قضايا

علاقة المثقف بالسلطة السياسيّة..

الثقافة، مفهوم أساسيّ في الأنتروبولوجيا، تجمع العادات والتقاليد والقيّم المجتمعيّة والأفكار القوميّة والإنسانيّة. أمّا السياسة، فمصدر مشتقّ من الفعل " ساس " ومضارعه " يسوس "، وهي اصطلاحا، رعاية مصالح الرعيّة وشؤونها في إطار علاقة ملزمة بين الحاكم والمحكوم. وهي كما عرّفها الواقعيّون " فنّ الممكن ". وبين الثقافة والسياسة علاقة جدليّة، قائمة على آليّات التجاذب المستمرّ، المتّسم بالاحتواء أو التصادم.

و هما ضرورتان لا يمكن لأيّ مجتمع الاستغناء عن إحداهما. فكل سياسة حكيمة تُؤسّس على رصيد ثقافيّ ثريّ. وكل ثقافة هادفة ونافعة للفرد والجماعة، يدعمها فكر سياسيّ سليم وحكيم.

و انطلاقا من هذه الفرضيّة، نتساءل: أيّهما أولى للمجتمع، رجل الثقافة أم رجل السياسة؟ وأيّهما في حاجة ماسة إلى الآخر؟ ما سبب الخلافات - منذ العصور القديمة - بين المثقف والحاكم؟ وبالمقابل، أليس من الحكمة أن تأتلف الثقافة والسياسة لخدمة المجتمع وترقيته فكريّا وماديّا؟

لذا، وجب أن تكون كل من الثقافة والسياسة خادمة للأخرى. وتكون رسالتا المثقف والسياسي، بناء مجتمع يسوسه رجال مثقّفون، ونساء مثقفات.

إنّ ما نشاهده، هنا وهناك، من أزمات اجتماعيّة واقتصاديّة وأخلاقيّة وسياسيّة وعرقيّة، راجع إلى خلل في المنظومة التعليميّة والثقافيّة، وناتج عن انقطاع علاقة التعاون المثمر بين الثقافي والسياسي. أي، أنّ الأزمات السياسيّة – وكلّ الأزمات الأخرى - هي وليدة الأزمة الثقافيّة إذا أصيبت في الصميم، وتراجع دور المثقف في تثقيف العقول، وترشيد الأخلاق، وتقويم السلوك.

لا أحبّذ لغة الخضوع والاستسلام من جهة، ولا لغة القوّة والسيطرة من جهة أخرى. فإذا استوعب المثقف رسالته الثقافيّة، القوميّة والإنسانيّة، وأدرك الرجل السائس دوره، والتزم بمهامه الدستوريّة والتنفيذيّة، انمحت فجوة الخلاف بينهما، وساد بينهما الائتلاف والتعاون على أسس الحريّة والعدالة والشورى والديمقراطيّة (المهذّبة)، وقبول التداول على السلطة بشكل سلميّ وسلس، ورعاية المصلحة العامة للرعيّة وتقديمها على المصلحة الخاصة.

و بالعودة إلى الوراء، نلاحظ أنّ علاقة المثقف برجل السياسة - منذ القديم – كانت تشوبها الكثير من التجاذبات والصراعات والتناقضات، خاصة في المجتمعات القائمة على حكم الفرد المستبّد برأيه والمتفرّد به، أو العصبة القبليّة أو الملكيّة أو الأميريّة. كما كانت تكتنفها – أيضا – الولاءات والاحتواءات القائمة على الطمع والقرابة العائليّة والقبليّة والعشائريّة والإثنيّة.

كانت علاقة الشاعر العربي في جزيرة العرب، قبل الإسلام، بقبيلته، علاقة ولاء تام لها. فقد قال الشاعر الجاهلي، دريد بن الصمّة: وهل أنا إلا من غزيّة إن غوت * غويت وإن ترشد غزيّة أرشد.

فهو لسانها الناطق في السلم والحرب ووسيلتها الإعلاميّة وصداها عبر الزمان والمكان ؛ يفتخر بمآثرها وملاحمها البطوليّة ويمدح شيوخها، ويهجو أعداءها، ويرثي أمواتها وقتلاها.

