قضايا

جدل الدين والدولة في التجربة الغربية

على المستوى الغربي ثمة بلدان وتجارب، حاربت الكنيسة الحداثة السياسية والثقافية، فنتج عن ذلك تقلص وتراجع حضور الدين في الحياة العامة. كما هو الشأن في اسبانيا. وفي بلدان أخرى اضطلعت الكنيسة بدور محوري في مواجهة الأنظمة الشمولية، فكانت طليعة تنويرية للمجتمع، فشهدت يقظة دينية جلية للعيان وبارزة في الحياة العامة كما هو شأن بولندا. فالتجربة الغربية ليست على نسق واحد، وهناك تفاوت بين البلدان الغربية في طبيعة الجدل المعرفي والسياسي بين الدين والدولة في فضاء هذه الدول والمجتمعات.

إلا إننا نستطيع القول إن أسس وأصول هذا الجدل واحدة في الدول الغربية مع تمايز في طبيعة اللحظة التاريخية التي تمر بها هذه الدول.

فأغلب هذه الدول لم تقص الدين تماما من الحياة العامة، وإنما حددت له مكان وموقع ينشط ويتحرك فيه، دون الإضرار أو التدخل المباشر والفج في أداء الدولة ومواقفها المختلفة. كما إن التكوين المعرفي والفلسفي للكثير من أطراف النخب السياسية في الغرب، هي متأثرة ومستلهمة للقيم الدينية – المسيحية.

فالغرب لم يطرد الدين من فضاء الدولة، وإنما جعل مؤسسة الدولة هي المهيمنة والمسيطرة على الفضاء الديني في الكثير من الجوانب والأبعاد.

والسلطة ومؤسساتها المختلفة في ظل الأنظمة الغربية الديمقراطية، ليست منفصلة عن مجتمعها، وشرعيتها (أي سلطة) ليست نابعة من خارج المجتمع وخياراته السياسية، بل هي على مستوى الشرعية والمشروعية نتاج مباشر لخيارات المجتمع وانتخاب هذه السلطة من أجل تحقيق هذه الخيارات في الواقع الوطني العام. فلا شرعية للسلطة وفق الرؤية الديمقراطية المدنية إلا شرعية الجمهور التي منحها صوته وأختارها لإدارة شؤون الدولة والمجال العام. [إن السلطة الديمقراطية تنتشر تحت طالع المثولية . فهي ليست سوى تعبير عن المجتمع، والمجتمع يمثل نفسه بنفسه من خلالها، ومن داخل ذاتها. باستثناء أن هذه العملية تفترض ابتعاد السلطة، أي تمايزها البين عن المجتمع. هذا هو الشرط الذي يجعل من الممكن التحقق من نسبة التماثل بين هذين القطبين.

فالديمقراطيات المعاصرة لم تجد سبيلا إلى الاستقرار إلا بدءا من اليوم الذي اكتشفت فيه أنه من الضروري القبول بالفارق من أجل تقدير الوفاق، بدلا من البحث بلا جدوى عن التطابق. فالارتباط الميتافيزيقي بين السلطة والمجتمع أبعد من أن يقرب بينهما، بل هو عمليا يفصل بينهما.. وكلما توفرت المطابقة بينهما في الجوهر، كلما ازداد الفارق الوظيفي بينهما. هذا يعني أن الغيرية المستبعدة لصالح تفوق معياري عادت لتنبثق من جديد داخل الآلية السياسية نفسها، بصورة غير مرئية، وغير معروفة بالنسبة للمعنيين بها، ولكن بفاعلية شديدة. إن ما كان يتخذ مظهرا دينيا بحتا نراه مجددا وبشكل عملاني في قلب الرابط الجماعي]1 ..

