قضايا

مفهوم العنف الاجتماعي.. دلالاته وأشكال تجليه (4): ما هو الإكراه؟!

من حيث المبدأ؛ لا يوجد إنسان سوي يعيش ضمن وسط اجتماعي يتمتع بقدر معقول من التنظيم الذاتي ويحرص على سلامة كينونته، لا يخضع - بهذا الشكل أو ذاك، بهذا القدر أو ذاك - لنمط معين من أنماط الإكراه الاجتماعي، سواء أكان على المستوى الضمني أو على المستوى الصريح. وعلى ذلك فقد أيد مؤلفا المعجم النقدي لعلم الاجتماع هذا الأمر بالقول (إن كون المجتمع يمارس أكراها"، أو بالأحرى تنوع كبير من الاكراهات على الأفراد الذين يتكون منهم، مسألة لا تقبل النقاش)(1).

وإذا كان مفهوم (الإكراه) يستهدف، في الأصل، حماية الإنسان من نوازع الشطط ودوافع الانحراف عن القيم الاجتماعية السائدة والمتعارف عليها من قبل الجماعة التي ينتمي إليها، فقد تغيرت دلالته واستبدلت وظيفته منذ لحظة شروع المؤسسة السياسية (الدولة / السلطة) بتبني تلك المهام نيابة عن المؤسسات الاجتماعية، التي كانت تستلهم الأعراف والعادات والتقاليد لتسير شؤون الأفراد وتقنين علاقاتهم بالمجتمع. حيث تخلت أو تراجعت المعايير الأخلاقية والقيمية والرمزية - التي كانت حاجة (الإكراه) تستلزمها لإشاعة الأمن والطمأنينة بين أعضاء الجماعة - عن صدارة الأولويات والأسبقيات ضمن قائمة العوامل الباعثة على الإكراه، لتحل محلها أو لتتواطأ معها لاحقا" المعايير السياسية والاقتصادية والإيديولوجية، لإجبار الفرد والجماعة على حدّ سواء لإبداء مظاهر الطاعة للسلطة والولاء للسلطان، حتى وان كانت الأولى تضج بالدكتاتورية والثاني يعج بالطغيان. وعلى ذلك فقد ألح العالم الاجتماعي الفرنسي (دوركهايم) على مسألة (التمييز بين الإكراه الذي تمارسه المعايير، وذلك الذي تمارسه القيم والتصورات الجماعية. والمعايير ليست شيئا"أخر غير الأوامر والتوصيات. وهي تستند إلى عقوبات يكون بعضها محددا"والبعض الآخر غامضا". إن المعايير هي التي تحدد الأدوار التي تدخل في تنفيذها التماسك والثبات)(2).

على أن مفهوم (الإكراه) لا يقتصر فقط على مظاهر الضبط والربط الداخلي الذي تمارسه الدولة ضد مكوناتها – أفرادا"وجماعات – لضمان الاستقرار السياسي وتحقيق التجانس الاجتماعي فحسب، بل وكذلك يتسع مداه وتتعدى وظيفته حدود الدولة المعنية باتجاه بقية الدول الأخرى، لحملها على تغيير سياستها المناوئة، أو تبني مواقف لا تتسم بالعدائية، أو الشروع بإجراءات وممارسات تفصح عن النوايا الحسنة. لذلك فقد عرّف كل من (بول هاث) و(بروس راسيت) الإكراه بأنه (محاولة من صانعي القرار في الدولة (أ) لإجبار صانعي القرار في الدولة (ب) على التجاوب مع مطالب الدولة (أ)، بما في ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، المطالب المتعلقة بالتراجع عن إجراء تم اتخاذه، عبر استخدام التهديد أو تطبيق العقوبات)(3).

والجدير بالملاحظة إن سيرورة (الإكراه) تتم على مستويين أساسيين يعزز كل منهما الآخر؛ المستوى الأول (مادي) وهو ما يتعلق بمنظومة القوانين والأنظمة والتشريعات التي تسنها السلطة / الدولة لضمان تنفيذ سياستها وتحقيق أهدافها بطرق وأساليب غالبا"ما تكون (زجرية) و(رادعة). أما المستوى الثاني (معنوي) وهو ما يتصل بمنظومات القيم والأعراف والتقاليد التي صاغتها تجارب المجتمع وتواضعت عليها أجياله، عن طريق التنشئة الاجتماعية والتربية النفسية والمجايلة الحضارية، التي غالبا"ما يسعى هذا الأخير الى غرسها في عقول ونفوس أفراده وجماعاته، بحيث تشكل لهم بمثابة ضوابط سلوكية ومعايير أخلاقية تمنع الانحرافات المتوقعة وتردع التهورات المحتملة.

وبقدر ما يكون المستوى الأول (المادي) من الإكراه مصحوب بأساليب الزجر والإجبار (الخشنة) التي تمارسها (الدولة) لفرض سلطتها، بقدر ما يرتبط تأثيره وترتهن فاعليته بالظروف والعوامل التي أوجدته أوجبته، بحيث إن زوال هذه الأخيرة وتلاشيها ينذر بزواله وتلاشيه، مثلما أن زوال السبب يبطل وجود النتيجة، من حيث إن مشاعر (الخوف) و(الهلع) هي من شكلت مصادره وبلورت خصائصه. أما بخصوص المستوى الثاني (المعنوي)، فانه على الرغم من أن مصادر تكوينه نابعة من خلال التعنيف والضغوط (الناعمة) التي يستخدمها (المجتمع) لفرض سلطاته، إلاّ أن مدى تأثيره وشدة فاعليته غالبا"ما تمتاز بالديمومة والبقاء حتى وإن اختفت الأسباب والدوافع المسئولة تكوينه وصيرورته. ذلك لأنه يتشكل – خلافا"للمستوى الأول - في حاضنة (الوعي) ويتجذر في بطانة السيكولوجيا بوازع من مشاعر (القبول) الضمني و(الرضا) المضمر، الأمر الذي يصعب اجتثاثه وإزالته إلاّ بعد حصول تغييرات نوعية في بنية (الأول) ونسق (الثانية)، وهذه وتلك تحتاج إلى ظروف وأوضاع وسياقات تخرج عن نطاق هذا المقال.  

***

ثامر عباس

...................   

الهوامش

1. ر. بودون وف. بورّيكو؛ المعجم النقدي لعلم الاجتماع، مصدر سابق، 57. هذا في حين ذكر العالم الاجتماعي العراقي الدكتور (إبراهيم الحيدري) إن دوركهايم كان (يرى أن إلزامية الظاهرة الاجتماعية، أو الإكراه الاجتماعي، ليست قمعا"وعنفا"تعسفيا" تمارسه جماعة ضد جماعة أخرى منحرفة، وإنما هو الشرط الأساسي والضمانة لتماسك هذه الجماعة ووحدتها واستمرارها). للمزيد راجع كتابه؛ سوسيولوجيا العنف والإرهاب، (بيروت، دار الساقي، 2015)، ص254.

2. المصدر ذاته؛ ص58.

3. ديفيد جارنم؛ مستلزمات الردع : مفاتيح التحكم بسلوك الخصم، سلسلة دراسات إستراتيجية (2)، (أبو ظبي، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، 1998)، ص45. هذا في حين عرّف (جاك ليفي) مفهوم الإكراه بأنه (استخدام التهديدات لحث خصم على فعل شيء أو على التوقف عن فعل شيء، وليس الامتناع عن فعل شيء لم يقم به بعد)، المصدر والصفحة ذاتهما.

 

في المثقف اليوم