قضايا

ظريف مصطفى أحمد حسين.. عملاق الفلسفة المعاصرة

ما زلت أومن بل ربما أكثر من ذي قبل بأن أستاذ الفلسفة كما اعتقد هو ذلك الكيان المسكون والمخلوط بروح العطاء الخارق، فهو يمثل الرسالة البيضاء المليئة والمتدفقة في كل الجامعات والمحافل الفلسفية أينما كان وحيثما وجد فلولا هذا الأستاذ ما أطلت علينا نسائم وبشائر التفوق في عالم الفلسفة، وما شعرنا بقيمة الرجال العظماء والمفكرين الأفذاذ، وما تلذذنا بطعم الكلمات والتعليقات الساخرة واللاذعة التي تقطر بها أقلامهم وتلهج بها ألسنتهم وتخطها أناملهم في كبريات المجلات والدوريات العالمية غير عابئين أو مكترثين بما يعترضهم من مصاعب ومشاق.

ويُعد الشاعر والأكاديمي الدكتور ظريف مصطفى أحمد حسين أستاذ الفلسفة المعاصرة بكلية الآداب جامعة الزقازيق، نموذجا مكبرا من أستاذ الفلسفة المعاصرة العملاق، حيث كنت واحدا من متابعيه عن كثب في كل ما يكتبه أو يخطه من منشورات ومقالات على صفحات الجرائد والفيس بوك، وفي كل مرة كان يثير انتباهي أسلوبه النقدي الحاد وتعبيراته الصادمة التي يمكن أن يلاحظها أي قارئ لكتبه ومقالاته.

ومن ناحية أخري وجدت في شخصية الدكتور ظريف مصطفى أحمد حسين وفاء العملاق وقلب الطفل، ومثاقفة الفارس وأريحية المفكر، والنبوغ المبكر، والعبق القديم، وعطر الزمان الجميل وغير ذلك من الخصال، الأمر الذي كان وراء  حيرتي وقلمي في اختيار أحد الجوانب لأتحدث عنه، فراق لي أن أتحدث عنه كعملاق في الفلسفة المعاصرة.

ولم يكن الدكتور ظريف حسين مجرد مفكر مبدع نذر حياته للبحث عن الحكمة متذرعاً بمبادئ الحق والخير والجمال، لكنه كان – قبل كل ذلك إنساناً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى . إنساناً في تفلسفه، ومفكراً في إنسانيته، وبين الإنسان والفكر تتجلى شخصية الدكتور ظريف حسين متعددة الأوجه، كمترجم وكناقد وكأديب.

والدكتور ظريف حسين هو واحداً من الأساتذة الجامعيين الذين استطاعوا بحوثهم ومؤلفاتهم أن ينقلوا البحث في الفلسفة المعاصرة من مجرد التعريف العام بها، أو الحديث الخطابي عنها – إلي مستوي دراستها دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كان في هذا صارمة إلى أبعد حد: فالنص الفلسفي لديه هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه.

ومن هذا المنطلق يعد الدكتور ظريف حسين بلا شك واحدا من أساتذة الفلسفة الكبار في مصر والعالم العربي المشهورين الذين اهتموا في مشروعهم الفكري بالأخلاق والقيم والعقل، ولديه ما يزيد عن ثلاثين كتابُا منشورًا في الفلسفة ما بين ترجمات ومؤلفات؛ تذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر: مفهوم العقل عند هوسرل، ميتافيزيقا الاخلاق عند شوبنهور دراسة نقدية، ومفهوم الروح عند ماكس شيلر، و"الفلسفة الأخيرة"، ومفهوم الإضافة عند مارتن بوبر، ومشكلة الكليات في المنطق المعاصر، وفلسفة اللغة عند ميرلوبنتي، نحو نظرية للأخلاق الكونية .. الخ.

إن كتابات الدكتور ظريف حسين تنتمي – فيما يرى البعض – إلى نمط الكتابة ما بعد الحداثية: أي الكتابة غير النسقية، وهي كتابة لا تتقيد ببناء محدد أو خط سير معين، وإنما تمضي في كل اّتجاه بحسب الحاجة والضرورة التي تفرضها المناسبات البحثية والقضايا الآنية. فكتابات ظريف حسين – في معظمها – كانت أبحاث ودراسات قصيرة أتت بهدف المشاركة في الفعاليات البحثية والدوريات المتخصصة، ولعل هذا كان هو السبب في أن ظريف حسين لم يصرح بكونه يسعى باتجاه إنجاز مشروع فكري ما، ولكنه صاحب رسالة.

