قضايا

الثقافة هي ما تبقى بعد خراب كل شيء

والعالم يفلت من بين إيدينا في كل لحظة من لحظات حياتنا المعاصرة. ما الذي بقي لدينا من ممكنات في تدبير حياتنا وتأكيد حضورنا الفاعل فيه طالما وقد شاءت لنا الأقدار أنا نكون هنا والآن؟ ذلك هو السؤال الحيوي الذي يجب أن يشغلنا في لحظة تاريخية شديدة الحساسية والتغير والاضطراب. ضاقت فيها خيارات الناس السياسية واتسعت العوالم الثقافية. فنحن في عصر العولمة حيث ينكمش الزمان والمكان إلى حدا بتنا فيه نعيش فيما يشبه قرية سبيرانتية، كل شيء بات متاح للجميع المعرفة والعلم والآداب والثقافة بكل صورها وأنماطها وقيمها ورمزها إذ لم يعد للمثقف تلك السلطة التقليدية والدور الاجتماعي الذي كان يضطلع فيه في زمن مضى- نقصد المثقف العضوي بمعناه الجرامشي أو حتى بصيغة جان بول سارتر المثقف العارف الكلي الملتزم الانشغال في الشأن العام صوت من لا صوت لهم- ففي عصر العولمة والمعلومة والشبكة والمنصة والتغريدة، اختلف الحال والمآل في حقل الثقافة ودور المثقف ومدراتهما إذ تفتحت إمكانات جديدة أمام البشر انكسرت معها ثنائية النخبة والجمهور أو العامة والخاصة أو الزعيم والحشد. لم يعد الفرد مجرد متلقٍّ للمعلومات أو الأوامر من النخب التي تفكر عنه، وتدّعي تمثيله والنطق باسمه أو الدفاع عن مصالحه وحقوقه. وبتنا " ننخرط في واقع أصبح فيه المواطن الفرد، يتصرف كلاعب فاعل، يسهم في بناء مجتمعه أو تغيير عالمه، بقدر ما هو منتج أو مبتكر في مجال عمله؛ ويشارك في صنع ذاته وَقَود مصيره بقدر ما يمارس حريته في التفكير ولا يتخلى عن عينه النقدية في قراءة ما يحدث. ومن لا يتاح له أن يفعل بصورة إيجابية وبناءة، فإنه يفعل بصورة سلبية ومدمرة".

ورغم ما تعيشه مجتمعاتنا العربية اليوم من ضعف وتمزق سياسي إلا أنها تحمل تراثا ثقافيا زاخرا بالممكنات الثقافية الإبداعية المتنوعة المشتركة بين الشعوب العربية الراهنة والثقافة هي ما يبقى بعد نسيان كل شي! إن الثقافات لا تموت طالما ظل حاملها المادي والمعنوي حيا أي الناس واللغة والقيم والعادات والتقاليد والرموز.. لكنها تتغير وتطور أو تتخلف بهذا القدر أو ذاك، وهذا يعود إلى مستوى التفاعل والتواصل والانفتاح والانغلاق، الجمود والحيوية والديناميكية والاستاتيكية التي تتسم بها أي يعود إلى قدرة الثقافة على تجديد ذاتها وإخصاب هويتها وتجاوز كبواتها باستمرار غير أن ما يقتل الثقافات ويهدد هويتها بالتمزق أكثر من أي شيء آخر، هو الانغلاق على الذات والنكوص للماضي، والسير وفق مشيئة التاريخ واقداره. إذ تعد الثقافة من بين قوى التاريخ هي القاسم المشترك بين الناس وهي الطبيعة الثانية للكائنات الإنسانية إذ لم يكن للإنسان أن يتمكن من العيش في الأرض بدون العلم والتفكير العلمي وأول قانون علمي أدركه الإنسان هو قانون مقاومة الفناء والحفاظ على البقاء وأول المدنية كهف أو مغارة أو موطئ قدم يحتله الإنسان ويجد فيه أسباب العافية والأمن والأمان فيدافع عنه وطناً في العراء قبل اللجوء إلى الكهوف والمغارات وأول الثقافة خيال وتصور وتعبير وتفكير وبحث عن الأشياء التي تؤمن حياة الإنسان وتجنبه المهالك فحينما واجه الإنسان معضلة مرور النهر فكر باستخدام ألواح الخشب وصنع الغارب وحينما واجه الإنسان تحدي البرد والمطر فكر بالبحث عن ما يحمي بدنه من البرد والمطر والشمس والريح فصنع ملابسه من الجلد والصوف وحينما واجه الإنسان تحدي العيش في العراء فكر ببناء منزل يحميه من غوائل الوحوش والضواري وحينما واجه الإنسان تحدي الجوع والعطش فكر باستصلاح الأرض وزراعتها وحفر الآبار وحمايتها. وحينما واجه الإنسان تحدي المسافات فكر بترويض الحيوانات واستخدامها في المواصلات وحينما واجه الإنسان تحدي البحار فكر بصناعة السفن الشراعية وحينما واجه الإنسان تحدي المرض فكر بالبحث عن الدواء وهكذا كان العلم هو الحليف الأول للإنسان على هذه الكوكب ومازال ومن المعروف أن إي فعل أو سلوك إذا ما تكرار يصير عادة وإذا ما ترسخت العادة صارت ثقافة! وبهذا المعنى الثقافة هي ما يبقى بعد نسيان كل شئ!

والخلاصة أن ما بين الشعوب العربية من مقومات ثقافية مشتركة جديرة بالدراسة والبحث والتفعيل وتزخر المجتمعات العربية الراهنة بتراث ثقافي وفني وأخلاقي وجمالي مشترك غني ففي كل بلد عربي يوجد مستودع خصيب للهوية الثقافية العربية المشتركة المتمثل في اللغة والعادات والتقاليد والقيم والمعتقدات والنقوش والآثار والأزياء والأطعمة والرموز وغيرها. كل تلك المقومات تجعل الإنسان العربي في كل قطر يقيم به إنسانا مندمجا ثقافيا ولا يشعر بالغربة والاغتراب الا حينما يتذكر البسبور الذي يحمله بوصفه موطنا من دولة عربية أجنبية. فماذا بوسع النخب العربية عمله اليوم في ظل التحديات الخطيرة التي توجهها الشعوب والدول العربية في اللحظة الراهنة؛ جملة متشابكة من التحديات بنسب ومستويات مختلفة محلية خاصة بكل قطر على حدة وتحديات إقليمية تهدد الوجود العربي بكليته وتحديات عالمية دولية تتصل بتنافس وصراع قوى الهيمنة الامبريالية الجديدة؟

***

ا. د. قاسم المحبشي

 

 

في المثقف اليوم