قضايا

النفاق الحداثي.. الربح والخسارة

"كما جسدت الحداثة حياةً متقدمةً، أفرزت كذلك نمطها الخاص من النفاق والتزلف.."

هل يتزلف حيوانٌ إلى حيوانٍ آخر لكي يعطيه منصباً؟! هل يتسيّد حيوان المشهدَ طالباً من أقرانه المنافحة عن هيبته؟! هل ينافق القردُ – مثلاً - ملكَ الغابة ليُرجئ افتراسه يوماً آخر؟! هل هناك حيوان يُهدر وجوده، لأجل الارتقاء نحو الأعلى فيما يتصور؟ إذا كانت الإجابة بالسلب، نظراً لانعدام أدنى قصد وراء سلوك الحيوان، فالعجيب أنَّ الأسئلة السابقة مفهومةٌ داخل حياتنا البشرية. السؤال بـ" هل " يفتح الإمكانية من حيث المبدأ، أي يضع نقطةَ الانطلاق لأي شيء من الأشياء. ولكن قد تصبح الامكانية غير مجديةٍ حتى إزاء النفاق، ولاسيما حين نعلْم أنَّ بعض المثقفين وصغار المسؤولين وأقزام المناصب تجاوزوا هذه المرحلة بأشواط بعيدةٍ!!

يبدو أنَّ "خطاب النفاق" تجنب عالم الحيوان، ليختصَّ بصنفٍ أكثر دهاءً هو (الحيوان البشري). للأسف بات الإنسان في بعض مجتمعات العرب (حريف نفاق)، بات متزلفاً عتيداً. يذهب جيئة ورواحاً وهو قميء الباطن مبدياً الشكل فقط بخلاف ما يضمُر. ويراوغ بكلماته المعروفة والكذوبة يميناً ويساراً، وهو لا يعلم أنَّه عارٍ تماماً أمام الآخر. إنَّ النفاق عجزٌ محقّق، وهو بمثابة المداراة وإتيان التزلُّف وبذل الكلام والفعل الممالئ لسلطة مسئول قابع فوق رأسه. لكنه يبذل نفسه رخيصةً، مدفوعةً برغبةٍ في (العبودية المختارة) وفق اصطلاح دي لابواسيه. والعبودية المختارة مصطلح يُلخص تاريخ المنافق الراهن اللعوب.

يعمل المنافق بطريقة "الصبي البلدي" المعبر عن الانحطاط في أفظع أشكاله الحداثية. يحوم حول المسئولين ويزوم كالكلب الذي يستدر عطفاً وانقاذاً من الجوع. أحدهم كاد يبيع نفسه لمن يشتري، حتى أنه كان يتلذذ باظهار كيانه صاغراً أمام من يظن فيهم الهيمنة وإدعاء الحظوة. ويظل يدعو المحيطين به إلى سلوك الطريق نفسه، ثم ليكنْ ما يكون عندما يستفيق من ضياع كرامته وآدميته على أعتباب المناصب!!

وهذا المنافق يسمى بالمنافق الصغير لعدة أسباب:

1- لكونه يزاحم غيره بأساليب هابطة على تلك العملية غير الإنسانية. والمزاحمة تجدها لوناً من الممارسة اليومية في أجواء المكاتب الرسمية وحواشي الدول المعاصرة.

2- لا يكف عن تسليم نفسه لكل صاحب سلطة، يعطيها مجانيةً مقابل بعض الأمور أو الرضا الذاتي من المسئول عنه.

3- صاحب رؤية عدوانية للعالم والآخرين، يرى في العداوة متنفساً حيوانياً لأقنعته الإنسانية المستعارة في بعض الأوقات.

4 - لا ينظر إلى النقطة الأبعد لما يمارس من تزلف، ذلك أنه سيتحول إلى كائن فاقد القيمة والأصالة. كل منافق لا يعي ما يفعل إنما يسقط في أقرب مستنقع من العلاقات الموبوءة.

