قضايا

في مواجهة النزعة الطائفية.. شريعتي أنموذجا

من شأنِ الأديان الكبرى أنْ تتنافسَ فيما بينها بإظهار مكامن القوّة فيها، بإزاء إظهار مكامن الضعف في الأديان الأخرى، والأمر ينطبق نفسه على المذاهب الكبرى داخل الدين الواحد، ومهمة إظهار مكامن القوّة ليس من الهيّن القيام بها، بل أكثر من ذلك، حين تخضع لوجهات نظر مختلفة من داخل الدين أو المذهب، فترى كل جماعة أنَّ إظهار تلك الممارسات أو السلوكيات وتأصيل انتمائها إلى أدبيات ذلك الدين، أو المذهب، هي الأصل وما عداها ليس إلا فرعًا هامشيًّا له كثير من التخريجات التي من شأنها إبعاده عن دائرة الضوء، تلك الدائرة التي يتلقى من خلالها الآخر المختلف صورة ذلك الدين أو المذهب، فمثلا حين رسم المستشرقون في مدوناتهم صورةً لتعامل المسلمين ممن التقوا بهم في الشرق، لأجل أنْ تكون تلك السلوكيات هويةً ثابتةً لهم، حين يقرأها أبناء القارة الأوربية، بغضّ النظر هل هي تتطابق تلك السلوكيات مع أدبيات الشريعة التي يؤمنوا بها، أم لا تتطابق..؟ وهنا يأتي دور المفكّرين والعلماء، ممّن يحرص على تشذيب تلك السلوكيات والممارسات وبيان الأصيل منها إلى الدين، عن الدخيل منها. ولعلّ المفكر الراحل الدكتور علي شريعتي أحد هؤلاء الذين حرصوا على فرز ما يصدر عن هذه الجماعة أو تلك وبيان أصالة انتمائه إلى الدين أو المذهب، من الدخيل الذي تماهى في إهاب المذهب وصار جزءًا لا ينفصل عنه، بفعل التراكم التاريخي لمدوّنات خضعت لما شاء من رغبات وأهواء بعضها سياسي والآخر كان بفعل الظرف الاجتماعي الذي وقع على هذه الجماعة بسبب حيف الجماعة الأخرى وظلمها، بما أوحى لمن يطالع تلك المدوّنات من دون درايةٍ اجتماعية أنه يستحيل أنْ تكون مثل هذه السلوكيات إلا استلهامًا من مصادرها الشرعية من أحاديث وأخبار وما يتصل بها.

ينطلق شريعتي في قراءة مشهد السباب والتراشق بالألفاظ النابية بين أتباع المذاهب الإسلامية، ولاسيما بين أتباع (التشيع الصفوي) في قبال (التسنن الأموي) من كونه مشهدًا دخيلاً أبعد ما يكون عن نهج القرآن الكريم الذي يُعدُّ المصدر الأساس للمسلم فيما يلتزمه من أخلاق ينبغي أنْ يتحلى بها في حواره مع المختلف معه في الدين أو المذهب أو الفكرة بصورة عامة، أما رمي المختلف بالمعتقد أو الفكرة بما حرّم الله من بُهتان، أو أوصاف فيها إهانة أو ازدراء أو تقليل من مقامه بين أتباعه، فهذا قطعًا لا جدال فيه من حيث الإدانة في القرآن والسنة النبوية، ولأجل ذلك، كان لشريعتي أنْ يفرز بين من التزم حدود الأدب في الحوار حين الاختلاف، وبين من لم يلتزم، فكان التشيع العلوي وقرينه التسنن المحمّدي وجهين ناصعين تمثّل فيهما آداب الإسلام من احترام بين المختلفين، أما الطائفة الثانية فهم من أطلق عليهم وصف: التشيع الصفوي والتسنن الأموي، وكلاهما يصدران عن نزعات جاهلية أبعد ما تكون عمّا يريده القرآن الكريم والسنّة الصحيحة المطابقة لمنطق القرآن في عدم المساس بكل ما من شأنه استفزاز المختلف في الفكر أو العقيدة. وفي هذا الصدد، يقول شريعتي: (أما السب والشتم والتعرض للآخرين وإلصاق تهم الشرك والكفر وخباثة المولد بصحابة النبي، فهي من مميزات منطق التشيُّع الصفوي شأنه فـي ذلك شأن قرينه التسنن الأموي. إن منطق التشيع العلوي واضح جدا بشأن الصحابة وأهل السنّة والأمثلة على ذلك كثيرة [...]) [التشيع العلوي والتشيع الصفوي]

