قضايا

كارل بوبر.. النجار الذي حاول اصلاح افلاطون وهيغل وماركس

كان يشاهد عبر شاشة التلفزيون الآف الشباب وهم يخترقون جدار برلين، تمنى لو كان حاضرا في تلك اللحظة ليقف قبالة الجدار المنهار ويعلن ان عهد الماركسية انتهى كما توقع قبل اكثر من اربعة عقود.بعد ايام سيجد نفسه وسط جموع من الطلبة متلهفين لان يعرفوا بماذا يفكر فيلسوفهم الكبير وهو يتابع تطورات الاحداث في بلدان اوربا الشرقية. كان كارل بوبر قد طرح تصورا جديدا للديمقراطية في كتابه " المجتمع المفتوح واعدؤه " الصادر عام عام 1945 – ترجمه الى العربية السيد تفادي - حيث اقترح استبدال سؤال أفلاطون: من يجب أن يحكم؟ بسؤال آخر مختلف: "كيف نتصور شكل الدولة بحيث يحق لنا إقالة الحكومة من دون إراقة الدماء؟". فالسؤال المهم في المجتمع المفتوح لا يتعلق بطريقة تشكيل الحكومة وانما بامكانية اقالتها.

ما هو المجتمع المفتوح؟ يقول كارل بوبر انه المجتمع الذي يسمح للافراد ان يسألوا ويرفضوا أي سلطة سواء كانت متوارثة ام جاءت عبر عملية سياسية.فافراد المجتمع المفتوح يسعون إلى تاسيس تقاليد تقوم على الاخوة الانسانية والحرية، والمساواة، والتقييم العقلاني لمشكلات المجتمع، فهم يضعون السياسات المطروحة أياً كان نوعها تحت مجهر النقد، ومن حقهم أن يتخلون عنها عندما تصبح هذه السياسات عاجزة ولا تقدم ما كان يرجوه منها المواطن .. في المحاضرة التي القاها بعد تهديم جدار برلين اكد بوبر ان المستقبل مفتوح جدًا. إنَّه متوقّف علينا جميعا، أنا وأنت والآخرون، متوقف على ما نقوم به اليوم، وما سنقوم به غدا. إنَّ ما سنقوم به، وما سنفعله رهين بدوره بأفكارنا ورغباتنا وآمالنا ومخاوفنا؛ بعبارة أخرى، رهين بنظرتنا للعالم، وبالحكم الَّذي نصدره عما يتيحه لنا المستقبل من إمكانات..لكن بالمقابل فان كارل بوبر يؤكد ان انهيار النظم التي قامت على المشروع الماركسي لا يجب ان يدفعنا الى الاستسلام للايديولوجيات التي صارعتها.

لكي يحقق كارل بوبر رؤيته للمجتمع المفتوح فانه يجعل من كتابه اشبه بالفأس او المطرقة التي مهمتها تحطيم الايقونات الفكرية التي ظل المثقفين يرددون مقولاتها مثل الببغاوات، حيث يعتقد بوبر اننا لا يجب ان نوقر كثيرا ما يسمى بالرجال العظام بسبب المكانة التي احتلوها عبر التاريخ، فاننا ان ترددنا في نقد المفكرين الذين يشكلون جزءا من تراثنا الفكري، فنحن نساهم بالغاء هذا التراث باكمله.

عندما صدر كتاب " المجتمع المفتوح واعداؤه " كتب الفيلسوف الانكليزي برتراند رسل مقالا يشيد بقدرة بوبر في طرح نظرية جديدة للمجتمعات الديمقراطية قائلا:" هذا عمل على أعلى درجة من الأهمية، وينبغي أن يقرأ على نطاق واسع لما يتضمنه من نقد بارع لأعداء الديمقراطية، قديمهِم وحديثهم. فهجومه على أفلاطون غير تقليدي على أنه في رأيي مصيب تمامًا. أمَّا تحليله لهيغل فهو مميت. وأما ماركس فقد تم تمحيصه بنفس الدرجة من الحذق، وحُملَ قسطه المستحق من المسؤولية عما أصاب الإنسانية الحديثة من محن وكروب. إنه دفاع قوي وعميق عن الديمقراطية، جاء في أوانه، غاية في الإثارة وغاية في الإتقان ".