أمّا الشاعر الخارج عن طاعة القبيلة، والمتمرّد عليها – ولو كان على حق – فهو شاعر صعلوك، عقوبته، طرده من القبيلة، وتجريده من الانتماء لها كليّا.

ولم تكن ظاهرة الصراع بين الحاكم المستبّد والمثقف – مفكّرا كان أم شاعرا أم ناثرا – تخصّ مجتمعا معيّنا، أو بيئة بشريّة دون أخرى، أو عصرا دون آخر. بل كانت ظاهرة إنسانيّة عامّة، لم ينج منها كيان بشري، قديم أو حديث أو معاصر.

فقد كان المثقف في نظر الحاكم المستبّد يمثّل خطرا محدقا على دواليب السلطة. لهذا، كان الحاكم يلجأ إلى وسائل لإغراء المثقف بالمال أو الجاه أو المنصب، وضمّه إلى القطيع لتكميم فمه، وعقل لسانه، وجعله خادما مطيعا للسلطان، خاضعا لحاجياته ومآربه.

أمّا إذا رفض دخول بيت الطاعة والالتحاق بالقطيع، والخضوع لرغبات الحاكم المستبّد، فسيعرّضه للاضطهاد الجسدي والمعنوي، فيسجنه ويذيقه ألوانا من العذاب النفسي أو يقوم بنفيه، وفي حالات أخرى يُقدم على اتّهامه بالزندقة أو الخيانة العظمى، ثم تصفيّته.

و قد سجّل لنا التاريخ الإنساني الكثير من المآسي التي ألحقها الحكام المستبّدون بثلّة من المثقّفين الأحرار، الذين أبوا إلاّ أن يعيشوا أحرارا، ورفضوا أن يكونوا خدما في بلاط الاستبداد.

هناك الكثير من المثقفين والفلاسفة الأدباء والشعراء والفنّانين - قديما وحديثا - ذهبوا ضحيّة دفاعهم عن حريّة التفكير والتعبير، وممارستهم لهذا الحق الفطري.

فقد حوكم الفيلسوف الأثيني سقراط (470 ق. م – 399 ق. م)، عام 399 ق. م وأدانته حكومة أثينا الديمقراطيّة بتهمة الإلحاد وإفساد الشباب. وهكذا، ذهب ضحيّة حريّته ومبادئه وأفكاره الفلسفيّة المستنيرة، ورفض أن يكون لعبة في يد الحاكم الأثيني.

كما تعرض الفيلسوف والطبيب والقاضي الأندلسي المسلم أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد المعروف بابن رشد الحفيد (520 ه – 595 ه) إلى الاضطهاد الجسدي والنفسي، لا مثيل له – وإلى النفي إلى مراكش، من الحاكم السلطان والخليفة الموحدي ببلاد المغرب أبو يوسف يعقوب بن يوسف المنصور بالله. (1160 م - 1199 م). وكان ذلك بسبب أفكاره ومواقفه الجريئة من الفلسفة، حيث رأى ابن رشد أن لا تعارض بين الدين الإسلامي والفلسفة.

أمّا الأدباء، فأشهر من تعرض للأذى والتصفيّة الجسديّة، لاتهامه بالزندقة، هو الأديب اللامع، عبد الله بن المقفع، (106 هـ – 142 هـ) (724 م – 759 م) صاحب الأيقونة الأدبيّة في مجال القصص الرمزي (كليلة ودمنة) وكتابي (الأدب الصغير والأدب الكبير).

و لم ينج من الاضطهاد المادي والمعنوي والتهميش والإقصاء الفيلسوف المتصوّف والأديب البارع، أبو حيان التوحيدي (310 هـ – 414 هـ) (922 م – 1023 م).

جاء في كتاب بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة للإمام جلال الدين السيوطي، أن أبا حيان لما انقلبت به الأيام رأى أن كتبه لم تنفعه وضن بها على من لا يعرف قدرها، فجمعها وأحرقها، فلم يسلم منها غير ما نقل قبل الإحراق. وقد أشار إلى هذه الحادثة ياقوت الحموي أثناء ترجمة له في معجم الأدباء.

