قضايا

الدولة والسلطة.. عندما تهيمن السلطة على الدولة

بعد أن قمنا بتعريف الدولة عند تعرضنا لمفهوم الدولة الحديثة، على أنها: في مفهومها العام، هي مجموعة كبيرة من الأفراد، يُمارسون نشاطهم على إقليم جغرافيّ محدد، ويخضعون لنظام سياسيّ معين مُتفق عليه فيما بينهم، يتولى شؤون إدارة حياتهم الداخليّة منها والخارجيّة. أي تشرف الدولة على أنشطة تمارسها مكونات الدولة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، بهدف تقدم هذه المكونات وازدهارها وتحسين مستوى حياة الأفراد داخل هذه الدولة مادياً وروحياً. فلا بد لنا هنا من التفريق بين الدولة والسلطة (الحكومة)، ومدى التأثير السلبيّ على الدولة والمجتمع الذي تحدثه عمليّة سيطرة السلطة على الدولة وتسخيرها لمصالح قوى حاكمة لها مصالح أنانيّة ضيقة تفردت بالسلطة.

لازال معظم الشعب، والكثير من المهتمين بالشأن السياسيّ يخلطون بين مفهوم الدولة ومفهوم السلطة التي تحكم وتقود الدولة، ويرون أن السلطة هي نفسها الدولة لا غير. ومثل هذا الخلط والتداخل بين مفهوميّ الدولة والسلطة، في وعي الناس وثقافتهم، هو الذي يدفع بالسلطة إلى أن تكون سلطةً شموليّةً استبداديّة.. أو سلطةً فوق الدولة، وهذا ما تحاول أن تؤكّده وتؤصّله كل سلطةٍ لا يهمها إلا مصالح حواملها الاجتماعيّة أو من تمثلهم هذه الحوامل حزبياً أو طائفياً أو قبلياً أو أسرياً، وليس مصالح الشعب بعموم مكوناته. وهذه الحوامل الاجتماعيّة للسلطة الشموليّة المستبدة، هي من يعمل على نشر هذا التشويش والحيرة الفكريّة، أو التعمية والتجهيل التي تحيط في تحديد مفهوميّ السلطة والدولة، وغالباً ما يرافق هذا الخلط والتشويش والتجهيل، خلط وتشويش وتجهيل آخر يشمل العلاقة بين المجتمع، والجماعة، والأمّة، والشعب والحكومة، إلخ.

إن الدولة في شخصيتها الاعتباريّة، ليست هي السلطة أو الحكومة، بل إن الدولة تتميّز عن السلطة وتتعالى عليها، كما يتعالى المجتمع أو الأمّة على الدولة، وهذه حقيقةٌ سياسيّةٌ تكوّنت منذ ظهور مفهوم الدولة السياسيّة الحديثة في القرن السادس عشر. مع تأكيدنا هنا من "الناحية التاريخيّة والأنثروبولوجيّة" بأنه، كان من الواضح أن فكرة الحكومة وسياستها الداخليّة والخارجيّة - كلاهما قد وجدا قبل الدولة. فالحكومة تستطيع أن توجد بدون الدولة كما هو حال في سلطة العشيرة والقبيلة والطائفة والحزب...الخ. ومن النواح "التشريعيّة والقضائيّة والتنفيذيّة" فالحكومة تحمل وتمارس سلطة الدولة، عبر حواملها الاجتماعيّة التي تقوم بتحديد طبيعة وتوجهات النظام السياسيّ القائم، والموقف الأيديولوجيّ الذي يجب أن تسير عليه الدولة ممثلة بمؤسساتها، إن كان هذا النظام اشتراكيّاً أو ليبراليّا أو دينيّاً. ولعلّ مهمّة التفرقة أو التمييز بين الدولة والحكومة، هي التي تسمح لنا أن نعرف تلك التغييرات البنيويّة التي تصيب سياسة الدولة عند تغيير الحكومات، بناءً على الموقف الطبقي والأيديولوجي الذي تتبناه هذه الحكومة أو تلك. لذلك نقول: إذا كانت الحكومة كليّا تعرّف بالدولة أو تتطابق معها، فإن كل إبدالٍ في الحكومة سوف يُحدث أزمةً في بنية الدولة وآلية عمل مؤسساتها، وهذه النقطة ينبغي أيضًا أن تجعلنا متيقظين من مسألة ربط كل ممارسات الحكومة هي ممارسات بالدولة. (1). (للاستزادة في هذه المسألة راجع- سالم القموري، سيكولوجية السلطة، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت - لندن، 2000.).

