قضايا

يوناتان دايان: البحر وأمريكا

يوناتان دايان*

يطرد هرمان ميلفيل نفسه من اليابسة، ويلقي بها، وبكل طيف مخيلته، وأساليب تعبيره وأفكاره في فضاء مائي غير مأمون العواقب – وهو ما أود أن أسميه خبرة أو تجربة، أو محاكمة بشرية. أما إسماعيل "بطل روايته "موبي ديك" فإنه يشعر بالجفاف ويفقد قدراته وهو على اليابسة، ويختار أن يمضي إلى البحر. إنه لا يبدل موضعه، وإنما أبعاده، ويتحول إلى نمط وجودي لا يشبه سواه. ويصبح مثل مبدعه، ميلفيل، الذي يعود للبحر، بعمل بعد عمل.. والتكرار كما نعلم يخفي ضمنه دافعا  له مكانة علة أو سبب.  ويجب النظر للصور والأخيلة المتكررة، فيما يخص فضاء المياه المفتوحة على الأفق، كتعبير عن محتوى متميز، أو دافع ضروري يخفي وراءه موقفا ضد اليابسة. 

إن البحر مساحة أو مكان يحتفظ بعلاقة قريبة مع ما يسميه الأمريكيون: الخط الأمامي، المجهول، البراري المفتوحة، فضاء التوحش، الخوف، العزلة الوجودية التي لم يستعمرها البشر. وتجربة الإنسان مع الغمر والعصر المائي هي تجربة تجريدية تحتمل كل أشكال غياب الحدود، وبالنتيجة غياب أي نقطة مرجعية يمكن الاعتماد عليها. وهكذا يكتشف الإنسان طبيعته الضعيفة.

إنه لا مفر من ولادة إنسان جديد في عالم البحار. فالبحر هو جيب، يتجاوز معنى التضاريس التقليدية، وهو نوع من أنواع الهيتروتوبيا، ولا يمكن دراسة وفهم مواصفاته عن طريق المقارنة. وهذا ينطبق أيضا على بحر ميلفيل، ولنستوعبه علينا أن  نفهم اليابسة، قارة أمريكا، وأن نفكر بالنظام الثقافي والأدبي الذي كان سائدا فيها.

يسمي ماثيسين، وهو ناقد أدبي، عصر ميلفيل باسم " النهضة الأمريكية".  ويقصد بذلك ازدهارها الثقافي، فهو من أهم صفات الفترة التي سبقت الحرب الأهلية. وخلالها ظهر على المسرح وبالتزامن ظواهر أدبية عملاقة مثل إمرسون ودكنسون وهوثورن وويتمان وإدغار ألان بو. وهؤلاء هم الآباء المؤسسون لقوانين الأدب الأمريكي الحديث، فهم موجودون اليوم بقوة في حاضر النشاط الأدبي.  ولكن مشكلة أمريكا الأساسية مع الأدب والفن تبدو واضحة منذ عنوان كتاب ماثيسين. فكلمة نهضة تدل على الإحياء والولادة الجديدة، وهي أصلا ترمز لعودة الثقافة الإغريقية الكلاسيكية، وبزوغ فجرها منذ القرن الخامس عشر على كل أوروبا.  أما بالنسبة للنهضة في أمريكا بالتحديد، علينا أن نسأل السؤال التالي: متى بدأت ، وفي أية ثقافة وأي وقت ومكان؟. فكلمة "أدب أمريكي" تشير لكمية من الكتابات، وكانت كمية هامة في العصر الذي تكلم عنه ماثيسين. وفي تلك الفترة بالذات ارتفعت وتيرة النقاش حول معنى النهضة داخل دوائر النخبة. ففي عام 1837 ألقى رالف والدو إمرسون محاضرة في هارفارد. وكان عنوانها "الأكاديمي الأمريكي"، ودعا مستمعيه لأن يعزلوا أنفسهم عن أساليب التفكير التقليدي الأنغلو أوروبي. هذه المحاضرة، نشرت لاحقا بعنوان "مثقف أمريكي يعلن الاستقلال"، وتركت انطباعا هاما في نفوس عدد كبير من الشباب المهتمين بالدراسات الإنسانية. ولكن في الحقيقة بعد التأمل في جذور إمرسون الفلسفية، والتي رسم بها صورة  ذهنية للفنان الأمريكي المثالي، أنت تعود إلى أوروبا من تحت مياه المحيط.  لقد كان إمرسون مرتبطا  بالفلسفة التي تطورت بعد الفيلسوف كانت على يد كل من فيختة وشيلنغ وهيغل. وقد وصلت هذه الأفكار إليه من خلال كارلايل وكولريدج، وكلاهما إنكليزي. ومنذئذ كان الأوروبيون قد بدأوا موجة من الهجدرات إلى أمريكا.  ومن الصعب، إن لم يكن من باب الإستحالة، أن تجد ما نسميه حاليا "الأدب الوطني" ، قبل بوادر "النهضة" التي تكلم عنها ماثيسين. فقبل بنيامين فرانكلين لم يكن هناك نتاج أدبي أمريكي، وإنما فقط مقالات لاهوتية كتبها لاهوتيون متزمتون.  وحتى فرانكلين نفسه كان تحت تأثير زياراته إلى باريس. كذلك إن هنري وردزورث لونغفيلو كان يعتقد أن  الأدب الأمريكي ليس إلا استمرارية للإنكليزي.