يستوقف شريعتي أسلوب (السباب والشتيمة) الذي يمثّل السمة الغالبة لطريقة تداول أتباع المذهب الشيعي بنسخته الصفوية المرفوضة لديه – وهو الأسلوب نفسه عند أتباع المذهب السني بنسخته الأموية المرفوضة لديه أيضًا*- ويجد أنَّ بعض النصوص التي تصدر عن من يدّعون بانتمائهم إليها، تصرِّح بخلاف السيرة المتّبعة عندهم، بما يكشف زيف اتّباعهم فيما يدّعونه من انتماء، فيعمدون إلى تأويل النصوص في غير معناه الصريح، وهذا ما أشّره شريعتي في انتقاده لمترجم كتاب (نهج البلاغة) – وهي مختارات جمعها الشريف الرضي من كلام الإمام علي بن أبي طالب- إلى الفارسية، وذلك في وقوفه  (مقولة علي لأصحابه: "إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين" ووجد أنها لا تنسجم مع التوجه العام لدى علماء التشيّع الصفوي لجأ كالعادة إلى التأويل وهي الحرفة التي تتجلى فيها المهارة الفائقة للتشيّع الصفوي في قلب معاني التشيّع العلوي وتجريدها من مضمونها الحقيقي، فقال فضيلة المترجم: (ليس المراد من هذه العبارة هو عدم جواز شتم المخالف واللعن عليه بل على العكس هذا واجبٌ وتكليف، غير أنّ المنع جاء هنا من أمير المؤمنين بخصوص سبّ بني أمية وذلك خشية أنْ يسبّوا بالمقابل أمير المؤمنين فيكون الساب لبني أمية منتسبًا في سبّ أمير المؤمنين (ع) وهو أمرٌ غير جائز طبعًا) المؤلف: لاحظوا هنا كيف حوّل المترجم كلام أمير المؤمنين إلى قاعدة مقلوبة، ومفادها أنه لا يجوز السب إلا إذا كان الطرف المقابل مؤدّبًا لا يردّ بنفس الطريقة)[1]، وقلب الحقائق وسيلة متّبعة عند علماء كلا المذهبين بنسختيهما المشوّهة – التشيع العلوي والتسنن الأموي- لأجل أنْ يظهروا أمام أتباعهم أنّهم على خُطى تلك الرموز النقية، بل أكثر من ذلك حين نجد الروايات في كتب الفريقين، تنسجم وتلك التوجّهات العصبية، من إثارة الكراهية والشحناء بين أتباع المذاهب لبعضهم على الآخر، فالغرض الحقيقي بحسب تقديره لهم (هو خلق الأحقاد بين المسلمين واستغفال الأذهان بمسائل هامشية وقضايا مفتعلة وكل ما من شأنه الإساءة إلى حقيقة الولاية والتشيع العلوي والمنهج الحسيني وتشويه صورة الحوزة العلمية الشيعية الكبرى في أذهان الجيل المثقف من أصحاب العقول النيّرة المتفتّحة على الواقع المعاصر)[2]، فيذكر شريعتي ما كتبه السيد م. ع* – أحد ممثّلي التشيّع الصفوي ممّن كتب وآخرون بيانه التحريضي على حسينية الإرشاد- رواية عن الإمام الصادق (ع) تُفضي إلى اختلاط نسب الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وفيها من الإساءة بالطعن في نسبه بطريقة موغلة في الحُرمة والقذارة أتحاشى هنا من ذكرها[3]، أتى بها