قضايا

المتون الحضارية المفهوم ودلالاته

في أطار المشروع الثقافي الفكري الجديد الموسوم بفلسفة المشترك الثقافي نحو دراسات ثقافية عربية مقارنة الذي أرسى دعائمه نخبة من الأكاديميين والمثقفين العرب من مختلف البلدان العربية وعقد مؤتمره العلمي الأول في القاهرة بعنوان المشترك الثقافي العربي بين مصر وتونس؛ نحو دراسات ثقافية عربية مقارنة في مارس ٢٠٢٢م تجري الاستعدادات على قدم وساق لإنجاز المؤتمر الدولي الثاني عن المشترك الثقافي العربي بين مصر واليمن رؤى جديدة في المتون الحضارية. فما هي المتون وما دلالاتها الثقافية؟

متن، متين، تمتين، أمتان، متون بمعنى الجسم الصلب، الجامد، الراسخ في البنية القائمة "والْمَتْنُ مِنْ ڪُلِّ شَيْءٍ: مَا صَلُبَ ظَهْرُهُ، وَالْجَمْعُ مُتُونٌ وَمِتَانٌ.. وَالْمَتْنُ: مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَوَى، مَتْنَا الظَّهْرِ مُكْتَنَفَا الصُّلْبِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ مِنْ عَصَبٍ وَلَحْمٍ، يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَقِيلَ: الْمَتْنَانِ وَالْمَتْنَتَانِ، جَنَبَتَا الظَّهْرِ، وَجَمْعُهُمَا مُتُونٌ، فَمَتْنٌ وَمُتُونٌ ڪَظَهْرٍ وَظُهُورٍ، وَمَتْنَةٌ وَمُتُونٌ ڪَمَأْنَةٍ وَمُئُونٍ، قَاْلَ امْرُؤُ الْقَيْسِ يَصِفُ الْفَرَسَ فِي لُغَةِ مَنْ قَاْلَ مَتْنَةٌ:

لَهَا مَتْنَتَانِ خَظَاتَا ڪَمَا     أَكَبَّ عَلَى سَاعِدَيْهِ النَّمِرْ"

