قضايا

أزمة المصطلح في منظومتنا اللغويّة المعاصرة

أزمة المصطلح العلمي والأدبي والسياسي، وعواقبها السلبيّة على منظومتنا اللغويّة المعاصرة، حقيقة لا يمكن إخفاؤها أو تجاوزها، أو التهاون فيها أو إرجاؤها إلى حين. فقد غزت الكثير من المصطلحات الأجنبيّة المعرّبة ساحتنا اللغويّة ، وكأنّها مشتقّات لغوية عربيّة الجذور ، دون أن تجد ردعا لغويّا حازما، وكأنّ حرّاس اللغة وحماتها، في مجتمعنا العربي، قد أحالوا عقولهم وعواطفهم على التقاعد المسبق. وأحلّوا، بفتاوي الصمت واللامبالاة، ما حرّم وما كُرِّه، من غير قلق أو خجل.

يلجأ كثير من الباحثين الأكاديميين، وغير الأكاديميين، في العلوم الأنسانيّة والاجتماعية والفلسفيّة وفي البحوث والرسائل الأدبيّة والنقديّة، وفي الكتابات الأدبيّة السرديّة والشعريّة (رواية، مقال، شعر)، إلى توظيف مفردات ومصطلحات أجنبيّة معربّة في متونهم البحثيّة والنقدية والإبداعيّة، بنوع من التباهي والتفاخر. رغم أنّ في القاموس العربي الثريّ ما يقابلها، ويغني عنها.

هذا الصنف من الباحثين والنقاد، يستعملون المصطلح الأجنبي المعرّب، وفي أنفسهم ولع شديد به.

ولو كان هذا التوظيف أو الاقتباس راجع إلى فقر اللغة العربيّة مبنى ومعنى، وضيق أفقها، ومحدوديّة اشتقاقاتها، ومعانيها، ومرادفاتها، لكان الأمر مفهوما ومقبولا ومباحا وضروريّا، ولكانت الضرورة تبيح المحظور، دون حرج أو خجل.

لكن تهافت هؤلاء، على توظيف هذه المصطلحات والمفردات الأجنبيّة، دون سبب، هو ما ينبيء على تدهور المنظومة الفكريّة والفلسفية عند هؤلاء.

لقد تفشّت هذه الظاهرة السلبيّة، بشكل مريع، في ميادين العلوم الإنسانيّة والعلوم الدقيقة؛ في الفلسفة والنقد الأدبي المعاصر، وفي علم الاجتماع وعلم النفس بجميع فروعهما، والعلوم الرياضيّة والفيزيائيّة والطبيّة، وغيرها. وتحوّلت هذه الظاهرة من سلوك شاذ إلى سنّة مستحسنة، وعادة راسخة ومستحكمة في نفوس الكثير من الباحثين والمنظّرين.

وفي رأيي، إنّ هذه الظاهرة لها جذور، زرع بذورها الأولى وفود المستشرقين، وبعض المهجريين، والمنتسبين إلى الجامعات والمعاهد الغربيّة. كما أنّ لها أسباب نفسيّة بحتة، لا علاقة بالبحث العلمي المعاصر. ومنها، الشعور بالدونيّة أمام فوقيّة المصطلح الأجنبي.

إنّ المعاصرة والحداثة، والعولمة، لا تبيح لنا السماح للغة الغير باختراق نسيجنا اللغوي، وتمزيق وحدته، وبعثرته، وبثّ الفوضى فيه.

لماذا تُوظف هذه المصطلحات، ولها في قاموسنا اللغوي مقابلها، من المفردات والترادفات والاشتقاقات؟

(سوسيولغوي، بسيكولوجي، إيكولوجي، بيولوجي، سميائي، سيميوطيقي، سيميولوجي، كوادر، ميكانيزم، الفونيم، المورفيم، الديالكتيك، بوليتيك، تيمة، صالون، فاتورة، كومبيوتر، النات، تويتر، أنستغرام، فيسبوك، ديالكتيك، ديناميك، ميكانيك،...).

ألا يدعو هذا الأمر إلى الاستغراب والتعجّب؟ أهو عجز فكريّ وانحطاط جديد أصاب المنظومة الثقافيّة العربيّة المعاصرة، توارثتهما الأجيال منذ سقوط بغداد 656 ه / 1258 م؟ أم هي علّة نفسيّة، تحوّلت بمرور الزمن إلى عقدة نقض ودونيّة؟ أم هو الولع بعينه بكل ما هو أجنبيّ؟ مصداقا لمقولة ابن خلدون (المغلوب مولع أبدا بالغالب..)؟ أم هو التفاخر، واستظهار الولاء والتزلّف للثقافة الغربيّة؟

لقد لاحظت أنّ بعض المشتغلين في حقل الثقافة عندنا، من المتعلّمين، وأنصاف المتعلّمين، ومن المثقفين وأشباههم، ودعاة العصرنة الغربيّة، والمروّجين لكل ما هو وافد من الغرب، لاحظت أنّهم يوظّفون تلك المصطلحات الأجنبيّة المعرّبة في بحوثهم الجامعيّة وكتاباتهم الصحفيّة بطريقة باذخة، وينطقونها بتشدّق وتفاخر في نقاشاتهم، دون أدنى انتباه لعواقبها على سلامة اللغة العربيّة، واستقامة أسلوبها الأدبي والعلمي.