في هامش ردّه على ما ذكره شريعتي في أحد كتبه عن قراءته لأحداث السقيفة بقوله: (ومن هنا، فإن مما لا ريب فيه أنّ الناس بعد النبيّ سيحصل لديهم (إجماع) واتفاق على كبار رجال القوم وأشرافهم، أبو بكر بن أبي قحافة شيخ قريش وشريف بني تميم، وعمر بن الخطّاب شريف بني عديّ... الخ)[4]، فقد أثارته كلمة شريعتي واصفًا عمر بن الخطاب بالشريف، فكان له أنْ يورد هذه الرواية المبتذلة، والمعبّرة بجلاء عن عقلية صفوية لا علاقة لها بأصل الدين والأدب الذي يحثّ القرآن على إلزام المؤمنين به، ولكن منطق العصبية الذي يتحلّى به ممثلو التشيع الصفوي – ومثلهم أيضًا في الحكم ممثلو التسنن الأموي- يتمسّكون بهكذا روايات لا أصل لها، بمقتضى ما يرفضه الإنسان السليم في تفكيره من إلصاق هكذا نعوت بمن يُخالفه، فكيف بمن كانوا مشعلاً في الهداية والعلم والفضيلة والصلاح وهم أئمة البيت الذين تخرّج أرباب المذاهب الإسلامية على أياديهم لاسيّما الإمام الصادق الذي اعترف بفضله العلمي القاصي والداني، ولو كان للإمام – على نحو الفرض- مثل ذلك المسلك اللاأخلاقي في الطعن بأعراض الخلفاء الذين يدين لهم بالاحترام تلامذته، لانفضّوا من حوله، ولأشاعوا عنه مثل هكذا أخبار من شأنها أنْ تدقّ إسفين الفرقة بينه وبين رسالته الهادفة لنشر العلم في أمة جده رسول الله. وكان الشاهد الذي أتى به شريعتي من هامش السيد العسكري؛ لأجل (توضيح طبيعة المنطق العلمي والديني الذي يتعاطى به رجالات التشيع الصفوي)[5]. ويقينًا أنّه ساق وصفه لذلك المنطق على نحو السخرية والتهكم، بدليل قوله بسطر من هذا الكلام: (وأكتفي بنقل هذا المقدار من الهوامش "العلمية" لهذه الشخصية العُلمائية الصفوية) إذ من الواضح أنّ مثل هذا المنطق الأحادي منحرفٌ عن الدين بوصفه مثيرًا للنبي الباطني المتمثّل بالعقل، ومقوّمًا لسلوك الإنسان وباعثًا له على كريم الأخلاق والسجايا، كذلك المنطق العلمي يتعارض والنتائج التي يُصادرها المنطق الأحادي، فالمنطق العلمي يأخذ بالنسبية ولا يُعمّم – فيما لو أتيح له الوقوف على قضية خلافية- بين سلوك الشخص المختلف فيه في تلك القضية، وبين أصله أكان طاهر النسبة أم غير طاهر، أما المنطق الأحادي، الذي يصدر عنه كلُّ المتعصبين فيما يؤمنون به، فيدفع أصحابه إلى أنْ يُطلقوا أحكامهم التعميمية جزافًا سواء أكانت مدحًا لصالح ذلك الشخص المستهدف من حكمهم أم كانت ذمًا بحقه، وهذه المطابقة بين سلوك الشخص وأصله لا وجود لها إلا في عُرف ذلك المنطق، فكم من طاهرين في مولدهم، ولكن نجد في سلوكهم ما يعكّر صفو ذلك الطهر، من أعمال مشينة أبعد ما تكون عن الذوق السليم، والعكس صحيح أيضًا.

