قضايا

حول موقع الرسائل.. بين المصادر التاريخية والأدبية

الناس يكتبون ويرسلون ما يكتبون، وهدفهم كما هو معروف قضاء الحاجة وتبادل المودّات والعواطف وامور عائلية خاصة او اشغال يومية مختلفة.. وهذا مالانريد الوقوف عنده في مقالنا هذا بقدر وقوفنا عند طبيعة وأحوال الرسائل التي دارت وتدور بين كوكبة من حملة الاقلام ورجال العلم والادب واهل المعرفة، لعل من خلالها نخرج بمقترحات تصبح فيها الرسائل المتبادلة الان وفي المستقبل ذات موقع متميز من بين المصادر التاريخية والادبية، يرجع اليها الدارس والباحث كمعين له في تقصّي الحقائق وتثبيت الصواب، وربما يعتمد عليها اعتمادا كليا اذا كانت الرسالة موثقة وغنية بالمعلومات النادرة التي قد لاتتوافر في مصدر او مرجع، لاسيما بعد ان يقرر المختصون ترشيحها الى منصب رفوف المراجع، ولاشك في ان الوصول الى ذلك المنصب يحتاج الى مؤهلات لابد ان تتوافر في الرسالة، لكي تأخذ طريقها، وفي ضوء ذلك نرى ان مرورها في المراحل الاتية، من الأمور المهمة التي ينبغي الأخذ بها بالاضافة الى الخطوات الأخرى المعمول بها من قبل ذوي الدراية والاختصاص ومنها مايأتي:

- الإطمئنان الى الخلفية التأريخية واللغوية لكاتب الرسالة، ومدى سعة باعه في الساحة المعرفية.

- الأخذ بنظر الإعتبار موقع الكاتب من الأحداث السياسية والاجتماعية، ومدى سعة ادراكه.

- مدى علاقة المرسل بالمرسل اليه ونسبة توافر المصارحة والمكاشفة في إملاء المعلومات ونقل الأحداث، ومدى الانفتاح النفسي بين الطرفين..

- تزكية قلم الكاتب من حيث ابتعاده عن التعصب والرياء والتهويل في نقل الأحداث والوقائع.

- التحقق من صحة خط المتراسلين، منعا للالتباس الذي قد يحصل في حالة تشابه الأخبار والأحداث في أكثر من رسالة..

إن عرض هذه النقاط الموجزة ماهو الا مساهمة متواضعة مع وسائل وضع الرسائل في مكانها المناسب او وسائل تأهيل الرسالة لتأخذ نصيبها من عملية التوثيق، فإن كانت ستتوافر في الآتي من الرسائل، فلايعني انها غير متوافرة او ان نسبة توافرها محدودة في الرسائل المتبادلة سلفا، لأن اكثر الرسائل القديمة قد حصلت على درجة الارتقاء بفضل كتابها الذين ادركوا مبكرا ان أدب الرسائل سيكون له شأن في تاريخ الأدب، فعمدوا الى تدقيق ماكتبوه وتحملوا مسؤولية مانقلوه من أخبار وما نسجوه من صيغ لغوية وصور ادبية تختلف في صياغتها ومضمونها من عصر الى آخر تبعا لمسيرة الاحوال الثقافية والاجتماعية والسياسية ومدى تطورها وازدهارها، فرسائل القرن الرابع الهجري مثلا هي كما قال آدم متز (أدق آية من ازدهار الفن الاسلامي ومادتها هي أنفس ماعالجته يد الفنان وهي اللغة، ولو لم تصل الينا ايات الفن الجميلة التي صنعتها ايدي الفنانين في ذلك العهد من الزجاج والمعادن لاستطعنا ان نرى في هذه الرسائل مبلغ تقدير المسلمين للرشاقة الرقيقة وامتلاكهم لناصية البيان في صورته الصعبة...)

وفي تراثنا الخالد كثير من ذلك النتاج من الرسائل المتميزة مثل:

- الرسائل السياسية والاجتماعية المتبادلة بين رؤساء القبائل وبين الخلفاء والامراء وعمالهم في مختلف الاغراض والمناسبات، ومن الباحثين المعاصرين الذين جمعوا الرسائل الباحث احمد زكي صفوت في كتابه (جمهرة رسائل العرب) .

- الرسائل المعروفة في الحكم والمواعظ والمخاطبات، وتعد رسائل الامام علي (ع) في ذلك خير نماذج لأدب الرسائل.