الآن لنحاول تحديد موقع (خطاب النفاق) من وجودنا الإنساني المشترك الراهن، علماً بأن وجودنا مدعم بآليات سياسية واجتماعية حداثيةٍ، مثل: مفاهيم الدولة الحديثة والمجال العام والحريات والحقوق والمسئوليات القانونية والأخلاقية وصور العدالة والمساواة وأنظمة الحكم الديمقراطي والنيوليبرالي. كل ذلك يضع خطاب النفاق تحت الاستفهام بأفكار حداثية كذلك؟ لأنه خطاب وصل متأخراً ولا مجال له إزاء هذه المعطيات الحداثية وما بعد الحداثية إلاَّ المساءلة والنقد. إذ ليس هناك مبرر مهما يكن لأنْ يكون مسئول كبير أو صغير منافقاً.

التلقائي هو أن عمل تلك الأنظمة الحداثية يجري بلا أدنى تدخل بشري للمحاباة أو علاقات القوة أو المغالبة أو اقتناص الفرص والمصالح. و كذلك لا توجد ثمة علاقات محاباة في هذا السياق مما قد يعطل سير الحياة المنضبطة والمنظمة. إن الشعوب التي لا تفهم معنى الحياة الحرّة في مؤسساتها وعلاقتها بكيان الدولة لن تستطيع إدراك أنَّ النفاق نوع من التقويض لمكتسبات السياسة، وأنَّ النفاق هو تبديل سيادة الدول والقوانين بجماعات المصالح ولوبيات الارتزاق ولو كان رمزياً.

ومن السوءات العمومية في بعض مجتمعاتنا العربية أنْ تجد هناك (ذباباً بشرياً) يطّنُ طنطنةً حول كلِّ مسئول ذي شأن، يتحرك الذباب معه أينما ذهب، ويتزاحم حول وجهه وأنفه وعينيه وأوراقه ومراسلاته تزلفاً والتصاقاً. وفي أي وقت من الأوقات، يتحول الذباب البشري إلى (كورال موسيقي) يُسمع المسئول ما يود سماعه، ويحصد له الابتسامات واللفتات الحانية جيئةً وذهاباً.

وخطاب النفاق الحداثي يسمى كذلك خطاباً مركباً، لكونه ألواناً وتيمات وعبارات ومقولات قيد الممارسة في دهاليز المكاتب وعبر اللقاءات الجماهيرية والخاصة وبين السطور والملفات وعلى الأوراق الرسمية وداخل أضابير التقارير ودراسات الجدوى الممهورة بماء السلطة ومع علاقات القوة والشهرة والحظوة. وأشكال النفاق الحداثي بمثابة خطاب غير قابل للتصنيف، نظراً لأنها جزء من بنية رمزية عامة تعبر عن ثقافة المسئولية والتواصل والتبريرات ولغة الإدارة والحكم وممارسات الشأن العمومي. ولذلك ليس على أي (منافق صغير) إلاَّ أن يحرك طرف الخيط حتى يحرك البنية الرمزية بكل جذورها الثقافية. وليس عليه إلا أن ينزع فتيل التحفظ،حتى يغرق من يقف أمامه في عبارات المدح والإشادة والتقديس والإعجاز دون توقف.

وفي النهاية تصل رسالة النفاق لمن يريد أنْ يسمع، ولمن يريد أنْ يفهم، ولمن يريد المعارضة بالمثل. لأن هناك بعضاً من الناس الذين تنعدم لديهم إرادة الفهم والتفسير والنقاش، فمن طال أمدهُ في ممارسة الخنوع والتذلل لن يقوى على الفهم، ولن يري أبعد من أرنبة أنفه. ويشكل النفاق سياجاً غامضاً من التقاليد والموروثات الخطابية وعلامات الجسد وصور الوجوه وطرق إلقاء التحايا وطرائق الكلام. ولكن تبدو هذه التقاليد واضحة وضوحاً ظاهراً في مجالات السياسة وما يدور في فلكها من مناصبٍ، كما أن النفاق يتسلل بطابع سياسي داخل أوروقة المؤسسات التعليمية والعلمية، و بطبيعة الحال لا تخلو المجالات الأخرى من عبارات النفاق الشاردة من حقل إلى آخر. مع أن النفاق في كل الحالات غير مبرر هو الآخر، ذلك باعتباره يمثل لغة غريبة وسط سياقات لها آلياتها وقوانينها للضابطة للعمل والإنجاز.