وبصدد بيان مدى الانفتاح الذي يتحلّى به ممثّلو التشيع العلوي، جعل شريعتي يقف عند نماذج من أقوال لعلماء كبار لهم حضورهم العلمي الواسع في الساحة الإسلامية، يؤكّد من خلال ذلك بون المسافة الفكرية بينهم وبين ممثلي التشيع الصفوي، ومن تلك الشواهد[6]:

- (إن الاختلاف بين الشيعة والسنة هو كالاختلاف بين مجتهدين من مذهب واحد حول استنباط حكم) [السيد شرف الدين الموسوي]

- (ليس المراد من التقريب بين المذاهب الإسلامية إزالة أصل الخلاف، بل أقصى المراد وجلّ الغرض هو إزالة أنْ يكون هذا الخلاف سببًا للعداء والبغضاء [...] ولعلّ قائلاً يقول: إنّ سبب العداء بين الطائفتين أنّ الشيعة ترى جواز المس من كرامة الخلفاء أو الطعن فيهم... فليس هذا من رأي جميع الشيعة، وإنما هو رأيٌ فرديٌّ من بعضهم، وربما لا يُوافق عليه الأكثر، كيف وفي أخبار أئمة الشيعة النهي عن ذلك، فلا يصحّ معاداة الشيعة أجمع لإساءة بعض المتطرفين منهم) [الشيخ كاشف الغطاء]

- (يجب على كل شيعي إمامي أنْ يعتقد بإمامة الاثني عشر إمامًا، ومن ترك التديّن بإمامتهم عالمًا كان أم جاهلاً، واعتقد بالأصول الثلاثة – التوحيد والنبوة والمعاد- فهو عند الشيعة مسلم غير شيعي، له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم [...] إن الشيعة تعتقد أن كتب الحديث الموجودة في مكتباتهم – ومنها الكافي والاستبصار والتهذيب ومن لا يحضره الفقيه- فيها الصحيح والضعيف، وأنّ كتب الفقه التي ألّفها علماؤهم فيها الخطأ والصواب، فليس عندهم كتابٌ يؤمنون بأنّ كلّ ما فيها حقٌّ وصواب من أوله إلى آخره غير القرآن الكريم.. إنّ أهل السنة يكنّون احترامًا فائقًا لأهل البيت ويروون في مناقبهم وفضائلهم، وفي المقابل فإنّ الشيعة ليسوا من الغلاة وإنّ رأيهم في الصحابة هو رأي أهل البيت [...] وعليه فإنّ جميع الفرق الإسلامية أمةٌ واحدة وما دام الاختلاف الفقهي بينهم ناشئًا عن الاجتهاد فالجميع معذورون ومأجورون)  [الشيخ محمد جواد مغنية].

وفي السياق نفسه، يؤكد شريعتي أنّ (الاختلاف بين التشيع العلوي والتسنن المحمدي ليس أكثر من الاختلاف بين عالمين وفقيهين من مذهبٍ واحدٍ حول مسألة علمية. يجب أن يعلم المسلمون أن جميع مراجعنا العظام صرّحوا رسميًّا بأن القرآن ليس فيه حتى كلمة واحدة محذوفة او مضافة، وكل من يعتقد غير ذلك فهو ضال ومنحرف، وما هذه الأقاويل إلا من صنع رجالات التشيع الصفوي ليقدموا بذلك ذرائع وحججا للطرف الثاني في اللعبة وهم رجالات التسنن الأموي ليقمعوا الشيعة بمثل هذه الاتهامات والافتراءات ويشوهوا سمعة الشيعة في عالم اليوم، وينسفوا كل الخدمات والتضحيات الجسام التي قدمها الشيعة على الصعيد الفكري والعملي والجهادي لخدمة الإسلام وأحكامه السمحاء، ويشوشوا على الذكر الحسن الذي يتمتع به) ولم يكتف شريعتي بما قرره المصلحون من علماء مختلف مذاهب الإسلام، بل زاد عليهم بأنْ نظر إلى كلا الطرفين بوصفهما عميلاً يؤدّي خدمة لكل من لا يروق له أنْ يظهر هذا الدين بمظهر القوة، تتمثّل بإيجاد ثغرات في داخل هذا الدين، تدفع أبناءه إلى الاقتتال فيما بينهم وجرِّهم إلى ما لا يُحمد عقباه من فتنٍ داخلية تقوّض الكيان الإسلامي بعامّة وتُسهِّل المهمّة لمن يريد تقويض أسس هذا الدين وإظهاره عبر هذه التمثيلات، بمظهر المتخلِّف البعيد عن هموم العصر وقضايا العالم المصيرية.