ولقد شهد له زملاؤه ومعاصروه له بالدقة، والأمانة العلمية، والثقافة الواسعة .. إلي جانب ما يتمتع به من خلق رفيع، وتمسك بتعاليم الدين الحنيف . ولا غرو في ذلك فهو يمثل منظومة حافلة بالعطاء العلمي الجاد، والشموخ الإنساني المتميز، باحثا ومنقبا، محققا ومدققا، مخلفا وراءه ثروة هائلة من الكتب العلمية، والبحوث الاكاديمية الرصينة، وطائفة كبيرة من المريدين والاتباع الذين أعطاهم خلاصة فكره وعلمه.

نعم لقد كنا نري في الدكتور ظريف حسين نعم الرجل المتوحد الشامخ: سراجا هاديا، عاليا كالمنار، وارفا كالظل، زاخرا كالنهر، عميقا كالبحر، رحبا كالأفق، خصيبا كالوادي، مهيأ كالعلم، لا يرجو ولا يخشي، طاقته لا تنضب، كأن وراءها مددا يرفدها من سر الخلود.

علاوة على كونه واحدا من عمالقة الفلسفة المعاصرين الذين تراهم كشعلة نشاط، إنه لا يكل ولا يمل، وهو يمثل علامة وضاءة ومشرقة ولا يمكن لأي دارس للتصوف الإسلامي أن يتغافل عن الدور الرائد لهذا العالم الشامخ، ومن واجبنا أن نهتم كل الاهتمام بدراسة أفكاره وآرائه، تحية خالصة من القلب لأستاذي الدكتور ظريف حسين الذي أدعو الله أن يمتعه بالصحة والعافية.

بل قد لا أكون مبالغا إذا ذهبت إلي القول بأن الدكتور ظريف حسين يمثل مكانة بارزة في ميدان الفلسفة عامة؛ والفلسفة المعاصرة خاصة بوصفه مفكرا مرموقا ترك بصمة واضحة المعالم في حياتنا الفكرية، وهو بالإضافة إلي ذلك نموذج للأستاذ الجامعي كما ينبغي أن يكون سواء في التزامه بأداء واجباته الاكاديمية والوظيفة علي أحسن ما يكون الأداء أو في ارتباطه بطلابه في علاقة إنسانية رفيعة المستوي في هدي من التقاليد الجامعية التي يحرص عليها كل الحرص، إذ هي دستوره في كل معاملاته مع كل من هو في الوسط الجامعي.

والدكتور ظريف حسين من المفكرين الذين يملكون رؤية واضحة عن تطور تاريخ الوعي الفلسفي والفكر العربي المعاصر وهو لا يعرف الحلول الجاهزة والاجابات المسبقة ولا يؤمن بالمطلقات الانسانية أو الدوائر المغلقة للفكر، منذ ثمانينيات القرن الماضي . وهو قمة في التواضع، فهو الإنسان بكل ما تحمله كلمة الإنسان من معاني ودلالات، فلقد وهب حياته كلها للجامعة: تعليماً وبحثاً، وظل اهتماماته الرئيسية هي اهتمامات أستاذ جامعي يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن، ومن هنا فإنه يمثل القدوة والريادة وستظل كتاباته تمثل المنارة التي يهتدي بها الإنسان في الظلام تمثل الشعلة الخالدة، شعلة الفكر، وما أعظمها من شعلة .

وهنا أقول إذا أردت عزيزي القارئ أن تتعرف علي بعض جوانب وقدرة ومهارة الدكتور ظريف حسين في النقد والتحليل، وإذا أردت أن تتعرف علي براعته الفلسفية وطريقته الفريدة في البحث وراء معاني التصورات والمفاهيم في بحر الفلسفة العميق المترامي الأطراف، فعليك بقراءة كتبه علها تفتح شهيتك لقراءة المزيد من كتاباته وتستحثك للخوض بنفسك في بحار الحكمة ومحيطات المعرفة؛ فلو نظرنا مثلا إلى كتابه الرائع "الفلسفة الأخيرة: رؤية معرفية سلوكية للفكر العربي"، فنجده يتجه فيه إلى تعميق نظراته واستخدام معارفه وأدواته الفلسفية لإصلاح منظومة التعليم والثقافة في المجتمعات العربية التي عانت ولا تزال تعاني من التدهور والانحطاط الحضاري، مركزًا على تطوير المناهج الدراسية وطرق التدريس والمحتوى الدراسي والخطط المسئولة رسميًا عن التعليم. ومن ثم فإن معظم الأهداف التي يصبو إليها الدكتور ظريف حسين هي أهداف تربوية وتنويرية في المقام الأول كما يقول الدكتور حمدي الشريف .

وينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام رئيسية: القسم الأول يتضمن مجموعة من المقالات التي تكشف عن الرؤى الفلسفية النظرية للمؤلّف وآرائه حول القضايا الفلسفية ومواقف الفلاسفة منها وموقفه هو نفسه منها. أما القسم الثاني فيتناول بعض النماذج التطبيقية لرؤيته الفلسفية التي طرحها في القسم السابق، ويلاحظ أن اختياراته لمشكلات بعينها تنم عن وعي وبصيرة قوية بمشكلات مجتمعاتنا وكذلك تنم عن مدى اشتباكه مع الواقع واهتمامه بالمشكلات المهمة التي تؤرق الإنسان العربي والمصري خصوصًا. ويأتي القسم الثالث حيث يتضمن مجموعة من المقالات الكاشفة حول المشكلات التي تشغل عقل الإنسان العربي، وهي مقالات تتسم بالبساطة في العرض والتناول والمعالجة بعيدًا عن اللغة الأكاديمية الصارمة والمصطلحات العلمية الرسمية التي تحتاج إلى أهل الخبرة والتخصص في فهمها.

وفي ضوء هذه الأقسام الثلاثة، حاول المؤلّف تناول العديد من التساؤلات مثل : كيف تتحول الفلسفة من مجرد نِحْلة سرية أو تعاليم خاصة بجماعة معينة يطلقون علي أنفسهم اسم "الفلاسفة"، ويتناقلون تعاليمها بمنهج نقلي مَدرسي صارم، وتنطوي مؤلفاتهم علي تقديس عالٍ للنصوص الأصلية لأسلافهم والتي يعملون عليها، وتشكل جسد أبحاثهم التي يتكسبون من وراء تلقينها للطلاب أو للحصول علي الدرجات العلمية - كيف يتحول هذا الشئ المسمَّي فلسفة إلي طريقة لفهم الأشياء والعلاقات والشئون الإنسانية بشكل فعال، منخرطة في العالم، ومشاركة  في تنشيط الحس الإنساني والملكات الإبداعية؟  كما يتناول التساؤلات التي تتعلق بمصير الفلسفة عامة والفكر العربي خاصة بمنهج نقدي وبروح جديدة.

وإذا انتقلنا لكتابه "نحو نظرية للأخلاق الكونية"، وهذا الكتاب هو تحليل علمي يستند إلي معطيات علوم الحياة، ووظائف الأعضاء، بالإضافة إلي علمي النفس والاجتماع، بهدف تفسير موثوق لنشأة أفعالنا الأخلاقية، ولماذا نرتكب الأخطاء و قد تطلب ذلك مسحا شاملا لأهم نظريات الأخلاق برؤية شاملة هدفها تركيز أفعال البشر نحو أهداف مشتركة، من جهة، وحل المشكلات الأخلاقية القائمة في مجتمعاتنا، وخاصة فيما يتصل بعلاقاتها بالعلم والدين والقانون، والعادات والتقاليد من جهة أخري.

لقد أراد الدكتور ظريف حسين أن يعطينا خطابا تجديديا في هذين الكتابين (علي سبيل المثال لا الحصر)؛ حيث حاول أن يحرر الفكر العربي المعاصر من قيود القراءات التقليدية والأيديولوجية وإعادة تفسيره وتأويله من منظور واقع الحداثة ونقله إلى فضاء معرفي جديد. من مفارقات السجالات الفكرية المعاصرة حول ضرورة تجديد الفكر العربي المعاصر وتطوير آليات علمية جديدة لدراسة فقهه وتوظيفه من أجل مواكبة مسار الحضارة والتجاوب مع متطلبات العولمة وتعقيدات الحداثة.

وفي نهاية حديثنا عن الأستاذ الدكتور ظريف حسين لا أملك إلا أن أقول تحية طيبة للأستاذ الفاضل الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

***

أ. د. محمود محمد علي

أستاذ بقسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

في المثقف اليوم