية ورفع كفاءة اللغات عنده كى يستطيع الالتحاق بوظيفة في أي تخصص وكأن مرحلة ما قبل الليسانس أو التخرج لم تكن.

وسوف يظل المنهج في التعليم هكذا إلا إذا تخلت الجامعات المصرية عن الكم، واهتمت بالكيف والنظر في دقة موضوعية المادة العلمية التي تُدرّس وأن تتضمن المادة العلمية قسطا وافرا من الثقافة يجعل أبناءنا خريجي أنصاف مثقفين وليسوا جهلاء.

ومن جهة أخرى فإن النظام الجامعي في مصر لا يدفع الجامعات الحكومية والخاصة إلى خوض غمار التطوير والتحديث إلا من رحم ربى! ومن ملامح ذلك الواقع الذى تعيشه الجامعات المصرية افتقاد مقومات جودة التعليم الحقيقية وانحصارها في استيفاءات ورقية لمطالب الهيئة القومية لضمان الجودة والاعتماد، الأمر الذى يفسر قلة عدد الكليات الجامعية التي تمكنت من الحصول على اعتماد الهيئة، واقتصار الاهتمام بقضية جودة التعليم على إنشاء مراكز ولجان للجودة دون تفعيل حقيقي وصرف مكافآت الجودة!

ومن المفترض أن تهتم الجامعات بملاحقة التطورات الحديثة فى التقنيات التعليمية، مما يجعل الجودة أمراً محتماً لا يستساغ معه ممارسة العمليات التعليمية بالأساليب التقليدية التى تفتقد عنصر الجودة بالقدر الكافي، ومع اشتداد الضغوط التنافسية وحدة الصراع بين الجامعات لاجتذاب أعضاء هيئات التدريس المتفوقين يجعل الاهتمام بالجودة من عوامل الجذب ذات التأثير الواضح، ومن أسف أن تقييد الجامعات المصرية الحكومية والخاصة على السواء بنظام مكتب التنسيق وترشيح الطلاب الحاصلين على الثانوية العامة لدخول الجامعات بحسب المجموع الحاصل عليه الطالب يحرم الجامعات المصرية من التنافس وتعميق نظم الجودة لاجتذاب الطلاب الأفضل، من جانب آخر فإن ارتباط عملية الاعتماد Accreditation للجامعات يحتم عليها الالتزام بنظم ومفاهيم إدارة الجودة وتطبيقاتها في جميع مجالات العمل التعليمي والإداري، وفى كثير من دول العالم المتقدم يتوقف حصولها على دعم مالي من الحكومة على درجة التزامها بمعايير الجودة.. تلك بعض علامات على طريق التميز الجامعي نرجو أن توفق جامعاتنا في الأخذ بها!!

ولكى تتمكن الجامعات المصرية من تعويض ما فاتها وتعيش عصر التميز والمنافسة والثورة المعرفية وتتعامل مع مفرداته واستيعاب تقنياته، فإن عليها أن تخوض عملية تغيير شامل وجذري يتعدى الشكل إلى المضمون تقوم على أساس تحديد الأهداف الاستراتيجية للتعليم الجامعي في مصر لتكون نقطة تنطلق منها برامج تطوير الجامعات المختلفة فى ضوء الرؤية الواضحة للتحولات الجذرية المحلية والإقليمية والعالمية. ونقترح إنشاء "الهيئة الوطنية للتعليم" وهى هيئة مستقلة يصدر بها قانون خاص وهى مستقلة عن الوزارات المسئولة عن شئون التعليم وتعتبر في حكم الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية التي نص عليها الدستور، تختص بوضع الرؤية العامة والفلسفة الوطنية للتعليم الجامعي وما قبل الجامعي والمبادئ الرئيسية التي توجه فعالياته، وأسس ومعايير قياس كفاءته وتقويم مخرجاته.

إن أساس تطوير الجامعات المصرية يتركز في مبدأ الاستقلال الأكاديمي والإداري للجامعات، وتفعيل دور الهيئة القومية لضمان الجودة والاعتماد، مع تطوير أسلوب التمويل للجامعات الحكومية إلى نظام للدعم لسد العجز بين إيراداتها ونفقاتها وتحديد مدى يتضاءل خلاله ذلك الدعم إلى أن ينتهى، وتوحيد المجلسين الأعلى للجامعات في مجلس واحد يضم رؤساء الجامعات الحكومية والخاصة والأهلية مع اختيار رئيسه بالتناوب من بينهم وتطوير قانون موحد للجامعات يحدد المبادئ والقواعد العامة مع ترك التفصيلات للوائح داخلية تضعها كل جامعة بذاتها في إطار القانون الموحد.

كما يجب مطالبة الجامعات كشرط لاعتمادها بضرورة تفعيل خطة للتطوير العلمي والتقني وإعادة صياغة المناهج والمقررات في كافة البرامج والمستويات التعليمية بما يعكس التطور العلمي والقيم والاحتياجات المجتمعية ويستثمر تقنيات التعليم الأكثر تطوراً، وبما ينمى القدرات الفكرية للطلاب. كذلك تطالب كل الجامعات بتفعيل خطط لتنمية القيادات الإدارية وتدريبهم على أسس وأساليب الإدارة التعليمية الحديثة.

وسيكون ضرورياً استكمال العناصر الغائبة في المنظومة الوطنية للتعليم الجامعي ومن أهمها تصميم خطة وطنية لتأكيد الجودة في الجامعات وجعل الالتزام بها أولوية متقدمة، ونشر مفاهيم الجودة في كافة المستويات والأصعدة في مجالات المنظومة الجامعية، وتطوير نظم الاعتماد والترخيص ومنح الشهادات الدالة على التأهيل.

إن الجامعات المصرية جميعها حكومية وخاصة وأهلية في موقف لا يرقى إلى التطورات الإقليمية والعالمية في نظم ومستويات الجامعات الحديثة الآخذة المتفوقة في مجالات التعليم والبحث العلمي والتنمية المعرفية وخدمات المجتمع، مما يجعل التطوير مسئولية مشتركة بين الدولة والمجتمع من أجل تقدم مصر.

***

أ.د محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل –جامعة أسيوط

.............

1- سهيلة نظمى: باعت غطاءها الذهبى لتستثمر فى الجامعات، الثلاثاء، 2018/08/07

2- معتمر أمين: إصلاح الجامعات أولوية أولى لتطوير التعليم، الثلاثاء،2017/09/12

3- أحمد شندى: أساتذة الجامعات وغياب الوعي، الاربعاء، 2021/11/03

4- عايدة نصيف: الجامعات المصرية بين الكم والكيف،الاحد،2017/03/12

5- على السلمى: طريق الجامعات المصرية إلى التميز والعالمية!، الثلاثاء،2016/09/20

6- على السلمى: تطوير الجامعات أساس لتقدم مصر!، الثلاثاء، 2016/09/13

 

في المثقف اليوم