ويستشهد كذلك بما ذكره الشيخ محمود شلتوت أحد شيوخ الجامع الأزهر، ممّن يراهم شريعتي أحد ممثّلي التسنن المحمّدي المنفتح، الذي أصدر فتوىً بجواز العمل بالمذهب الجعفري[7] في دلالة على حسن قبول الآخر، وجعله أحد مذاهب الإسلام لا غير، ويُبدي شريعتي إعجابه بالشيخ شلتوت، وذلك بما نقله من كلامٍ له أخذ ما يقارب الثمان صفحات من كتابه[8]، بما يريد إثباته أنَّ روح الإنصاف عند الآخر المُخالف – ونخصّ به الآخر المُخالف عن دليل لا عن تقليدٍ فج أو ممّن يمثّل التسنن بوجهه الأموي المعروف بتوجّهاته البعيدة عن روح الإسلام*- موجودة وليست هي حكرًا عند بعض الشيعة، وهو في نقله كلام الشيخ شلتوت، إنما يعزّز ظاهرة التقارب بين المذاهب الإسلامية، ويبيّن أن الآخر أيضًا ممّن تعتمل في نفسه هموم الفُرقة والتباعد التي انسجمت ومصالح الاستعمار في بقاء المسلمين طرائق قددًا، فالتقريب – بحسب ما يراه شلتوت- (هي دعوة التوحيد والوحدة، وهي دعوة الإسلام والسلام. وإنّ أسلوبها الذي تنتهجه لهو الأسلوب الحكيم الذي أمر الله به رسوله الكريم [...] وإذا اتّجهت العقول إلى البحث في إخلاص وتضامن، لا همّ لها إلا ابتغاء الحق، لمعت أمامها الأضواء، وسرت إليها أشعة الهداية الربّانية)[9]، وهذا المنطق الذي يعبّر عن الرسالة الحقيقية للدين السماوي، وذلك في نبذهم التعصّب الذميم، وتمسّكهم بالمنهج العلمي الذي يوصلهم إلى أهداف متقاربة، ويكشف لهم عمّا كانوا يجهلونه من أمور تقف حائلاً دون تلك الألفة المتحققة في التقريب بين المسلمين، وهو يودّ بعد ذلك أنْ يعي المسلمون كيف كان الأوائل من أئمة المذاهب، في نقاشاتهم التي تمثّل (فكرة الحرية المذهبية الصحيحة المستقيمة على نهج الإسلام، والتي كان عليها الأئمة الأعلام في تاريخنا الفقهي، أولئك الذين كانوا يترفعون عن العصبية الضيقة، ويربئون بدين الله وشريعته عن الجمود والخمول، فلا يزعم أحدهم أنه أتى بالحق الذي لا مِرية فيه، وأنّ على سائر الناس أنْ يتّبعوه، ولكن يقول كما كان يقول الأئمة الأولون: "هذا مذهبي وما وصل إليه جهدي وعلمي، ولستُ أبيح لأحد تقليدي واتّباعي دون أنْ ينظر ويعلم من أين قلت، فإن الدليل إذا استقام فهو عمدتي والحديث إذا صحّ فهو مذهبي")[10]. وعبر هذه الأقوال التي نقلها شريعتي في كتابه المهم (التشيع العلوي والتشيع الصفوي) أراد من خلالها فرز ما التصقَ بالمذهبين الكبيرين الذين يمثّلان الإسلام في هذا العصر عبر سلوكيات أتباعهما، من أدران لا علاقة لها بما سنّه القرآن الكريم ورسوله الخاتم وآل بيته الطاهرين من إرشادات وتوجيهات أخلاقية وقيم تربوية عالية من شأنها أن تكون مثار احترام الآخرين وتقديرهم، ممّن هم خارج إطار هذا الدين، وسببًا وجيهًا يدعوهم للانتماء إليه.