لاحظ كارل بوبر ان الفلسفة لم تعد مثلها مثل العلم، مجرد مسألة لايجاد دليل لاثبات صحة نظرية، لان الفيلسوف الحقيقي او العالم الحقيقي على حد تعبيره سيعمل على اثبات انه مخطئ،  محاولا العثور على الثغرات في اي نظرية موجودة.. حينها يمكن للمعرفة ان تستحق الاسم الذي أُطلق عليها. ويصر  بوبر على أن اليقين لا وجود له في السياسة مثلما هو لا وجود له في العلم، ومِن ثم فان فرضَ وجهة واحدة هو أسوأ صور المجتمع الحديث، فالنقد هو الطريق الرئيسي الذي يمكن فيه تنقيح السياسات الاجتماعية قبل تنفيذها، ويرى بوبر أن المجتمع الذي يسمح بالمعارضة والحوار النقدي هو " المجتمع المفتوح "، وهو الذي  سيكون أقدر على حل المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية عكس المجتمع المغلق الذي يتبنى فلسفة الرأي الواحد، وهو يرى ان الشغل الشاغل للمجتمع، هو في البحث الدائم عن أسوأ الشرور الاجتماعية ومحاولة إزالتها، الفقر والبؤس، تهديد الأمن، مساوئ التعليم والخدمة الطبية، والسعي لتحسين نصيب الناس من هذه الخدمات.

ولد كارل ريموند بوبر في الثامن والعشرين من تموز عام ١٩٠٢، في مدينة فينا، لأب كان استاذا في القانون ويعمل في المحاماة، مغرما بالكتب، وكانت مكتبة البيت تضم اكثر من 15000 الف كتاب، تنوعت بين الفلسفة والادب وعلم الاجتماع والسياسة، وسيرث كارل المكتبه فيما بعد ونجده يصف حياته بانها كانت "  مكتبية بامتياز "، اما الأم  فقد كانت عاشقة مولعة بالموسيقى، وقد نقلت هذا العشق والهيام الى ابنها الصغير الذي قرر في بداية حياته الدراسية  ان يتخصص في الموسيقى، وعندما لم يتمكن من ذلك اختار تاريخ الموسيقى كموضوع ثان الى جانب الفلسفة التي كانت تحظى باهتمامه الاول.. ونجده في صباه يعزف البيانو ويرافق والدته لحضور الى قاعات الموسيقى الكلاسيكية:" كانت الموسيقى قوة دافعه، ساعدتني كثيرا في تطوير افكاري ".

في العشرين من عمره ينضم الى رابطة الطلاب الاشتراكيين، ونجده في هذه الفتره شابا ماركسيا متحمسا لافكار ماركس وزميله انجلز، لكن فيما بعد سيكتشف ما هي غايات النشاطات السياسية. والتي ستقوده هذه المعرفة إلى رفض الشيوعية ثم أصبح فيما بعد ناقداً للماركسية، بعد ماركس سيجد ضالته مع  فرويد ونظرياته ويعمل تحت اشراف ألفرد أدلر مؤسس مدرسة علم النفس الفردي، لكن بعد سنوات نجد كارل بوبر يوجه نقدا لنظريات فرويد التي قال عنها انها لا يمكن إثباتها ولا هي بالتي يمكن دحضها.  لكن الحياة كانت تخبئ مفاجاة للشاب المغرم بالفلسفة والموسيقى والعلوم، فقد تعرض والده لنكسة مالية، جعلته يخسر كل ما يملك، مما اضطر الشاب كارل ابن العشرين عاما ان يعمل في مهن عديدة،عامل بناء، ونجار وموظف في حضانه اطفال ليتمكن من اكمال دراسته حيث حصل عام ١٩٢٨  على الدكتوراه  في لفلسفة، ليعمل بعدها مدرسا للرياضيات والفيزياء في المدارس الثانوية. من بين المهن التي ظلت تستهويه ويتذكرها باستمرار، عمله في ورشة للنجارة عام 1922 حيث يقول:" اعتقد انني تعلمت نظرية المعرفة من معلمي (الاسطى) اولبرت النجار الذي يحيط بكل شيء علما اكثر مما تعلمت من أي معلم اخر من اساتذتي، فلم يفعل أي واحد منهم اكثر مما فعله النجار اولبرت لكي يجعل مني تلميذا لسقراط.. فهو الذي جعلني ادرك انه لا خير في اي نوع من العلم او الحكمة. إن لم تجعل صاحبها يحس بمدى جهله وضآلة معرفته " – ترجمة احمد ابو زيد مجلة الهلال -.

