قضايا

تأملات في المشروع التجديدي للدكتور محمد التهامي الحراق

في راهنية المشروع التجديدي وضرورته

بدءاً يجب عليّ التنويه الى انني على المستوى التنظيري العلمي والدراسي البحثي اتفق مع الكثير من النقد الذي يوجه للتجربة الصوفية او العرفان او المذاهب والمدارس الفكرية الاسلامية او للفقه وكل مناحي الفكر والانسداد التي وصلت اليه،.،

لكننا على المستوى العملي والحاجة الراهنة للبحث عن افق خلاص، نحتاج ان نخفف من مثالية فكرية تعاين الواقع بمعايير ثقافة غربية متطورة ولكنها تعجز عن احداث تغيير او زحزحة الوعي الاجتماعي.

 لذلك علينا ان نجد بديلاً واقعياً يحمل افق خلاص ويمكن تطويره بهدوء وروية بدون الحاجة الى انقلاب فكري يهدم المعبد ولن يستطيع ان يبني البيت .

في ضوء ذلك أرى ان اسلم حلّ هو ان نجد نافذة من داخل الواقع الاجتماعي والارث الحضاري للامة، لننطلق منها للتغيير وفتح آفاقها نحو الحضارة والتطور، وتوسيع هذه النافذة لتسمح بمرور انوار التحديث والتغيير والتنمية .

وقد وجدت ان العلامة المجدد والصوفي العارف الدكتور محمد التهامي الحراق يعمل بهذه الطريقة ويسير على هذا النهج، متخذاً من الرؤية الصوفية وبعدها المعرفي وفعالياتها الاجتماعية منطلقاً للانفتاح على التطور الحضاري والنمو الفكري الذي شهدته مسيرة العقل البشري، ومزاوجاً بين انوار الحداثة وانوار الدين في تكامل وصفه ب (الانوار لاتتزاحم) وانما تتكامل ويبني بعضها على بعض (نورٌ على نور) فيزداد الوهج ويعم النور كل ابعاد الكون والانسان.

فيستنير العقل بانوار الدين وروحانيته، وتتعمق الرؤية الدينية وتستضيء بانوار العقل والحداثة .4427 محمد التهامي الحراق

والمطلعون يعرفون ان الافق المعرفي للتصوف قابلٌ للانفتاح على آفاق الحداثة والتجديد المعرفي لانه يعتمد التأويل والرمز والتفكيك في الكشف المعرفي والتعاطي مع النصوص، وهذا اعمق ماتوصلت اليه المناهج الحديثة في الفهم والتحليل، فهو (اي التصوف ببعده النظري العرفان) يمكن تطويره لكي يتماشى مع الحضارة ومناهجها الحديثة في الفهم والتحليل، وهو اجتماعياً يتسق مع التطلع الحضاري الذي يحاول بناء قيم الجمال والمحبة والتعاون واستثمار ثقافات الشعوب وارثها الحضاري لترسيخ هذه القيم ولمعالجة الازمات القيمية والروحية والنفسية والاخلاقية التي تضرب الحضارة في بنيتها وتشكل لها ازمة كبرى، فالتصوف يلبي حاجة دينية ويعيد التوازن النفسي للمجتمع والانسان، ويخلق المصالحة بين شعورهم الديني وحاجاتهم الحضارية والمادية فهو من جانب عبادة وتقرب الى الله مبنية على المحبة لخالق الكون والانبياء والصالحين في مسيرة التاريخ الانساني وللإنسان بكليته كونه صنيعة هذا الخالق ونفخة من روحه وحامل امانة الكون وخليفة الله في الارض، فالتصوف بهذه الرؤية يؤسس لعلاقة انسانية تنبني على محبة الانسان والانفتاح على الاختلاف الفكري والتعددية الثقافية ويؤسس لتعايش سلمي بين البشر جميعاً، وهو من جانب آخر ينفتح على الفنون مثل المسرح والاناشيد (الغناء) والرسم وكل تمثلات الجمال في الابداع الانساني، ويعدها تجليات الابداع والجمال الالهي .

لذلك اعتقد ان الانشغال بالمماحكات والصراع النظري، والبقاء في افق البحث عن النظرية المثالية التي يجب ان تتسق مع آخر نظريات المعرفة الحديثة، لن ينجح في تحريك واقعنا وانما يجعل منّا فقط نقاداً نظريين لا أكثر نجيد صياغة الكلام النظري فقط، لكننا بلا مشروع حقيقي واقعي يحمل افقاً تنويرياً تحديثياً تجديدياً يمكن ان ينقذ المجتمع ويرتقي به ويطوره …

ولنا في تجربة النبي محمد (ص) خير دليل على ضرورة التدرج في المشروع التنويري التجديدي الذي يريد بناء المجتمع والاخذ بيده نحو الخلاص والارتقاء بوعيه وتنوير بصيرته،

 فلو انه بدأ منذ لحظته الاولى في دعوته التجديدية الارشادية الهادية والمؤسسة لمجتمع جديد بنظرية كاملة يلقيها على كاهل المجتمع ويطالبه بتنفيذها والخروج من تخلفه والصعود الى مستوى نظريته لما استطاع ان ينهض بالمجتمع.