والذي يؤكد أهمية التمييز بين الدولة والدين في الفضاء الغربي، وجود تفسيرات كنسية شمولية سلطوية للدين بحيث إذا سادت هذه التفاسير ووصل أصحابها إلى السلطة، فهم سيمارسون كل ألوان العنف والقسر من أجل تعميم قناعاتهم وأفكارهم. والذي يمارس اليوم العنف والتكفير والتفجير ضد المختلفين معه في السياسة أو الدين أو المذهب، فإنه إذا أمتلك مقدرات الدول ة فهو سيوظفها لصالح مشروعه الأيديولوجي فسيعمل من موقع السلطة والقدرة على ممارسة القسر، لإقناع الشعب خياراته وأفكاره وسياساته.

وهذا يعني على المستوى العملي تأبيد الاستبداد السياسي بتغطية دينية.

بحيث يتكامل الاستبدادان الديني والسياسي. وعلى المستوى التاريخي في التجربة الغربية فإن أسوء اللحظات من الناحيتين السياسية والدينية هي تلك اللحظات التي يتكاتف الديني بالمعنى الكنسي مع السياسي لبناء سلطة سياسية دنيوية، تمارس الاستبداد بكل صنوفه فالتمييز بين الدين والدولة لا يعني إلغاء موقع الدين من حياة الناس، وإنما ضمان هذا الموقع حتى لا تتعدى الدولة لمؤسساتها المختلفة على مجال الدين. والمنظرون الغربيون يتحدثون عن مجموعة من الاعتبارات تؤكد ضرورة التمييز بين الدين والدولة ويمكن بيان هذه الضرورات في النقاط التالية:

1- توزيع عناصر القوة والسلطة، وعدم اجتماعها في مساحة اجتماعية ضيقة. لأن احتكار عناصر القوة والسلطة في يد فئة محدودة، يفضي بالضرورة إلى الاستبداد والديكتاتورية في أبشع صورها.

2- حتى لا تتحول التفسيرات البشرية للدين إلى أيقونة مقدسة، لا يمكن نقدها وإبراز عيوبها، بحيث سيتم التعامل معها بوصفها متعالية على زمانها ومكانها، وهي في حقيقة الأمر ليست كذلك . مما يؤدي إلى قيام السياسي بتوظيف التفسير الديني المدعوم من قبله لتأبيد سلطته، ومنع أي شكل من أشكال الاعتراض عليه. فلكي يتحرر الديني من سطوة السياسي، ثمة ضرورة قصوى للتمييز بين مجال الدين ومجال الدولة.

3- لكون المجتمع متعدد ومتنوع أفقيا وعموديا، وحتى لا تتحول الدولة بكل مؤسساتها إلى حاضنة للبعض وطاردة للبعض الآخر لاعتبارات أيدلوجية بحيث تتحول إلى دولة مع البعض من مكونات شعبها وضد مكونات أخرى من شعبها. وهذا بطبيعة الحال يفضي إلى تفشي الظلم والتمييز بين المواطنين، مما يهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي. لذلك وحتى تكون الدولة دولة للجميع بدون الافتئات على أحد أو الانحياز لأحد على حساب أحد آخر، ثمة ضرورة للتميز، حتى تصبح الدولة بكل هياكلها متعالية على انقسامات شعبها ورافعة لهم جميعا نحو مواطنة جامعة بدون تمييز بين المواطنين. لذلك على مستوى التجربة الغربية أرتبط تاريخ العلمانية بتاريخ الدولة. بمعنى أن النخب الغربية لم تتمكن من بناء دولة عادلة وديمقراطية وحاضنة لجميع مواطنيها إلا بالخيار العلماني.