في تلك السنوات تشكلت حلقة فينا وكان ابرز اعضائها موريتس شليك وفيليب فرانك ورودولف كارناب و فيكتور كرافت وأوتو نويرات،  وهانز هان، وهربرت فايجل واخرون، وقد اطلق على الجماعة ايضا اسم "جماعة الوضعية المنطقية "، وقد جعلت جماعة فينا غرضها الاساسي هو مبدأ التحقيق، وهو المبدا الذي يؤكد ان معنى القضية هو طريقة تحقيقها، ومن ثم فليس هناك معنى لأي عبارة إلا إذا كان بإمكان المرء من حيث المبدأ أن يتحقق منها، ولم لم يرق هذا المبدأ،، لكارل بوبر، فقام بمحاولة نفنيده، مستبدلا مبدأ التحقيق بمبدا اطلق عليه اسم  " قابلية التكذيب "  ولخص بوبر بعبارة بسيطة خلاصتها " ماذا تكون عليه حال الأشياء لو أنها كانت كاذبة "، وقد بين وجهة نظره هذه في كتابه الاول " منطق البحث العلمي " – ترجمه محمد البغدادي - الذي صدر عام 1934، واعتبر مؤرخوا الفلسفة ان كتاب بوبر هذا قد دق ناقوس نهاية جماعة فينا، لتنتقل الوضعية المنطقية الى انكلترا وتسود لمدة عقود. عام1937  يهاجر كارل بوبر الى نيوزيلندا هربا من النازية ليمارس مهنة  التدريس  في الجامعة، وكان قرار هتلر ضم  النمسا الى المانيا عام ١٩٣٨ حافزا لكارل بوبر لأن يوجه كتاباته نحو السياسة وعلم الاجتماع،  عام ١٩٤٦ ينتقل الى بريطانيا التي قبلته لاجئ سياسي ثم منحته الجنسية البريطانية،  وهناك سيُدرس المنطق ومناهج العلوم  بجامعة لندن وفي عام ١٩٦٥ يمنح   لقب  " سير"، وهو أعلى لقب تمنحه  بريطانيا لمواطنيها، وتمنحه بلاده النمسا " وسام الشرف الذهبي الأكبر"، العام 1966 يتقاعد  عن العمل بجامعة لندن عام ١٩٦٩،  لكنه يظل يمارس بنشاط مهامه كمفكر وفيلسوف ويصدر العديد من الكتب المهمة ويلقي المحاضرات في جامعات العالم الى ان  يتوفى  ١٩٩٤، وقد بلغ  الثانية  والتسعين من عمره.