اللافت للنظر أن لغتنا العربية دقيقة تماماً في توضيح العلاقة بين النفاق والإنسانية والقدرة على الإضافة إلى رصيد الحياة المشتركة بإقامة دولة المؤسسات والعدالة والحريات والتنمية والتطور. فكلمة النفاق آتية من الجذر المعجمي: " نَفَقَ"، وهو جذر ينطوي على دلالتين مختلفتين ومتعارضتين في الوقت نفسه.

أولاً: معنى الخسارة: فيقال نفقت الدوابُ والبهائمُ، أي هلكت وماتت. " نَفَقَتِ الرُّوحُ ": خَرَجَتْ، زَهَقَتْ دون رجعة. " نَفَقَ الْجُرْحُ ": تَقَشَّرَ وبدأ في الإلتئام ولم يعد جرحاً حياً. وهذا معنى النقصان والنهاية والتراجع إلى الخلف والخسارة التي قد تحدث نتيجة النفُوق. ويقال أيضاً في طريق الخسارة" نفق الزادُ": قلَّ وشح ونفد. أنفق الشخصُ كلَّ ما يملك: افتقر وذهب ماله. والخسارة تنقل دلالة الاستهلاك والموت والتلاشي.

ثانياً: معنى الربح: فيقال " نَفَقَتِ الْبِضَاعَةُ ": رَاجَتْ وَرُغِبَ الناس فِيهَا على نطاق واسع. ومن ذلك " نَفَقَ الْبَيْعُ " "نَفَقَتِ السِّلْعَةُ"، و" نَفَقَتِ السُّـوقُ ": أي رَاجَتْ تِجَارَتُهَا وازدهرت نتيجة حركة البيع والشراء. " نَفَقَتِ الْمَرْأَةُ ": كَثُرَ خُطَّابُهَا وذهبوا إلى حيث هي طلباً للزواج منها. والربح يحمل مستويات التكالب والرواج والتداول وعلاقات البيع والشراء

وبطبيعة الحال لم تخلو دلالة كلمة النفاق من (نبرة دينية) على عادة الثقافة العربية، جاء في معجم" تاج العروس من جواهر القاموس" لمرتضى الزبيدي بصدد الجذر" نَفق" ولماذ يُسمى الرجل منافقاً: أنه قد " نقَل الصاغانيّ عن ابنِ الأنْباريّ (في الاعتِلال لتَسْمِية المُنافق مُنافِقاً) ثَلاثَة أقْوال: أحدها: أنّه سُمّي به لأنّه يسْتُر كُفرَه ويُغيِّبه فشُبِّه بالذي يدْخُل النَّفَق وهو السَّرَبُ يسْتتِرُ فيه. والثاني: أنه نافَقَ كاليَرْبوع فشُبِّه به؛ لأنه يخْرُج من الإيمان من غيرِ الوجْه الذي دخَل فيه. والثالِث: أنّه سُمّي به لإظهارِه غيرَ ما يُضمِر تشْبيهاً باليَرْبوع، فكذلك المُنافِقُ ظاهِرُه إيمانٌ وباطنُه كُفْر. قلت: وعلى هذا يُحمَلُ حديثُ: أكْثرُ مُنافِقي هذه الأمّة قُرّاؤها أراد بالنِّفاق هُنا الرِّياءَ؛ لأنّ كِلاهُما إظهارُ غيرِ ما في الباطِن".

لنلاحظ أن المعنى الديني يوضَّح معنى مختلفاً هو إبداء ما لا يضمر الشخص، أي إظهار شيئاً مختلفاً عما هو موجود في النفس. وهذا بمثابة المعنى الذي يمارسه (المنافق الحداثي) الراهن في المجال العمومي وإزاء أصحاب الشأن الرسمي، غير أن هذا (المنافق الحداثي) لا يلوي على شيء حقيقي إلاَّ رغبة الوصول للمأرب وجني المصالح من جنس العمل.

