قضايا

مفهوم العنف الاجتماعي.. دلالاته وأشكال تجليه (5): ما هي القسوة؟!

غالبا"ما ارتبطت ظاهرة (القسوة) بفعل إيقاع الضرر الجسدي أو الأذى النفسي بالآخرين / الخصوم، في إطار الخلافات السياسية / الإيديولوجية، والكراهيات الدينية / الطائفية، والصراعات القومية / الاثنية، والنزاعات القبلية / العشائرية، تعبيرا"عن مدى قوة التعصب وشدة التطرف بين الأطراف المتنابذة والمتباغضة. وإذا ما كانت هذه الظاهرة تبدو شديدة الوضوح وخشنة الملمس على مستوى العلاقة بين الأفراد والجماعات، بحيث إن مستوى صعودها أو هبوطها يعتمد على مرحلة التطور الحضاري التي يمر بها المجتمع. بمعنى إن وتائر الصعود والهبوط في مناسيبها ومستوياتها يتناسب طرديا"مع أطوار التخلف والتقهقر التي يرتكس إليها المجتمع، أو بالعكس مع أطوار التحضر والتمدن التي يتقدم في مدارجها ويتوسع في آفاقها.

نقول إذا ما بدت بهذه الحالة أو الصيغة من الوضوح والشفافية، فان هذا لا يعني أنها مرشحة للاندثار التدريجي والاختفاء الكلي من قاموس السلوك الاجتماعي والسياسي بين الجماعات والمكونات، حالما يشرع المجتمع المعني بتخطي عتبات طفولته الحضارية، وتجاوز مرابض علاقاته البدائية، ومن ثم ولوج أطوار التمدن والتحضر إيذانا"ببلوغه سن الرشد الإنساني والعقلاني. بقدر ما يعني انه (= المجتمع) بات بمقدوره – وفقا"لمستويات تقدمه في مجال الحريات السياسية، وتطوره في مضمار العدالة الاجتماعية، وارتقائه في حقل التعددية الثقافية – التحكم بكوابح انفلات جماحها، والسيطرة على ترويض شراستها، والتمكن من لجم توحشها.

وبالرغم من إن (القساوة) في التعاطي مع الآخر المختلف قوميا"/ اثنيا"والمغاير دينيا"/ مذهبيا"، لا تعتبر سلوك طارئ أو خاصية مستحدثة أو ظاهرة غريبة على طبيعة الإنسان (فردا"أو جماعات)، بقدر ما هي لصيقة بوجوده الاجتماعي المأزوم ودالة على طبيعته الإنسانية المستباحة. فللقسوة - كما لاحظت العالمة الاجتماعية (كاثلين تايلور) - (( أصول قديمة، والكلمة مسجلة في قاموس أكسفورد للانجليزية منذ عام 1225 قبل الميلاد، ويعتقد أنها مشتقة من كلمة لاتينية هي (crudelitas). وهذا يبدو مناسبا"، لأن أكثر نماذج القسوة تأثيرا"نشأ في روما في زمن الإمبراطورية))(60). إلاّ إن الكلمة دخلت حقلا"  نوعيا"واتخذت بعدا"مؤسسيا"حالما استملكت فعلها الدولة واستبطنت ممارستها السلطة، عبر مؤسساتها البوليسية وأجهزتها الأمنية ضد معارضيها في الداخل وأعدائها في الخارج على حدّ سواء، لاسيما وان (الحاجة إلى السيطرة والتحكم لازمة كأحد الدوافع الشائعة للسلوك القاسي، أي النزعة إلى التجاوز والمخالفة)(61).

ومما هو جدير بالذكر، إن السلوك المتسم بشدة (القسوة) الذي يمارسه الإنسان ضد أخيه الإنسان لأسباب ودوافع شتى، لا يمكن تأطيره أو تنميطه ضمن شكل معين من إشكال التعبير العدواني عن السلوك الاجتماعي المعروفة. فقد يكون ذا (مظهر سلوكي) واضح كما في حالة استعمال (الضرب) المبرح للآخرين تارة، أو باستخدام (الألفاظ النابية) الجارحة على نحو مفرط تارة ثانية، أو تعمد اللجوء إلى أساليب (الاهانة) على نحو اعتباطي تارة ثالثة. كما وقد يكون ذا (مظهر تعبيري) مضمر كما في حالات استبطان مشاعر (الحقد) العنصري، وإضمار (الكراهية) الطائفية تجاه من لا يتفقون معنا في مسائل الانتماء إلى أقلية قومية / اثنية مختلفة، أو مجموعة دينية / مذهبية مغايرة من جهة. مثلما في قضايا الانخراط في حركة سياسية معارضة، أو تبني عقيدة إيديولوجية مناهضة من جهة أخرى.

وهكذا، فالقسوة الإنسانية تتبدى عبر تعبيرات مختلفة التمظهر ؛ فهي إما تأتي على شكل (سلوكي) مباشر، أو على شكل (لفظي) غير مباشر، أو على شكل (نفسي) مضمر. ولكنها في كل الحالات المذكورة تبدو مؤتلفة ومتساندة من حيث بلوغها للقصد المستهدف وتحقيق الغاية المطلوبة.

***

ثامر عباس

......................

الهوامش

1. كاثلين تايلور ؛ القسوة – شرور الإنسان والعقل البشري، ترجمة فردوس عبد الحميد البهنساوي، ( القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2014)، ص52. مضيفة إلى ذلك قولها ضمن نفس المصدر (القسوة شيء قديم قدم الإنسانية، إن لم تكن أقدم، وهي في الأساس سلوك إرادي غير مبرر يسبب معاناة متوقعة لضحية أو ضحايا لا يستحقونها. وقد تتضمن القسوة عدوانا"جسديا"أو اهانة أشد حدة وإيلاما"، لكن الهدف منها هو أن تجعل المستهدفين منها يعانون حسيا"أو نفسيا"ومعنويا). ص85.

2. المصدر ذاته ؛ ص371.

 

في المثقف اليوم