خلق الله الناس جميعهم، من ذكر وأنثى، على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وألسنتهم، وألهمهم فطرة التعارف والتواصل وتبادل المنافع الدنيويّة ؛ الفكريّة والاقتصاديّة. وكانت اللغة، ومازالت، الوسيلة المثلى للتواصل والتخاطب. ومرّت الظاهرة اللغويّة الإنسانيّة ، في مسارات تطوّرها، ورقيّها، أو اضمحلالها واندثارها – بمراحل شتى، منذ تكلّم الإنسان أول مرّة، وخاطب أخاه الإنسان لأول مرّة.

و قد أكدت الأبحاث اللغويّة ؛ اللسانيّة منها والفقهيّة، بما لا يدعو إلى الشكّ، أنّ كثيرا من اللغات قد انقرضت، كما انقرضت الديناصورات وبعض الكائنات البريّة والمائيّة والفضائيّة، نظرا لانقراض أهلها والناطقين بها، او نظرا لتعرضهم لغزو عدوّ خارجي، أو لجائحة طبيعيّة، ممّا تسبّب لهم في مسخ لغويّ وثقافيّ وفكريّ وفنيّ، أفقدهم هويّتهم الأصليّة.

إن الذين يزعمون – وهو زعم بهتانيّ – أنّ اللغة العربيّة تفتقر إلى المصطلحات العلميّة والأدبيّة والسياسيّة المعاصرة، وهي عاجزة عن مسايرة سنن التطوّر والابتكار والتجديد، إنّما يتهمون أنفسهم بالتقصير والعجز الفكريّ، من حيث يشعرون أو لا يشعرون. فتهمتا النقص والعجز، هنا، لا علاقة للغة بهما، لأنّها بريئة. لأنّ ما أصاب اللغة من علل، مصدره أهلها. فإذا ضعف القوم وذلّوا، ضعفت لغتهم وذلّت، وإذا ارتفعوا، ارتفعت. وإذا سادوا سادت، وإذا اندثروا اندثرت. فالعلاقة جليّة بحتة. لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن تسود لغة قوم، بينما هم في عبودية التخلّف وجهله يرسفون رسفانا.

ما دور المجامع اللغويّة العربيّة؟ أليست هي الحارس الأمين على اللغة العربيّة؟ لماذا تُرِكَ الحبل على الغارب، وصار كلّ هبّ ودبّ وقرأ كتيّبا أصفر، أو حفظ بعض مسائل النحو والصرف والإملاء، يعتقد أنّه سيبويه عصره، ينتحل شخصيّة عالم اللغة الفذ وجِهبذها العارف والخبير والمتضلّع؟

لا بد أن تقوم المجامع اللغويّة العربيّة بدورها في حفظ اللغة من التشويه، وصونها من اللفظ الأجنبي الدخيل، وإثرائها بالبحث والتمحيص والتقييم والتقويم، وتطهيرها من الشوائب اللغويّة، وتصحيح المفاهيم المغلوطة عنها. فاللغة هي عنصر أساسي من عناصر الهويّة، لا يمكن التهاون بشأنها. وهي في صراع دائم مع غيرها من الضرائر اللغوية.

و يبدأ هدم اللغة من الحرف الواحد إلى اللفظة المفردة، إلى الجملة المركّبة، ليصل إلى النص. مثل الطوفان حين يبدأ بقطرة. وغالبا ما تصاب اللغة الآيلة للسقوط أو التهميش أو الإقصاء أو الزوال، في  قواعدها النحويّة والصرفيّة واللسانيّة والفقهيّة. فيلجأ المشكّكون والمروّجون في تهوين " اللحن "، وتلميع ما يسمّى " بالعاميّة أو الدارجة " نطقا وكتابة. ويختلقون معارك وهميّة بين اللفظ والمعنى، وغايتهم مناصرة الفكرة (المعنى) على حساب اللفظ، انطلاقا من زعمهم أنّ المعنى أشرف من اللفظ وأولى منه. والحقيقة، التي لا مناص منها، أنّ اللفظ والمعنى لا يفترقان، مثلهما كمثل الجسد والروح والعقل. فكما أنّ العقل السليم الروح القويّة في الجسم السليم من العلل والنقص، فإنّ اللفظ الشريف يحمل المعنى الشريف.

لا بد، إذن، من إعادة النظر في ما نحن فيه من فوضى المصطلح الأدبي والعلمي. وتُرَدّ الأمور إلى نصابها، وتُسنَد إلى أهل الاختصاص، وتتحمّل المجامع اللغويّة العربيّة مسؤوليتها، وتسترجع دورها اللغوي لصون اللغة العربيّة الفصحى من التشويه واللحن وتغوّل العاميّة وتنمّرها، وخاصة في هذا العصر، الذي سيطرت عليه مواقع التواصل الرقمي، والمهووس بأكذوبة العولمة، بكل أشكالها.

***

بقلم الروائي والناقد: علي فضيل العربي – الجزائر

في المثقف اليوم