والسؤال الأهم: ما موقع (حساب الخسارة والربح) من المنافق الحداثي؟ حين ينافق هذا الشخص الحداثي، فإنه يخسر نفسه في المقام الأول، ويخسر رصيد الإنسانية التي حاولت عصور الحداثة تأصيلها داخل الذوات وبواسطة تربية الإجيال عليها، كي يواكبوا معنى المجتمع الحر، وكي يتأهلوا لنيل الحقوق السياسية والإنسانية. المنافق الحداثي – من تلك الزاوية- مازال قابعاً في أزمنة ما قبل الأديان، ولم يواكب تطور الحداثة بعد، يتعامل مع المناصب وأصحاب المسئوليات الرسمية بلغة أسطورية قديمة قدم التمائم وأعمال السحر والدجل ومخاطبة الأسرار والأرواح النافقة. ففي هذه الأشياء كان أحدهم يوثر على الآخر على أمل كسب بعض الحظوة والسلطة.

ومن جهة أخرى، يسلب (المنافق الحداثي) قيم احترام العمل وإنفاذ القوانين وتحقيق النتائج المرجوّة من السياسات والخطط والبرامج، ويعطل مسيرة الديمقراطية. إنه إنسان فاشل بملء الكلمة، فاشل حتى على صعيد التواصل والعلاقات بين الناس. ولو كان ممكناً للدولة الحداثية أنَ تفعل شيئاً لمعرفة المنافقين، فيجب عليها أن تخترع ما قد يسمى- مجازاً- بـ" جهاز كشف النفاق" في كل مؤسسة رسمية، وداخل كل أنشطتها، لكي يحول دون ممارسة التزلف الرخيص. ولكن اعتقد أن " جهاز كشف النفاق " هو القوانين العادلة وتطبيق المعايير والآليات المنضبطة والإلتزام بها. وكذلك قد يُفوت المنافق الحداثي على المجتمع كله فرصَ العيش الكريم وإتاحة هذه الفرص أمام مستحقيها. كما أنه قد يفوت على المسئول المتزلف إليه فرصةَ تطوير نفسه، وأن يكون على مستوى المؤسسة التي يعمل فيها، وأنْ يصبح وفياً لقيم التفاعل ورؤية السلبيات قبل الايجابيات كطريق للإصلاح والنهوض إذا تعثر.

أما معنى الربح، فإن (المنافق الحداثي) قد يربح فرصاً للظهور وبناء علاقات مختلفة وجني بعض المصالح المؤقتة، ولكن حتى هذا الربح يعد خسارة للجميع وخسارة للمجتمع في المستقبل، ذلك من واقع أنه يتلاعب بآليات الحياة المشتركة ويفتح باباً لفساد كبير غير مرئي، وهو فساد ينخر في هيكل الإدارة وشروط المسئولية والنزاهة والعدالة المفترضة طوال الوقت. إنَّ خطاب (النفاق الحداثي) فيروس من فيروسات العمل المعقد، وليس هو أقل خطراً على التطور الطبيعي للأعمال من أية أخطار أخرى. كما أنه يفتح سوقاً رائجة للعلاقات غير المبررة قانونياً، مما يضعف صورة الدولة، ولذلك على المنافق الحداثي أنْ يتراجع مفسحاً المجال للشفافية وتطبيق القانون وتقديم الخدمات المؤسسية لمن لأهل الاستحقاق لا لأهل الحظوة.

إنَّ النفاق الحداثي دوماً عمل مزدوج بهذا المعنى، فبقدر ما يشعُر صاحبه بالأهمية بقدر ما يجز ويقتطع من مكتسبات المجتمع ومن ذاته على التوازي. وكما لو أن النفاق غنيمة وكسب نفوذ ورواج علاقات، سيكون إهداراً مؤكداً لإنسانيةٍ مشتركة في المستقبل. ودوماً العلاج من طبيعة الأعمال التي تتم لهذا الغرض النفاقي، أن يكون الناس في مواقع المسئولية متيقظين بكل حواسهم لتقديم نماذج متطورة للإدارة الحداثية وإبراز المعايير والأسس الشفافة بما لا يدع أدنى فرصة لأي منافق أنْ يقترب. ومثلما كانت الحداثة خاضعة للنقد والغربلة والمراجعة، فمن الأهمية بمكان: نقد أسباب النفاق ومعرفة كيف يظهر، ولماذا يحدث في المجتمعات الحداثية مخالفاً لطبيعتها؟

***

د. سامي عبد العال

في المثقف اليوم