* في تقديري الشخصي، أنّ ظاهرة السباب واللعن عند العامة من أتباع التشيع الصفوي – وهو الأكثر حضورًا في الساحة الإسلامية من سواه، أعني التشيع العلوي- ربما كان سببه أنه ردة فعلٍ على ما تعرّض له رموز المذهب الشيعي – وأعني به علي بن أبي طالب- من سبابٍ ولعن وشتم في زمن معاوية بن أبي سفيان واستمرّ في زمن الخلفاء بعده، حتى منعه الخليفة عمر بن عبد العزيز. وقد ذكرت المصادر من الشواهد الكثيرة على سُنة السباب واللعن، ما نكتفي بذكر شاهدين منها:

حَدَّثَنَا ابْنُ الأَصْبَهَانِيِّ، قَالَ: أنا شَرِيكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عُمَر بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنِ، عَنْ عَلِيّ بْنِ حُسَيْن؛ قَالَ: قَالَ لِي مَرْوَان بْنُ الْحَكَمِ: مَا كَانَ فِي الْقَوْم أحدٌ أَدْفَعَ عَنْ صَاحِبِنَا؛ - يَعْنِي: عُثْمَان بْنَ عَفَّان - مِنْ صَاحِبِكْمُ - يَعْنِي: عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، قُلْتُ: فَمَا بَالُكُمْ تَسُبُّوهُ عَلَى الْمَنَابِرِ؟ قَالَ: لا يَسْتَقِيمُ الأَمْرُ إِلاَّ بِذَاكَ. تاريخ ابن أبي خيثمة: 2/ 917 .

الآخر: عَنْ أَبِي عَمَّارٍ، قَالَ: إِنِّي لَجَالِسٌ عِنْدَ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ إِذْ ذَكَرُوا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَشَتَمُوهُ؛ فَلَمَّا قَامُوا، قَالَ: اجْلِسْ حَتَّى أُخْبِرُكَ عَنْ هَذَا الَّذِي شَتَمُوا، إِنِّي عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ جَاءَهُ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ [ص:104] وَحَسَنٌ وَحُسَيْنٌ، فَأَلْقَى عَلَيْهِمْ كِسَاءً لَهُ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي، اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا؟ قَالَ: «وَأَنْتَ» ؛ قَالَ: فَوَاللَّهِ إِنَّهَا لَأَوْثَقُ عَمَلِي عِنْدِي ". تفسير الطبري: 20/ 264 .

***

ا. د. وسام حسين العبيدي

..................

[1] التشيع العلوي والتشيع الصفوي: 78 .

[2] التشيع العلوي والتشيع الصفوي: 104 . يُلاحظ الباحث مقدار التبجيل الذي يصبّه شريعتي على المؤسسة الدينية، ودوافعه لا تقتصر على ما يُكنّه للرموز المُشرقة التي تنتمي إلى تلك المؤسسة فحسب، بل لأجل غاية أخرى تتمثل بإجراء احترازي نفسي يقوم به شريعتي لتضييع الفرصة لكل من يتصيّد في خطابه كلمات الاشمئزاز أو الاستهانة بالمذهب أو المؤسسة الدينية التي تمثل واجهة المذهب، فالناقمون عليه تنفعهم مثل هكذا التقاطات في وطيس حملة التشنيع عليه وتسقيط صورته أمام مريديه وإظهاره بصورة المناوئ الحاقد على المذهب بقضِّه وقضيضه..!