- الرسائل المتبادلة بين الشريف الرضي وابي اسحق الصابئ

- رسائل ابي بكر الخوارزمي ورسائل بديع الزمان الهمداني.

- رسائل ابي العلاء المعري ورسائل ابن زيدون.

- رسائل مصطفى لطفي المنفلوطي وامين الريحاني ومي زيادة ورسائل العقاد والرافعي ومصطفى جواد وغيرهم.

- رسائل زكي مبارك مع العلامة طه الراوي ومع الرصافي .

- ونذكر من ادب الغرب رسائل كوتيه مع شيلر، ورسائل هيجو مع بلزاك، ورسائل كوخ مع اخيه، ورسائل روسو مع فولتير.

- الرسائل الشعرية وهي كثيرة ومتنوعة وقد دارت بين كبار الشعراء والادباء في مختلف الاغراض.

ويقتضي الحال ان يعتمد الباحث او الدارس على مثل تلك الرسائل كمراجع تاريخية او ادبية لاسيما بعد الاطمئنان الى صحة مضمون الرسالة ونسبتها الى صاحبها، وقد دفع الإخلاص والحرص بعضهم الى تحقيق ونشر ما وقع في ايديهم من تلك الرسائل بعد ان وجدوا فيها خيرا ينفع الناس وعلما يخدم الحقيقة..

ان التوجه نحو دراسة الرسائل للحصول على نتائج وملاحظات علمية مهمة ثم العمل على تطبيقها والاخذ بها أصبح من المهام التي ينبغي الاسراع بها، ليس لغرض تعزيز موقع الرسائل بين المصادر والمراجع وحسب، بل بالنسبة لأهمية أدب الرسائل في تراثنا بالذات، إذ ان من بين المسائل الجوهرية التي تميز الادب العربي عن الاداب الاخرى (هي مسألة المراسلات، فالاداب الغربية قد نشات ونمت ونضجت قبل ان يوجد فيها مايصح ان نسميه بالمراسلات الادبية، ولم تكن الرسائل الادبية في هذه الاداب الا مظهرا أخيرا من مظاهر الاسلوب الادبي، كما حدث في رسائل سيسرون بالنسبة للادب الللاتيني، وفي رسائل مدام دي سيفيه ورسائل فولتير بالنسبة للادب الفرنسي، اما الادب العربي فأمره غير ذلك تماما، إذ ان من أوائل مانعرفه فيه بعد الشعر انما هو نوع الرسائل..).

هذه امثلة مختصرة لدراسات واستنتاجات مختلفة، وان ماورد ويرد فيها وفي امثالها مع كونها دراسات قليلة ومحدودة، هو حصيلة تأمل وتحليل، ولاشك في انها قد زادتنا خبرة وعلما، وقدمت الينا طبقا شهيا قد لانحصل عليه بهذه الاحاطة وذلك التنسيق.. وهي في كل الاحوال خير منبّه الى كثير من المآخذ الكتابية، وخير موجّه الى كثير من القواعد والفوائد، ولعل من خلالها ومن خلال ما تشير اليه اكثر الرسائل المتميزة نستطيع حسبما يسمح به المقال ان نخرج بالمقترحات الاتية:

1- لكي يحتل ادب الرسائل المعاصر منزلة افضل وثقة اكبر، فإن على حملة الاقلام المثقفة مراعاة اهمية ومكانة الرسالة العلمية والادبية ومدى تأثيرها، وان يكثفوا جهودهم ويسخروا بيانهم لخدمة ذلك النمط العالي من الاداب.

2- لكي تحافظ الرسائل على اجوائها المتميزة فإن على المؤرخين والباحثين ان يختاروا الرسائل التي يريدون نشرها بين الناس اختيارا علميا دون ان يخضع لتأثير العلاقات الشخصية التي من شأنها ان تشرك الرسائل ذات المستوى غير المؤهل على حساب تلك الرسائل.

3-من اجل ان تعود الحيوية وتدب الحياة في عروق ذلك الجنس الادبي، ينبغي ان تساهم جميع الاطراف المعنية في رفد الباحثين والمحققين بما هو مطويّ من رسائل مهمة في حقائب الأعلام الراحلين لدراستها والاستفادة من مضامينها التاريخية والادبية، خدمة لأبرز مظهر من مظاهر التراث العربي.

***

عدنان عبد النبي البلداوي

في المثقف اليوم