يؤكد بوبر في نقده لافلاطون ان سقراط عندما اعتبر ان رجل الدولة ينبغي أن يكون حكيما،  اراد ان يقول ان الحكيم  هو الذي يعترف انه  لا يعرف شيئا. كما تشهد على ذلك مقولة سقراط الشهيرة "اعرف نفسك بنفسك" كما كان سقراط يؤكد دائما لطلبته " اعترف في قرارة نفسك أنَّك على قدر كبير من الجهل". ونجد بوبر يلوح بالمطرقة في وجه افلاطون متهما اياه بانه المسؤول عن زرع فكرة الشمولية في الفكر الغربي. حيث يؤكد بوبر ان افلاطون ذهب الى ان رجل الدولة فضلا عن كونه ملكا، يتعين عليه أن يكون فيلسوفا:" وقد تحمس الفلاسفة لدعوى أفلاطون هذه، فانعكس هذا سلبا على الاختلاف الكبير بين ما ينتظره سقراط من رجل الدولة وضاعت انتظاراته في متاهات الجدل الفلسفي".ويشدد بوبر الى ان افلاطون حاول ان يمنع الفكر الحر في جمهوريته، حيث شرع الرقابة على كل فرد. ويشير بوبر ان افلاطون رغم دعوته الى تقدير الحقيقة، إلا انه حاجج بقوة من اجل ات يبقى اعضاء الطبقات الدنيا في مكانتهم، فالذين يحكمون وفي دمائهم ذهبا هم الفلاسفة، والذين سيكونون من طبقة الجنود فهم من طبقة الفضة اما العمال ففي دمائهم حديدا ونحاسا:" إن جل زعماء الأحزاب، خاصة الأحزاب القمعية والأحزاب المعروفة، أفلاطونيون، هم كذلك، لأنهم من المنظور الأفلاطونيّ خيرة الأفراد، وأكثرهم خبرة، وأفضلهم حكمة، وبالتالي أجدرهم بتقلُّد مهام الحكم".

بعد الهجوم على افلاطون يرفع كارل بوبر مطرقته في وجه الفيلسوف الالماني هيغل، حيث يرى ان هيغل هو المصدر الاساسي لمفهوم التاريخانية، والتي يرى بوبر انها نزعة غير علمية لاعلانها ان بعض الاحداث حتمية، وهو في نظر بوبر رأي مغلوط كان هيغل يردده " ان لدى التاريخ مسار حتمي ". وفي المجتمع المفتوح واعداؤه يُسخف بوبر هذه الفكرة التي يعتبرها نوعا من انواع التنبؤ. حيث يرى ان التاريخانية لا تترك مجالا للقراءة النقدية. فهي تعلن ان الاشياء ستحدث على نحو واحد، وتزيل امكانية ان البشر يستطيعون تقرير مستقبلهم السياسي على ضوء التجربة.ظل بوبر يعتقد ان تاريخانية هيغل شجعت على نهوض الانظمة الشمولية في اوربا، معلنا ان الهيغلية نفاق فكري خصوصا في تشجيعها على النزعة القومية وكان معجبا بوصف شوبنهاور ليهيغل بانه " رجل دجال ".

بعدها يبدأ كارل بوبر بالطرق على الماركسية من خلال نقده لماركس، فهو ينتقد الحتمية التاريخية الماركسية التي حسب رأيه تسببت في المجازفة بحياة الآخرين من أجل عقيدة لا تقبل النقد، لكن بوبر من جانب آخر يحترم محاولات ماركس لإيجاد حلول عقلانية للمشاكل الاجتماعية، لكنه يرى في النهاية ان ماركس قدم اجوبة مغلوطة ساهمت في عذابات البشرية لانه اصر على نظام سياسي لا يحترم المجتمع المفتوح.

تعرض كارل بوبر للنقد ووصفه البعض  بانه دون كيشوت القرن العشرين، حيث كان مهتما بتقديم صور ساخرة عن افلاطون وهيغل وماركس عبر السخرية من فلسفاتهم، في طريقة تتوافق مع غاياته، وهو يرد على منتقديه قائلا:" "من دون تواضع أو خيلاء، أنا الأخير بين فلاسفة الأنوار: لست باني أنظمة، ولا نبياً، لكني رجل ارتبطت طوال حياتي بحل المشكلات. إنني أعتبر نفسي منتمياً إلى تقاليد كانط وفولتير، اللذين كانا يُخضعان للتفحص العقلي كل ما يتعلق بالفلسفة كما بالرياضات والعلوم الطبيعية".

في آخر محاضرة له قبل وفاته بعام واحد اكد بوبر ان العالم  اذا اراد الاقتراب من السلم، عليه التَّخلي عن الأيديولوجيات الَّتي تهدد فعلا السلم، وعلينا ايضا البحث عن الحقيقة بكل تواضع:" لقد حان الوقت لكي نتوقَف عن تقمص دور الأنبياء بأن نعمل على تغيير أنفسنا ".

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم