قضايا

حول النقد الأخلاقي للتراث

لا أذكر حقبةً من الزمن شهدت نقداً للتراث والمعارف الدينية، نظير ما نشهد ‏اليوم. لعلَّه حصل في ستينات القرن العشرين، أيامَ ما كان يعرف بالمد الشيوعي. لكنِّي ‏لم أعاصره كي أحكمَ عن خبرة، ولا اطلعت على تسجيل تاريخي لما جرى، كي أسند إليه. ‏وغرضي هنا هو تنبيه الناقدين إلى الإطار التاريخي للفكرة أو الممارسة موضع النقد. ‏وأذكر هنا عنصرين على وجه التحديد:

الأول: قيمة الفكرة أو الفعل في زمنه الخاص، رجوعاً لمعيار الحُسن والقبح ‏العقليين.

الآخر: موقع الفكرة أو الفعل في سياق التطور العام للأفكار والممارسات ‏الاجتماعية.

دعنا نأخذ مثالاً نعرفه جميعاً، هو الفتوحات الإسلامية. فالمتفق عليه أنَّ غزو البلاد ‏الأجنبية ليس أمراً طيباً. ولو دعا أحدٌ اليوم إلى غزو أي دولة، صغيرة أو كبيرة، لنشر ‏دعوة الإسلام، لقابله غالب المسلمين بالإنكار والاستهجان.

- لماذا؟

‏ - لأنَّ نشر الدين بالقوة لم يعد «فعلاً حسناً» في منظومات القيم السائدة اليوم. ‏ولأنَّ غالب سكان العالم متفقون على احترام القانون الدولي وسيادة الدول، أياً كان ‏دينها. واحترام السيادة يقتضي عدم غزوِها أو إلزامها بعقيدة لا ترضاها.

وخلال الثلاثين عاماً الماضية، جرَّب بعض المسلمين استعمال القوة والقهر في ‏فرض عقيدتهم. لكنا نعلم أنَّ عدد الذين التحقوا بهذه المشاريع، لم يتجاوز بضع مئات‏، وأنَّ كثيراً ممن ساندهم أول الأمر، ما لبث أن تراجعَ وأنكر حين انكشف ما تحمله هذه ‏المشروعات من كوارث.

هذا يثير بذاته سؤالاً حرجاً: إذا كان الفتح ونشر الدين بالقوة أمراً طيباً، فلماذا لا ‏يسعى له المسلمون اليوم؟ وإذا كان سيئاً، فلماذا لا يتبرأون من فتوحات أسلافهم؟

الجواب ببساطة: أنَّ الفعل ذاتَه قد يكون حسناً في زمنٍ وقبيحاً في زمنٍ آخر. ‏مرجع التحسين والتقبيح ليس كتب التراث. الأخلاق اعتبارات عرفية، وعرف العقلاء ‏يتطوّر ويتغيّر بتأثير عوامل عديدة. بعبارة أخرى، فإنَّ الغزو لأغراض ‏جيوبوليتيكية، أو لنشر الدين أو تعزيز الاقتصاد، كان «فعلاً حسناً» عند عقلاء الأزمنة ‏القديمة. ‏لكن دول العالم قرَّرت تقبيح هذا الفعل في منتصف القرن السابع عشر، حين ‏اتفقت دول أوروبا على معاهدة وستفاليا سنة 1648، واعتبرت الحدود ‏القائمة لكل منها، نهائية، وأنَّ التجاوز عليها عدوانٌ يستحق الإدانة.

منذ ذلك الوقت اتَّجه العالم لاستحداث بدائل للحرب، حتى وصلنا إلى وقت بات ‏فيه الغزو وتجاوز الحدود «فعلاً قبيحاً» عند الجميع. ‏

ما أردت الوصول إليه هو أنَّ نقد أي قول أو فعل في الماضي، انطلاقاً من ‏دوافع أخلاقية بحتة، يجب أن يراعي أيضاً موقعه الزمني، لا أن يطلقه إطلاق المسلّمات العابرة للزمان والمكان. فلو استنكر أحدُنا الحروب القديمة، انطلاقاً من أخلاقيات اليوم، ‏فلن يكون منصفاً. ولو دعانا للحرب مستدلاً بسيرة الأسلاف، فلن يكون مصيباً؛ لأنَّ ‏قيمة الأفعال لها إطار زمني وليست مطلقة.

مثال الفتوحات قابل للتطبيق على نظائر كثيرة، بما فيها أحاديث نبوية وروايات ‏عن الصحابة، وكذلك أفعالهم ومسارات حياتهم. فقيمتها متصلة بزمنها، سواء صُنفت ‏يومئذ كأفعال حسنة أو قبيحة، وسواء كانت يومها مقبولة أو مرفوضة.

زبدة القول: ما نستنكره اليوم ربما كان حسناً في وقته، أي قبل ألف عام أو أكثر، ‏وما نقبله اليوم، ربما كان مستنكراً وقبيحاً في ذلك الزمان، فلا ينبغي لومُ الناس أو ‏اعتبارهم خاطئين، لمجرد الاختلاف في تقييم قول أو فعل.

***

د. توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

في المثقف اليوم