 لكنه بدأ بخطوات اولية يرافقها تنظير قرآني يناسب لحظتها التي تتحرك فيها، وبدأت تنمو الخطوات الرسالية بتؤدة وحكمة داخل المجتمع يرافقها تنظير قرآني يرشدها وينبث في حنايا حياتها اليومية وتفاصيل مشكلاتها وهمومها وتطلعاتها حتى وصلت الى مستوى تأسيس الدولة والتشريع لها، وكانت النظرية الجديدة ممثلة (بالقرآن) تتنزل حسب حاجة التجربة الجديدة وتتوسع باتساعها، وكان الذي يعزز النظرية داخل المجتمع ويحولها الى تطبيق عملي في الواقع، هو حامل النظرية النبي بنفسه من خلال (سنته، قوله وفعله وتقريره)، ولذلك نجح في تحويل الاصلاح والتنوير والهداية والتجديد ممثلاً بالرسالة الالهية، الى واقع جديد انقذ المجتمع من البداوة والقبلية والجهل والتخلف والتناحر والاقتتال، وصنع منه مجتمعاً جديداً موحداً وحضارة عظيمة لم ينطفيء نورها وان خفت ضؤوه.

 وكان بامكانه وهو النبي المسدد من الله وحامل الرسالة الالهية، ان يقدم النظرية كاملة (القرآن) ويطلب من الناس تطبيقه، لكنه لحظتها لن يكون مصلحاً حقيقياً وصاحب مشروع خلاص للانسانية، لان شرط الاصلاح والتنوير والتجديد ان يتحلى صاحبه بهذه الصفات:

{هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلْأُمِّيِّۦنَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍۢ}

{لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا *}

فشرط الإصلاح والتجديد والتنوير والهداية وصفة صاحبها ان يكون انموذجاً اجتماعياً قادراً على تطبيق نظريته يعلم الكتاب والحكمة ومتابعة حركة النظرية داخل المجتمع شاهداً على الامة وان يكون مندكاً في المجتمع وعارفاً بخفاياه وحاملاً لهمومه عزيزٌ عليه ماعنتم حريصٌ عليكم رؤوف رحيم بكم، وان يكون قدوةً حسنة للمجتمع ولكم في رسول الله اسوة حسنة، وان يتبع احسن الوسائل واحكمها واكثرها مرونة ورحمة لكي يحبب مشروعه للناس :

{ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ ۖ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ}

{فَبِمَا رَحْمَةٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}

بهذه الواقعية في المشروع ونموه داخل المجتمع وتطوره فيه، وبهذه الصفات في صاحب المشروع والقائم عليه، يمكن ان ينجح الاصلاح والتنوير والتجديد وبناء المجتمع المتحضر وترسيخ الوعي في حركة الانسان داخل المجتمع ..

اعتقد ان علينا ان ننتبه الى الفرق بين افق الوعي النظري الذي نحمله وبين افق الواقع العملي في انحطاطه وتدهوره،

 وان نبدأ خطوات تناسب قدرة الواقع على تحملها، لا ان نكلف الواقع فوق مايطيق فيعجز الواقع عن حمل النظرية وتفشل النظرية في النهوض بالواقع ..

وهذا ماحصل مع اكثر مشاريع التنوير لانها كانت نظريةً مثالية متعاليةً على الواقع، وكانت نرجسية حامليها، ومطالبتهم المجتمع بالارتقاء الى افقهم النظري، دون بذل اي جهد للاقتراب من الواقع وفهمه، وابتكار مسارٍ من داخل هذا المجتمع، وبذل الجهد للعمل على تطبيق نظرياتهم من خلال الواقع وداخله، وتنويره من الداخل، لكشف السبل امامه للخروج من ازماته وخنادقه الى افق الحضارة ورحابة الكون، وعدم الدخول في صراعٍ مع المجتمعات لتبديد ارثها الحضاري تحت ذريعة انه، (الارث الحضاري)، اثقال يحملها المجتمع والانسان على كاهله، وهي بالتالي تعيق حركته، وكان الاجدى ان يتوقفوا مع المجتمع والانسان لكشف هذا الارث الكبير وتفحصه، وتعليم الانسان كيفية التعامل مع هذا الارث، ومايجب ابقاءه حياً منه ونافعاً، وماينبغي عليهم التخفف منه، وتحويله الى المتاحف للتفاخر والاعتزاز به، او تحويل مايحتاج الى احالته الى قاعات البحث والدرس لفحصه وتحليله واستخلاص النتائج منه، لكن الذي حصل ان اغلب مشاريع التنوير اعلنت القطيعة الكاملة مع تراث الامة ورفعت السيف لقتل التراث الاب الروحي لكل امة ومركز هويتها وصانع ذاتها ، فوقفت المجتمعات ضد هذه المشاريع وافشلتها بعدم تبنيها، او في المقابل جاءت مشاريع مضادة تدعو الى القطيعة مع الحضارة والعيش في التراث بكل حمولاته بدون تمييز النافع والضار منه، واعلنت الحرب على الحضارة وانسان الحاضر …

بين هذين المسارين كان لابد من البحث عن مسار ثالث يعي المشكلة ويتخلص من اخطاء التجارب السابقة بطرفيها، فكان المسار الجديد او الانسية الروحية او الانوار لاتتزاحم من اجل تحرير الانسان بالدين لا من الدين او التصوف الحضاري في نسخته الحديثة كما يطرحها العلامة المجدد الدكتور محمد التهامي الحراق .

***

د. احمد حمادي - ألمانيا

 

 

في المثقف اليوم