قضايا

رابعة العدوية من الحرمان الى الوهم

الواقع هو الوجود المادي المقيد بالقوانين الطبيعية التي تترتب عليها آثار الفعل والانفعال. وهذه القوانين لا تتغير ولا تتبدل ولا تختلف ولا تتخلف وإلا إنهار نظام الطبيعة بالكامل. فالنار حارة وتحرق أمس واليوم وغدا ومن يدخلها يحترق.

فقولنا: لا تختلف أي لا تجد نارا باردة وقولنا: لا تتخلف اي لاتجد نارا بلا إحراق وإلا إنتفت ماهيتها وصارت شيئا آخر.

ومن أراد أن يكون واقعيا عليه أن يتقيد بقوانين الواقع وهذا القيد هو طريق فهم الحرية الواقعية حيث هي: وعي الضرورة أي فهم كيف يعمل القانون عندها تستطيع أن تستغل القانون لصالحك فتستمر بالبقاء والتطور ولا تتصادم معه بجهل فتنقرض-وكم من جماعة جاهلة أنقرضت غير مأسوف عليها- بالضرورة والضرورة هي الضد المنطقي للاختيار.

والخيال عالم الممكنات المحض كل شيء فيه جائز ولا يقيده قانون ولا يحده حد ولا يخضع لمنطق.

ولذلك تجدنا دائما نهرب من ضيق الواقع وصلابة قوانينه إلى مساحة الخيال الشاسعة نجد فيها عزائنا من واقع لا يرحم.

وقد أنتج الخيال أشياء إيجابية أراحت الإنسان من كد الواقع كما أنتج آلاف الروايات الجميلة الممتعة والشعر الرائع وفي النهاية أخذ الخيال العلمي حصته فأنتج ما لا يخطر على البال.

لكن الخطر يكمن في الإدمان على الخيال حتى يصير بديلا للواقع فيمثل شكلا مشتطا من السلوك قد يصل إلى حد السلوك المرضي والآلية التي تستبدل الواقع بالخيال تسمى بـ(التعويض) (Compensation). والتعويض في علم النفس هو: استراتيجية تتم بصورة واعية أو لاواعية يحاول من خلالها الشخص التغطية على ضعف أو رغبة أو إحساس بعدم الكفاءة أو العجز في أحد جوانب الحياة عن طريق الإشباع أو التفوق في جانب آخر كما يقول أدلر.

هذه مقدمة لمفهوم وجدت له مصداق وانا ابحث في كتاب شيخنا الشهيد حسين مروة (طاب ثراه) المعنون "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" كنت أريد أن استعيد بعض المعلومات من المجلد الثالث الذي يخص "تبلور الفلسفة-التصوف-إخوان الصفا" عندما وقع في طريقي حديثه عن رابعة العدوية وتحليله (للحب الإلهي) باعتباره اصطلاح صوفي متأخر ويشير شيخنا الشهيد "أنه نسب إلى عدد من زهاد البصرة في عصر رابعة العدوية أمثال: عامر بن عبد قيس وخليد بن عبيد الله العصري وعتبة الغلام وحبيب الفارسي ولكن رابعة اشتهرت به وارتبط باسمها أكثر مما ارتبط بهذه الأسماء لعناية خاصة بها من الصوفية نظرا لكونها امرأة كما يبدو" ص86.

ويستدرك شيخنا الشهيد بالقول: "هناك كثير من النقاط الغامضة في سيرة رابعة العدوية كيف عاشت حياتها الأولى كيف وقعت في الرق وكيف تحررت من رق ذاك السيد الفض شديد القسوة عليها وإلى أين اتجهت وماذا عملت بعد تحررها وما الظروف التي دفعتها إلى حياة الزهد والعزلة المطبقة والانقطاع إلى مناجاة (الحبيب الاعلى)؟

ولكن الصورة التي تتحصل لدينا من كل ما أمكننا الاطلاع عليه من أخبار رابعة، تنبئنا أن وراء "زهدها" المتطرف وانكفائها إلى ذاتها على النحو الأسطوري الذي يتفنن مؤرخو الصوفية وفريد العطار بالأخص، ووراء "العشق الإلهي" الذي ينسبونه إليها،تكمن قصة شخصية مأساوية عنيفة وهي- كما نستنتج- قصة مأساة مزدوجة لعب فيها الفقر الوحشي والحب المسحوق دورين متداخلين انتهيا برابعة إلى "الكهف" الداخلي العميق في ذاتها وخلق لها"العشق الإلهي" ما تجد به عوضا وهميا عن الحرمان المادي الذي افترس شبابها إننا نحس حين نقرأ بعض  الأقوال المنسوبة إليها  كيف تفور في ذاتها حمم المأساة حتى حين تكون في أقصى حالات وجدها الروحي بل ينبغي القول إن هذه الحالات ذاتها لسيت سوى تعبير عن أقصى درجة تبلغ إليها فورة المأساة في أعماقها حينا بعد حين.

ولنقرأ الآن -بتأمل بالغ- هذه الكلمات:

"حكي عن رابعة أنها كانت إذا صلت العشاء قامت على سطح لها وشدت عليها درعها وخمارها ثم قالت: " إلهي! انارت النجوم ونامت العيون وغلقت الملوك أبوابها وخلا كل حبيب بحبيبه وهذا مقامي بين يديك..." إن كل كلمة في هذه النجوى المرتعشة تشعرنا أنها تحتوي "إنسانا" يحترق ألما وظمأ إلى الحب البشري الطبيعي حب الإنسان للإنسان الآخر إنها اللحظات التي تتنبه فيها-لدى الإنسان المستفرد بين مخالب الوحشة والحرمان- كل أشواق الحياة. وفي يقيني إن هذه اللحظات بعينها هي التي كانت أساس المعاناة "الآدمية" لدى رابعة العدوية" ص88.

هنا نستطيع أن نقول أن رابعة المسكينة وقعت ضحية لمعاناة اجتماعية وحياة قاسية أجبرتها على الهروب من هذا  الواقع المؤلم لتكون ضحية وهم سلبها عقلها هذا الوهم هو اعتقادها بأن الله ذكر وعن طريق آلية التعويض كبتت رغبتها بالرجل الواقعي واشبعتها بواسطة كائن آخر مماثل للكائن الواقعي في الجنس ومخالف له بالكيفية حيث أرادت أن تعوض فقدان الرجل الحبيب بالإله الحبيب. وهذا يسمى التعويض والتعويض بالتبادل. اي أن هناك علاقة تكميلية بين الوعي واللاوعي تجد لها تأثيرا تعويضيا في الأنثوية والمذكرية ولو أدركت رابعة أن هذا الإله المنشود ليس ذكر لما أقدمت على هذا الخبال.

مسكينة عاشت محرومة وماتت مغفلة.

***

سليم جواد الفهد

 

في المثقف اليوم