* لم يكتف السيد م. ع  بالمناوشات التي كانت بينه وبين المرحوم الدكتور علي شريعتي في حياته، بل استمرت حتى بعد وفاته الغامضة التي يرى كثير من الباحثين أنها بتدبير السافاك – وهم رجال المخابرات الإيرانية في عهد الشاه- في لندن، فقد أقام السيد موسى الصدر عليه حفلاً تأبينيًا بعد وفاته، الأمر الذي أثار العسكري فأرسل رسالة إلى نائب الصدر الشيخ محمد مهدي شمس الدين، قال له فيها ممتعضًا: («فضيلة الحجّة الشيخ محمد مهدي شمس الدّين المبجّل، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: توالت عليّ اعتراضات… وشكاوى واستفسار كتباً وشفاهاً ومخابرةً عن [احتفاء] السيّد موسى الصدر في موت علي شريعتي الكافر بخاتميّة الرسل والمحرّف لشريعته، وإنّه أخيراً أقام باسمه واسم مجلسه مهرجاناً تأبينيّاً كبيراً له ـ ومن قبل أيّام أقام الفاتحة على روح آخرين ـ وليته كان قد كرّم أكبر فاسق على وجه الأرض ولم يكرّم أكبر عدوٍّ للدّين وأهله؛ فإنّ عمله هذا تأييد منه لتحريف الإسلام وتوسعة نطاق الإضلال ولست أدري ماذا أعدّ للجواب يوم القيامة، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون… م. ع… الثلاثاء الثامن عشر من رمضان 1397هـ ق».) المصدر: http://ajabaat.com/

[3] ينظر: التشيع العلوي والتشيع الصفوي: 102 .

[4] المصدر نفسه: 93 . نقلا من كتابه (محمد خاتم الأنبياء) ص: 339 .

[5] المصدر نفسه: 102 .

[6] التشيع العلوي والتشيع الصفوي: 105 – 106 .

[7] وأصل الفتوى كانت إجابة على سؤال: (إن بعض الناس يرى أنه يجب علي المسلم لكي تقع عباداته ومعاملاته علي وجه صحيح أن يقلد أحد المذاهب الأربعة المعروفة وليس من بينها مذهب الشيعة الإمامية ولا الشيعة الزيدية، فهل توافقون فضيلتکم علي هذا الرآي علي إطلاقه فتمنعون تقليد مذهب الشيعة الإمامية الإثنا عشرية مثلاً..؟ الجواب: 1- إن الإسلام لا يوجب علي أحد من أتباعه اتباع مذهب معين بل نقول: إن لکل مسلم الحق في أن يقلد بادئ ذي بدء أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً والمدونة أحکامها في کتبها الخاصة، ولمن قلد مذهباً من هذه المذاهب أن ينتقل الي غيره أي مذهب کان ولا حرج عليه في شيء من ذلك-2- إن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الإمامية الإثنى عشرية، مذهب يجوز التعبد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنة، فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخلصوا من العصبية بغير حق لمذاهب معينة، فما كان دين الله وما كانت شريعته بتابعة لمذهب أو مقصورة على مذهب، فالكل مجتهدون مقبولون عند الله تعالى، يجوز لمن ليس أهلا للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقررونه في فقههم، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات. ونص الفتوى مع صورة لهذه الوثيقة موجودة على موقع (ويكيبيديا) على شبكة الأنترنت، وأشار إليها كثير من الباحثين المصريين المتخصصين، منهم الدكتور أحمد صبحي منصور، في مقدمة كتاب (زواج المتعة) للمفكر المصري المغدور فرج فودة، فيما أنكره آخرون وأبرزهم أو لعله الوحيد الذي أنكر أصل هذه الفتوى هو الشيخ يوسف القرضاوي، بقوله: (تراث الشيخ شلتوت أنا أعلم الناس به... ما رأيت هذه الفتوى في حياتي قط ولم اسمع عنها) المصدر: موقع شبكة الدفاع عن السنة http://www.dd-sunnah.net/news/view/action/view/id/961 ومن الطبيعي أنْ ينفي القرضاوي أصل وجود هذه الفتوى؛ لأنها لا تنسجم مع توجّهاته السلفية التي أنتجت لنا ما أنتجت من فتاوى التكفير والقتل على الهوية المذهبية والجماعات الإرهابية المتشددة التي دأبت على إقصاء المختلف مذهبيا بما يعكس الغلوّ والتطرف والنظرة الأحادية الضيّقة في كل ما صدر عنه من رأي أو موقف أو فتوى، فتأمّل..!

