قضايا

مفهوم العنف الاجتماعي.. دلالاته وأشكال تجليه (8) ما الإذلال؟!

(تستغل المجتمعات المعاصرة الخزي والإذلال كتقنيات اجتماعية وسياسية، لممارسة السلطة – أوتا فريفيت)(1)

غالبا" ما يذكر الكتاب والباحثين - حين يتعلق الأمر بمباحث حقوق الإنسان وما يتصل بها ويرشح عنها من القضايا والمسائل المتعلقة بكرامة البشر وعزة نفوسهم - عبارة مفتاحية مضمونها أن؛ ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، للإشارة إلى أهمية الجانب المعنوي والرمزي في حياة الإنسان، لاسيما في المجتمعات التي تهدر فيها الكرامة وتنتهك فيها الحقوق وتستباح فيها الأرواح. وعلى ذلك فان مفهوم (الإذلال) يستهدف كسر صلابة الإرادات المعارضة، وتحطيم إباء النفوس المقاومة، واختراق ممانعات العقول الرافضة، بحيث يسهل تليين الأولى، والتمكن من ترويض الثانية، والنجاح في تنميط الثالثة.

ولعلنا نصادف – في الغالب - في إطار تفاصيل حياتنا اليومية وعلاقاتنا الاجتماعية الكثير من حالات التعرض للخزي والإذلال، والتي لا يخلو من مظاهرها وعواقبها مجتمع من المجتمعات البشرية، بيد أن تلك المظاهر تختلف وتلك الأنماط تتباين ما بين مجتمع وآخر وما بين حقبة وأخرى. لا بل إن أشكالها تتنوع ومستوياتها تتدرج ضمن نفس المجتمع الواحد وخلال ذات الحقبة ولكن في سياقات أخرى، على خلفية ما يتعرض له هذا الأخير من حراك بين طبقاته وتشابك وتنوع في علاقاته. ولذلك (على الرغم من هذه الاختلافات فان لغتنا اليومية لا تفرق بوضوح بين الخزي والإذلال، يعود هذا من ناحية إلى الحدود السائلة بينهما، وازدياد اختلاط أشكالها في العصر الحديث)(2).

ولغرض التفريق بين عملية (الإذلال) وبين الممارسات الأخرى المحايثة لها والقريبة منها مثل أساليب (الاهانة) وطرائق (الخزي) التي يتعرض لها الإنسان على سبيل المثال، فان الباحثة (أوتا) تحثنا على ضرورة التمييز ما بين حجم (الإساءة) المستخدمة، وبين مستوى (الضرر النفسي) الذي تحدثه في شخصية الطرف (المهان). ولهذا فهي تطرح سؤلا"ثم تجيب عليه بالقول (ما هو الشيء الذي يميز الاهانة عن الخزي، أو الإذلال إذن ؟!. يعبر الخزي عن الاحتقار والاستخفاف، ويدل الإذلال بشكل قاطع على الاحتقار. يتعرض من تنتهك كرامته، أو من يتعرض للخزي دائما"إلى انتهاك شرفه، بل أكثر من ذلك؛ فالهدف هو تدمير الإحساس بالشرف والكرامة، الذي يؤدي في النهاية إلى احتقار الذات. من يتعرض للإذلال أو الخزي علنا"أمام جمهور من الناس، يجد صعوبة في إعادة بناء (قيمته الاعتبارية) مرة أخرى، كما لن يكون سهلا"عليه أن يطالب مرة أخرى (بحقه في الاحترام). أما الاهانات، فإنها بالمقابل أقل وطأة، لأنها تتبع منطق التحدي الذي يمكن الردّ عليه)(3).

ومما يفاقم مشاعر الذل والمهانة لدى الإنسان الذي يعاني وطأتها، ليس فقط كونه نمط من أنماط العنف الناعم الموجه من قبل الآخر (الجواني أو البراني) صوب الذات، تعبيرا"عن عدم التكافؤ في حيازة عناصر القوة ومصادر السلطة فحسب، وإنما بسبب اقترانه بالأحاسيس المتعلقة بالجانب الشخصي / الذاتي، أكثر مما تشي بالجانب الاجتماعي / الموضوعي. ففي الوقت الذي قد يحسه البعض ويفسره على أنه فعل يستهدف (إذلال) الشخص المعني وكسر هيبته، ربما لا يراه البعض الآخر سوى شكل مقبول من أشكال السلوك الاجتماعي القائم على التراتبية في الأدوار الوظيفية والتدرج في المكانات الاجتماعية، كما يحصل – على سبيل المثال لا الحسر – بين الرئيس والمرؤوس، بين القائد والمقود، بين الإقطاعي والفلاح، بين المستعمر (بكسر الميم) والمستعمر (بفتح الميم).

وإذا كانت بعض جرعات الإذلال المقننة مقبولة اجتماعيا"ومبررة أخلاقيا"- كما يحصل عادة على صعيد الأسرة والمدرسة والثكنة، لأغراض تربوية وانضباطية – فان عواقب أي شكل أو أي نوع آخر خارج تلك الأطر المؤسسة ستكون كارثية بكل المقاييس. لاسيما حين يكون الإذلال صادر من قبل جماعة غالبة ضد أخرى مغلوبة، أو كفعل مسلط من قبل حكومة استبدادية / دولة استعمارية ضد مجتمع مغلوب على أمره، حين ذاك ينبغي توقع إن المجتمع المعني سيكون بمثابة بركان يغلي بالكراهيات والانقسامات والصراعات. حيث (يصبح الشعور بالعار شديدا"وخطيرا"إذا حدث الخزي وسط سياق اجتماعي، فالناس تخاطر بكل شيء من أجل تجنب المواقف المخزية)(4)

***

ثامر عباس

.........................

الهوامش

1. أوتا فريفيت؛ سياسة الإذلال: مجالات القوة والعجز، ترجمة الدكتورة هبة شريف، (دمشق، دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، 2021)، ص20. مضيفة إلى ذلك قولها (حتى يصبح الإذلال، أو الخزي متحققا"فعلا"، فلا بدّ من أن يتم في مكان عام، وبحضور جمهور له دور أساسي وفعّال)، نفس المصدر والصفحة.

2. المصدر ذاته؛ ص29.

3. المصدر ذاته؛ ص16.

4. المصدر ذاته؛ ص27. مضيفة إلى ذلك قولها (لا تعتمد الاهانة في النهاية على (نواقص) أو (عيوب) حقيقية، ولا تمثل خرقا"للمعايير السائدة، فهي مجرد ترديد لكلام غير حقيقي (...) ما ينقص الاهانة إذن هو عنصر السلطة و(العجز)، هذا من ناحية، كما ينقصها من ناحية أخرى سمة العقاب، والاثنان: (السلطة والعقاب) خصائص موجودة في الخزي)، نفس المصدر والصفحة.

 

في المثقف اليوم