وَالْمَتِينُ فِي صِفَةِ اللَّهِ الْقَوِيُّ، قَاْلَ ابْنُ الْأَثِيرِ: هُوَ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ فِي أَفْعَالِهِ مَشَقَّةٌ وَلَا ڪُلْفَةٌ وَلَا تَعَبٌ، وَالْمَتَانَةُ: الشِّدَّةُ وَالْقُوَّةُ; فَهُوَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بَالِغُ الْقُدْرَةِ تَامُّهَا قَوِيٌّ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ شَدِيدُ الْقُوَّةِ مَتِينٌ"وَمَتَنَ بِالْمَكَانِ مُتُونًا: أَقَامَ. وَمَتَنَ الْمَرْأَةَ: نَكَحَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ."واضاح أن معنى المتن في المدونة العربية هو الصلب أو الظهر القوي المتماسك وقد استخدم مصطلح المتن في النقد الأدبي بمعنى "مجموع الأحداث المتصلة فيما بينها، والتي يقع إخبارنا بها خلال العمل" ويعرف بوريس توماشفسكي المتن الحكائي بانه " الوضعيات السردية التي تخضع للتحول إيجابا وسلبا، اتصالا وانفصالا" وإذا ما استعرنا كلمة متن من المدونة اللغوية العربية والنقد الأدبي الروسي إلى حقل الدراسات الثقافية والتاريخية فيمكننا القول أن المتن التاريخي هو العمود الفقري في البنية الحضارية للشعوب التليدة. والحضارة هي وحدة التاريخ المحورية حيث يوجد مستودع الهوية بما يحتويه من قيمة تراثية مادية ومعنوية؛ الأرض واللغة والدين والمجتمع والعلاقات الاجتماعية والثقافة والعادات والتقاليد والقيم المشتركة. وحينما ننظر إلى المتون الحضارية العربية اليوم ونحن في مطلع القرن الحادي والعشرين نشاهد مدى تاريخي زاخر بالمتون الحضارية إذ تربض الدول العربية الراهنة على تنويعة حضارية تليدة كانت تشغل نصف حضارات العالم القديم فها هنا تقع أقدم حضارات الدنيا حضارة وادي النيل مصر الدولة العربية الأوسطية الكبيرة التي تحلق بجناحين أفريقي وآسيوي إذ تقع في الركن الشمالي الشرقي من قارة أفريقيا، ولديها امتداد آسيوي، حيث تقع شبه جزيرة سيناء داخل قارة آسيا فهي دولة عابرة للقارات، تقع على مدار السرطان وتمر بين خطيّ عرض 22° و 36' 31° شمالًا، وبين خطي طول 24° و 37° شرقي خط جرينتش. ويحد جمهورية مصر العربية من الشمال البحر المتوسط بساحل يبلغ طوله 995 كم، ويحدها شرقا البحر الأحمر بساحل يبلغ طوله 1941 كم، ويحدها في الشمال الشرقي منطقة فلسطين (إسرائيل وقطاع غزة) بطول 265 كم، ويحدها من الغرب ليبيا على امتداد خط بطول 1115 كم، كما يحدها جنوبا السودان بطول 1280 كم. تبلغ مساحة جمهورية مصر العربية حوالي 1.002.000 كيلومتر مربع والمساحة المأهولة تبلغ 78990كم2 بنسبة 7.8 % من المساحة الكلية. إنها عبقرية المكان وذاكرة الزمان. والجغرافيا تحضر بطرق شتى لكن التاريخ هو ذاكرة المكان والزمان. وفِي مصر فقط يمكن رؤية ذلك العناق الخالد بين افريقيا وآسيا والأطلسي بين المكان والزمان، بين الجغرافيا والتاريخ، بين الناس والوطن بين الخاص والعام. ومصر هي الدولة العربية الأكبر سكان قرابة ١٢٠ مليون نسمة تنمو وتزدهر وتسير بثبات صوب المستقبل رغم الحصار الشديد الذي يطوقها من كل حب وصوب أنها أم الدنيا التي مابرحت تعانق السماء وتتطلع الى الفضاء منذ أقدم العصور جنبا إلى جنب مع الحضارة السودانية الناهضة وفي جنوب البحر الأحمر والجزيرة العربية تقع أرض الجنتين كما جاء في القرآن الكريم وموطن الملكة بلقيس وبلاد العربية السعيدة وأهل الحكمة والإيمان بحسب السنة الشريفة ومعقل الحضارات التليدة معين وسبأ وحمير وقتبان واوسان وحضرموت وبوابة العرب الجنوبية على المحيط الهندي والبحر العربي وخليج عدن وبلاد سأم بن نوح وجنات عدن. وهناك في بلاد الرافدين ازدهرت سومر وأكد وبابل واشور وكلدان وفي الشام ازدهرت حضارات فينيقيا وامور وكنعان وكيش وهناك تنويعة حضارة ازدهرت في المغرب العربي والشمال الافريقي منها؛ الليبية والفينيقية والقرطاجية والامازيغية والرومانية وغيرها  إذ يزخر العالم العربي والشمال الافريقي بتراث حضاري وثقافي غني جدا ففيه نشأت نصف حضارات العالم القديم المزدهرة على الأقل، من جبال الأوراس إلى النيل والفرات واليمن وشبه الجزيرة العربية وما بينهم. وقد وجدنا أن القواسم المشتركة بين البلدان العربية زاخرة بمقومات وموارد كثيرها منها: الجوار الجيوبوليتيكي والتجانس اللغوي والمشترك الديني وبحسب نظرية الانتشار الثقافي تبادلت أغلب الشعوب والحضارات المتجاورة نفس المعتقدات والمبادئ الدينية الأساسية، مع وجود بعض الاختلافات التي تعبر عن خصوصية كل حضارة. ففي منطقة الشرق الأوسط انتشرت الأديان الإبراهيمية الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام) في مراحل تاريخية متعاقبة وجاء كل دين مكملا للدين الذي سبقه. إذ ظلت العناصر المشتركة حاضرة فيها بصيغة أو بأخرى  ومن أشهر القصص المشتركة بينها، قصة الخلق والتكوين وآدم وحواء والصوم والصلاة والتعاليم الأخلاقية الأساسية فضلا عن ما تتيحه ثورة المعلومات والاتصالات الجديدة أصبح العالم مجالا رؤية ومكان مكشوف للجميع، حيث تحطمت كل الحواجز والحدود التي كانت في الماضي القريب تفصل بين الشعوب والثقافات والدول. إذ كان العرب حتى عهد قريب يعيشون، كما لو كانوا في عوالم مختلفة، وقد وجدوا أنفسهم فجأةً جنبا إلى جنب، في ظل عالم شديد التناقض والاضطراب ففي حين يبدو المشهد التواصلي للعالم ينحو حثيثاً نحو التقارب والتجانس والتناغم والتداخل نلاحظه في الوجه الآخر يشهد عمليات مستمرة من الصراع والتنافر والتباعد، إذ ”أن العمليات المصاحبة للعولمة والتركيبات البنائية الداخلة فيها أكثر تعقيدًا من أن يعبر عنها بالقول ببساطة بأنها عمليات لتوحيد العالم أو لجعله قرية واحدة. وربما يكون هذا هو التناقض الرئيس الذي افرزته العولمة وموجاتها الملاحقة في تشكيل صورة العالم الجديد وصورتنا كذلك فما السبيل لتجاوز تلك اللحظة الخانقة؟ السنا بازاء  متون حضارية وثقافية مشتركة وقابلة للتفعيل والتوظيف الإيجابي الفعال للنهوض من جديد؟

***

ا. د. قاسم المحبشي

 

 

في المثقف اليوم