قضايا

هكذا نتغيَّر.. مختارين أو مرغمين

سألني أحدُ الأعزاء عن تأثير التكنولوجيا على الهوية الفردية: ما طبيعة هذا التأثير وكيف يحدث، وهل لنا يدٌ في تحديد اتجاهاته وانعكاساته؟

وكنت قد لاحظت في كتابة سابقة أنَّ هذه المسألة تُعامَل بنوع من الاستخفاف. ولذا فهي لا تُدرس بعناية، ولا تُعامل من جانب الباحثين المحليين كتحدٍّ جديٍّ أو داهم. هناك أيضاً من يحصر المسألة في تأثر الشباب بسلوكيات المجتمعات التي يتواصلون معها ثقافياً، من خلال الإنترنت أو الإعلام المرئي أو السفر، ولا ينظر إلى التحول الذهني الذي يحفر في العمق.

حسناً. دعنا نضع النقاط على الحروف: من حيث المبدأ نحن لا نتحدَّث عن تطور تكنولوجي منفرد، أو معزول في جوانب معينة من الاقتصاد. صحيح أنَّ علاقتنا بالتقنية مقصورة على استعمال منتجاتها، فنحن لا نشارك في إنتاجها أو تطويرها. مع ذلك فإنَّ هذا الاستعمال لا يجري في فراغ، بل هو جزءٌ من نمط معيشي/ اقتصادي جديد، وهو يشير إلى قدر من المعرفة بطبيعة هذه التقنية وحدودها، واستعداد (نفسي) للتنازل عن التزامات، كانت تبدو في الماضي ضرورية جداً. ومثالها البسيط هو تقبل امتلاك الشاب والفتاة لهاتف خاص لا يخضع لرقابة العائلة، وهو أمرٌ لم يكن متاحاً في الماضي، سيَّما بالنسبة للفتيات (الواقع أنَّه ما زال مشكلة وسبباً للنزاع في وسط العائلات الأشد تحفظاً).

إنَّ التقنية لا تأتي منفردة. فهي تعبيرٌ عن تحول حدث فعلاً في نفس صاحبها أو مستعملها. إلى ذلك فهي تفتح الباب أمام فرص جديدة، أي تحولات أخرى ممكنة. إنَّ الذي أمامنا ليس مجرد «شيء» أو «سلعة» بل رمزٌ لخيارات حياتية مختلفة عن خيارات آبائنا. الواقع أنَّ آباءنا لم يرفضوا هذه الخيارات، ولا نعلم كيف سيكون موقفهم منها، فهم لم يعرفوها ولا هي فرضت نفسها على حياتهم، كما جرى لنا.

التكنولوجيا تغيّر صلب حياتنا. فهي تؤثر بعمق على مصادر المعيشة وعلى طريقة العيش، كما تلغي مصادر للمعرفة اعتدنا عليها، وتستحدث مصادر جديدة. هذا يعني – ضمنياً - أنَّها تقطعنا عن أفق تاريخي كنا جزءاً منه، وتعيد وصلنا بآفاق جديدة مختلفة. نحن إذن نتحدَّث عن تطورات متوازية، تنعكس – قسراً – على حياة كل فرد فيتغير موقعه من الخريطة الاقتصادية للبلد، لكنَّه قبل ذلك يغير رؤيته لنفسه وطريقة عيشه، ويتحقَّق هذا التغير من خلال مقارنة بين ذاته السابقة وذاته الراهنة، وعلاقة كل منهما بالأشخاص الآخرين الذين يعرفهم أو يسعى للتعرف عليهم.

انظر إلى نفسك وإلى الأشخاص الذين تتعامل معهم اليوم، كيف كنتم قبل 30 أو 40 عاماً: أعمالكم، مصادر عيشكم، نطاق علاقاتكم الاجتماعية، ثقافتكم، علاقتكم مع آبائكم وإخوانكم، تطلعاتكم، رؤية كل منكم لنفسه وللعالم المحيط. كل من هذه العناصر يساهم في تشكيل ذهن الإنسان، أي تشكيل شخصيته أو هويته.

قارن بين أعضاء الجيل الذي تنتمي إليه، والجيل التالي لكم: الفوارق في مصادر الدخل والقيم الأساسية، وفي التفكير والتطلعات والمخاوف، وفي سرعة الانتقال بين الأفكار والقناعات.

الفوارق بين الجيلين تعكس التحول في العوامل المؤلفة للهوية، أي العوامل التي تؤثر في فهم الشخص لنفسه وعالمه.

زبدة القول إنَّ تحوّل التقنية والاقتصاد يغيرنا بعمق، لكن ببطء. وهو يحدث لأنَّنا اخترنا الانضمام إلى العالم الجديد، بما فيه من اقتصادٍ وتقنية ومعارفَ وقيمٍ.

***

د. توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

 

في المثقف اليوم