[8] ينظر: التشيع العلوي والتشيع الصفوي: 109 – 116 .

* من الشواهد على ذلك، ما ذكره أحدهم ممتعضًا في منتدى الألوكة على موقع الشبكة العنكبوتية مما آل إليه حال بعض أهل السنة من انفتاح على الآخر واعتراف بمنظومته التراثية: (الانتقاء من المذاهب الفقهية ما يناسب الذوق، ويلائم العصر، ويكون الاختيار من الأقوال متمشيًا مع المعطيات الحضارية، ولو كان في ذلك استدبارًا للأدلة الشرعية بل لو استلزم الأمر اقصاء المذاهب الأربعة كلها لعدم وجود القول المرتضى فيها لم يكن ثم مانع من ذلك؛ وهذا ما حصل بالفعل حين تم الاعتراف بالمذهب الجعفري، والمذهب الزيدي، والمذهب الإباضي، وادرجت هذه المذاهب ضمن ثروات الأمة الفقهية - زورًا وبهتانًا - وصارت تجتر في البحوث المعاصرة تحت الكلمة النكراء " الفقه المقارن " - تلبيسًا وطغيانًا- فإلى الله المشتكى. فانظر أخي الكريم - إلى الهوة السحيقة التي حدثت في طرائق العلم بين الأسلاف والأخلاف، وإلى التنافر الشديد بينهما في مناهج التعلم والطلب، الأمر الذي كان له أثر كبير في بروز نتاج من التناقضات بل والناقضات لما مضى، وإفراز أقوال غريبة بل شاذة بل ساقطة! ولن أقف عند كل الملاحظات التي تدور حول تلك المناهج المنحرفة، فإن هذا باب واسع يصعب تتبعه، لكنني سأقف عند نقطة واحدة مهمة أرى أنها انقلاب في موازين الطلب، ونسف للمنهجية المقررة عند السلف الصالح في تحصيل العلم ومعرفة الصواب من الأقوال، هذه النقطة هي قولهم: للمرء أن يأخذ بأي قول يناسبه من أقوال العلماء، وأن ينتقي منها " أطايبها "!). وهنا – بحسب منظور المتكلم- يرى الانتقاء أحد مظاهر انقلاب الموازين، والبعد عن منهجية السلف الصالح...!!

[9] المصدر نفسه: 110 – 111 .

[10] التشيع العلوي والتشيع الصفوي: 111 ويقف بالضد من الخطاب المُصرّح به في المقتبس، وما يؤدي إليه من انفتاح رؤية في قبول الآخر، والتسامح مع المختلف مذهبيًا، خطابٌ أحادي النظر، يؤمن بأنه الحق المطلق وسواه ليس إلا الباطل والضلال، فما على المُخاطب إلا أن يمتثل له ويُذعن لكل مسلّماته بلا أدنى شرط، ومن الأمثلة على ذلك المحدّث الشيعي المشهور بالمجلسي (محمد باقر) في مقدمة كتابه (بحار الأنوار: 1/ 7) التي نقتطف منها قوله: (فيا معشر إخوان الدين المدعين لولاء أئمة المؤمنين، أقبلوا نحو مأدبتي هذه مسرعين، وخذوها بأيدي الإذعان واليقين، فتمسكوا بها واثقين، إن كنتم فيما تدعون صادقين. ولا تكونوا من الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ويترشح من فحاوي كلامهم مطاوي جنوبهم، ولا من الذين اشربوا في قلوبهم حب البدع والاهواء بجهلهم وضلالهم، وزيفوا ما روجته الملل الحقة بما زخرفه منكرو الشرايع بمموهات أقواله) ولا يخفى ما يترشح عن هذا الخطاب من نزعة استعلاء على الآخر المُخاطَب، وكيفية التشكيك بإيمانه، من خلال وصفه بالمدّعي، وإلباسه صفات المنافقين، كلُّ ذلك الترهيب الرمزي؛ لأجل إجباره أنْ يخضع لسطوة هذا الخطاب وإلا كان متصفا بتلك الصفات..!!

 

في المثقف اليوم