لذلك تراكمت الممارسة العلمانية في أروقة مؤسسات الدولة، وترافق بناء الدولة مع صعود الخيار العلماني، بوصفه الخيار الذي يحترم الدين دون معاداة ويفسح له المجال لممارسة دوره على صعيد الإيمان الشخصي ومؤسسات المجتمع المدني . مع إدراكنا التام أن ثمة تجارب علمانوية غربية، حاربت الدين وعملت على إقصاءه من الوجود والتأثير، فحين تفقد المؤسسات الدينية قدرها الجامع والحاضن للجميع، لامناص من التمييز بين مجال الدين ومجال الدولة. لذلك فإن الدولة التي تدار بعقلية مذهبية مغلقة، بصرف النظر عن صوابية هذا المذهب أو حقانيته في الاعتقاد والإيمان، فإن هذه الدولة ستعبر حين الالتزام بمقتضيات العدالة النسبية عن آمال وحساسيات بعض شعبها وليس كل الحساسيات الموجودة في شعبها. لذلك فإننا نعتقد أن كل دولة في الفضاء الإسلامي، تحول الدين الإسلامي إلى أيديولوجيا من خلال تفسير محدد ومعين لقيم الدين ومبادئه الأساسية، ستساهم في تنمية الفوارق بين المواطنين ولن تتمكن من الوفاء بكل حاجات ومتطلبات كل مكونات شعبها. ونحن هنا نفرق بين الدين كمنظومة قيمية وتشريعية متكاملة، وبين الأيدلوجيا الدينية وهي أحد تفاسير هذا الدين. وليس من الطبيعي هنا أن نساوي بين الدين المنزل من الخالق عز وجل وبين الاجتهادات البشرية التي قد تصيب وقد تخطأ. وحين المفاضلة والاختيار بين دولة تستند إلى رؤية دينية خاصة ليست محل إجماع وتوافق، وبين دولة تستهدي بقيم الدين العليا، وتتعامل مع المواطنين على حد سواء بصرف النظر عن أصولهم ومنابتهم الأيديولوجية. فنحن نختار الدولة المدنية التي تعتبر قيم الإسلام مرجعيتها العليا وتتعامل مع أبناء شعبها على قاعدة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات. فنحن لسنا مع قسر الناس وإخضاعهم لرؤية دينية واحدة، كما إننا لسنا مع دولة تتدخل بشكل غير قانوني في المجال الخاص للأفراد والمواطنين . فالمطلوب حياد الدولة كمؤسسة تجاه عقائد المواطنين. حتى لو التزم أفراد هذه المؤسسة برأي دين أو عقيدة دينية خاصة. فمن حقه ذلك، ولكن ليس من حقه أن يوظف موقعه الرسمي لتعميم عقيدته أو الترويج لأرائه، فالدولة كمؤسسة على مسافة واحدة بين جميع المواطنين، حتى لو تعددت انتماءات المواطنين وقناعاتهم الفكرية والسياسية. والدولة هنا معنية بتطبيق القانون المنبثق من إرادة الشعب، وليس التفتيش في ضمائر الناس وقلوبهم بمعنى أنها دولة تحترم الحريات الفردية في إطارها الحقيقي وفي كل مالا يتعلق بالمواد الإجبارية في القوانين العامة. إنها تسمح بشكل خاص للمعتقدات الدينية وللعبادات بأن تنمو بحرية خارجها، على أن لا يمتد مطلب حق ممارسة حريات المعتقد المحق إلى أفعال وتدخلات تخالف الحق العام، وعلى أن لا تسعى أي ديانة (أو مذهب) إلى منح مؤسساتها سلطة تنافس السلطة المدنية، وتناوئها في مجالها وتسعى إلى القضاء عليها، هناك تسامح كامل إذا، طالما أن السلطة المدنية ليس لها أي منافس في مجالها، فيما يتعلق بالقيم الجوهرية التي باسمها تسود الجماعة، وهي قيم ليست في هذه الحالة سوى تلك التي ينص عليها العقد الاجتماعي]2...

فهي دولة لها سلطة تطبيق القانون والحفاظ على النظام العام وتسيير شؤون الناس الداخلية والخارجية. وتمارس كل هذه الأدوار والوظائف على قاعدة الدستور ومبادئه الأخلاقية والقانونية.

***

أ. محمد محفوظ

....................

الهوامش:

1. مارسيل غوشيه الدين في الديمقراطية ، ص 29 30 ، ترجمة شفيق محسن ، المنظمة العربية للترجمة مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة الأولى بيروت

2007 م .

2. كتاب الدين في الديمقراطية ص 68 مصدر سابق.

 

في المثقف اليوم