أضف لذلك لم تكن عند كاتب مثل واشنطن أيرفنغ أية فرصة ليثبت نفسه إلا بعد  الخروج من عباءة الأدب الأوروبي. فقد كان يكرر ما فعله والتر سكوت. وقل نفس الشيء عن  جيمس فينمور كوبر، فقد كان هدفه إنتاج "عمل فني أمريكي صرف"، ولكن كانت تحركه روح المنافسة مع أمثاله في أوروبا، وبالأخص كتابات السير والتر سكوت. والطريقة التي اعتمد بها الأدب الأمريكي على الماهية الأمريكية، أن يكون أمريكيا حقا، ارتبطت بلا أي شك بالمخاض السياسي الدراماتيكي الذي اجتاح العالم الجديد عام 1776، حينما انتقلت أمريكا بالتدريج من كونها الطفل الأوروبي المفضل إلى كونها الثائر الأول ضد أوروبا.

لقد آل معاصرو ميلفيل من أدباء أمريكا على أنفسهم، عن دراية أو باللاوعي، وجهارا أو بصمت مطبق، وعلنا أو خفية، أن يحملوا لواء الثورة المضادة لإطار اللغة التي هم في نطاقها. وذلك ليفتحوا ممرا للهروب أو الخلاص، وليتيسر لهم شأن تدبر ولادة ثانية في عالم آخر.

بهذا المعنى يمكن أن تربط مشكلة ميلفيل، وهي كتابة أدب أمريكي بلغة شكسبير، مع مشكلة كافكا، الذي حاول أن يكتب بلغة غوتة. وهذه هي المشكلة المركزية في الأدب الأمريكي.  وكما يقول إيال بيريز، إنها تعبر عن مشكلة أمريكا نفسها. فالقارة الجديدة كانت تعتبر "غريبة" على تفكير عصرها. وفكرة الاعتراف الكامل بها، والتعامل معها عمليا وليس نظريا فقط، قاد إلى صدام بين مفهومين أساسيين – اليوتوبيا والقيامة. فاليوتوبي تخصص بولادة أمريكا، العالم الجديد. والقيامي تكلم عن موت أوروبا، العالم القديم. وتجد مثل هذا الرأي عند أفيهو زاكاي. فجذور فكرة نهاية العصر الأمريكي تتكلم أيضا عن هجرة أهم مدرستين لاهوتيتين من أوروبا إلى أمريكا – البروتستانتية والبيوريتانية الإنكليزية – وكان لهما هدف واحد: بناء الفردوس أو مملكة الرب على الأرض. وفي الخيال الديني، كان تصميم العالم الجديد يأتي على نحو ثيوقراطي، فهو لا يزدهر إلا على أنقاض وإنهاء العالم القديم. ولذلك أنت تجد في البحر، الذي صوره أدب ميلفيل، عنصر إبهام، يعمل على التركيب والهدم في نفس الوقت، يقتل ويحيي، يبني أمريكا من الصفر ويخفي أوروبا وراء الستارة. بتعبير آخر، كان على الكاتب الأمريكي في تلك الفترة أن يتعامل مع تراثه الأوروبي الذي تغلب عليه الهوية الإنكليزية. فاللغة الإنكليزية هي الوسط الذي يتعايش من خلاله. وليبني فضاءه الخاص به، أو ليؤسس للكاتب الأمريكي الأصيل غير المقلد – وميلفيل من هذا النوع – توجب عليه أن يتبع أسلوب "الكتابة الماحية". وبهذه الحالة نحن أمام كتابة فوق كتابة سبقتها. بمعنى كتابة شيء وإلغائه فورا، إنه طباق نصي، نشاط يهدم الأساسات التي يبني عليها. 

***

*من كتابه "الشعرية المائية: الحوت والبحر". 

ترجمة: صالح الرزوق /بإذن مكتوب من المؤلف

في المثقف اليوم