و دفع الفيزيائي والرياضي والفلكي الإيطالي غاليليو (1564 م – 1642 م) ثمن اجتهاده العلمي، واتُّهمته الكنيسة بالهرطقة ومعارضة تعاليم الإنجيل. ثم قامت بردّ اعتباره سنة 1741 م، وقدمت له اعتذارا سنة 1983 م. وبعد زهاء ثلاثة قرون من وفاته. وفي عصرنا، تعرّض الكثير من المثقفين في الشرق والغرب، وفي المجتمعات (الليبرالية) و(الديمقراطيّة) و(البراغماتيّة)، تعرّضوا إلى ألوان من الاضطهاد من لدن السلطة المستبدّة، أو أعوانها من الجماعات الإرهابيّة، ومنهم: منظّر الشيوعيّة في فرنسا، روجي غارودي، الذي أسلم لاحقا، والفنّان الفلسطيني ناجي العلي، الذي اغتيل في لندن، والروائي الكبير نجيب محفوظ، الذي تعرض لمحاولة اغتيال، ويوسف السباعي المغتال، وفرج فودة الذي اغتيل في القاهرة، وغيرهم.

لقد كانت السلطة السياسيّة المستندة على السلطة الثيوقراطيّة - وما زالت -، تمارس ألوانا من الاستبداد والحجر على المثقفين والأدباء والفلاسفة، الذين يغرّدون خارج سربها. كما تمارس سياسة الإغراء المالي والرشوة بالمناصب السياسيّة والامتيازات الاجتماعيّة، من أجل احتواء بعض الأصوات الأدبيّة والفكريّة (الهشّة)، المناهضة لسياستها، وجرّها إلى معسكرها.

و رغم التطوّر العلمي والتكنولوجي الهائل، بعد النهضة الأوربية، فقد بقي المثقف، في عين السلطة السياسيّة المستبدّة والسلطة الثيوقراطيّة الرجعيّة، عدوّا لدودا، وخطرا محدقا بهما. وهذا ما حدث، فعلا، للمثقفين والأدباء في المعسكر الشرقي كلّه، والذي الاتجاه الشيوعي، والفكر الشمولي.

فقد ألغت السلطة الشيوعيّة مبدأ التعدّد السياسي والفكري والأدبي، وألغت حريّة التفكير، وألزمت المجتمع بأفكارها الحزبيّة الضيّقة. وأخرجت للأدباء بدعة (نظريّة الالتزام في الأدب)، وهي في حقيقتها (نظريّة إلزام)، هدفها إلغاء حريّة التفكير والتعبير. وقد أدى، هذا السلوك القهري، من لدن السلطة، إلى تدهور الإبداع الأدبي الأصيل، وتراجع الفكر الفلسفي الحرّ. ولو قمنا بإجراء موازنة – مثلا - بين الأدب الروسي قبل الانقلاب الشيوعي، وبعده، لاكتشفنا تلك الفروق الشاسعة بين أدب الحريّة وأدب (الالتزام) المزعوم، وهو في حقيقته أدب (إلزام)، منزوع الحريّة. إنّ أدباء الفترة الشيوعيّة، عجزوا عن الإبداع والتجديد والإمتاع، فكان أجبهم شبيها بمناشير حزبيّة للحزب الحاكم، وزعيمه الواحد الأوحد. وتنطبق هذه على جميع البلدان – العربيّة وغير العربيّة - التي اعتنقت الفلسفة الإيديولوجيّة الشيوعيّة والتوجّه الاشتراكي، وانخرطت في النظريّة الشموليّة.

فالثقافة قبل السياسة، لا العكس. والمثقف – حتما - مقدّم على السياسي فرضا وواجبا، لا نافلة أو استحبابا. وما نراه من تخلّف مميت، وعسكرة للمجتمع، وانقلابات عسكريّة داميّة، وجوع فظيع، وحروب أهليّة مستمرّة، مبعثه كلّه، إهمال الثقافة، وتهميش المثقف وإقصائه، وسيطرة رجل السياسة الطاغي - المتخرّج من مخابر المخابرات - على جميع مناحي الحياة، مدعوما، تارة بالقوة العسكريّة، وتارة بالسلطة الثيوقراطيّة، وتارة بالدهماء الجاهلة لحقوقها وواجباتها.

***

بقلم: الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

في المثقف اليوم