وبناءً على هذه المقدمات نقول: بما أن السلطة مسؤولةً عن إدارة الدولة كما بينا أعلاه، فهذا لا يعني أن تهيمن السلطة على الدولة، وأن تمتلك السيادة المطلقة عليها. وهنا تأتي ضرورة معرفتنا، بأن الدولة ممثّلةً في مؤسّساتها تظل في جوهرها كشخصيّة اعتبارية حياديّة طبقياً وأيديولوجياً، لتقوم بدورها الأساس وهو المحافظة على هيبة الدولة، أي في تعاليها على السلطة، وإبراز تميُّزها عنها باعتبارها - أي الدولة - هي السلطة العامّة التي يجب أن تكون فوق السلطة، أي فوق سلطة الحكومة وفوق سلطة الرئيس أو القائد أو الزعيم. هذا في حال كانت الدولة خارج إسار السلطات الشموليّة الاستبداديّة. إي تكون دولة الشعب الذي يشكل المرجعيّة الأساس لوجودها وآليّة عملها ومن يمثل الشعب في التحكم بسلطتها.

لا شك أن من أهم وسائل حماية الدولة من سيطرة السلطة أي الحكومة عليها، يأتي مبدأ الفصل بين السلطة والدولة أمراً مبرراً من الناحية المنطقيّة والقانونيّة أي الدستوريّة، لأنه أمر أو مبدأ يرفع من شأن الدولة والمجتمع والمحافظة عليهما ورعايتهما، أمام السلطة التي قد تطغى فتبتلع الدولة وتستبدّ بالفرد والمجتمع من خلالها. ورغم أن الدولة في مؤسساتها ذات طبيعة حياديّة، أي لا تحمل بعداً طبقيّاً او أيديولوجيا كما بينا قبل قليل، إلا أنها موجودةٌ وجودًا منطقيّا شرعيّا أي دستوريّا، وهي حاضرةٌ في المجتمع حضورًا يجمع حوله كل الشعب الذي يعيش في إقليم الدولة، وهو بالتالي حضورٌ يلخّص وعي الشعب وتاريخه السياسيّ والثقافيّ والاجتماعيّ. بل إن الدولة هي التجسيد السياسيّ الثقافيّ الاجتماعيّ للجماعة – الأمّة، وهي الحافظة للحقوق الجامعة للمبادئ والقيم، والراعية لكرامة ومواطنيّة الفرد والجماعة. لذك فالسلطة أيًا كانت لا تقوم مقام الدولة، ولا تحلّ محلّها، لأنها سلطةٌ، وفي حالة ما تمّ للسلطة ذلك تلاشت الدولة، وانتهت إلى لا دولة، وإذا ما انتهت الدولة إلى لا دولة أمست محض سلطة.

إن الدولة إذًاً، حاضرةٌ في المجتمع بخصائصها وسماتها ومؤسّساتها التشريعيّة والسياسيّة وتنظيماتها الشعبيّة الجماهيريّة المتميّزة عن السلطة، وهي حاضرةٌ على وجه أخصّ من جهتَين أساسيّتَين:

الأولىً: لها حضور تاريخيّ منذ أن بدأت تتشكل كدولة وصولاً إلى عصرنا الحالي. وبالتالي لها تراثها الثقافيّ والسياسيّ والوعي الاجتماعيّ بمفهومها كالدولة، وهذا ما يكوّن الأساس المعنوي لحضور الدولة في المجتمع.

والثانية: لها حضورٌ دستوريٌ قانونيٌ مؤسّساتي: ويتمثّل في دستور الدولة وقوانينها ونظامها السياسيّ، وفي مؤسّسات الدولة البرلمانيّة ومؤسّسات القضاء ومؤسّسات الرأي والمؤسّسات الجماهيريّة النقابيّة، والجمعيات الأهليّة والاتّحادات المهنيّة والهياكل والتنظيمات غير الحكوميّة، بما في ذلك تنظيمات المعارضة وفقًا للدستور. هذا ويعتبر المساس بأيٍّ من هذه المؤسّسات والتنظيمات مساسًا بالدولة صاحبة السيادة.(2).

مخاطر سيطرة السلطة على الدولة:

إن من أهم المخاطر التي ستصيب الدولة والمجتمع والسلطة معا عندما تسيطر الحكومة أو السلطة على الدولة، هو تحول الدولة من دولة دستوريّة. ودولة مواطنة ومؤسسات يحترم فيها الرأي والرأي الآخر، والمشاركة ونشر العدالة والمساواة بين مكوناتها الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والعرقيّة، إلى دولة شموليّة استبداديّة، أو دولة لصوص، تتحكم في أليّة عملها وأهدافها عبر مؤسساتها قوى اجتماعيّة لا تمثل مصالح الشعب وطموحاته، بقدر ما تعمل على تحقيق مصالح طبقيّة أو فؤيّة أو حزبيّة أو قبليّة او طائفيّة محددة.

***

د. عدنان عويد

كاتب وباحث من سورية

...............

1- (للاستزادة في هذه المسألة راجع: سالم القموري، سيكولوجية السلطة، مؤسسة  الانتشار العربي، بيروت - لندن، 2000.).

2- (أندروفنسنت، نظريات الدولة، ترجمة د. مالك أبو شهيوة، محمود خلف، دار الجيل، بيروت، 1997 ، ص 15 - 16). وللاستزادة في هذا الموضع يراجع كتاب – الدولة – فلسفتها وتاريخها من الإغريق إلى ما بعد الحداثة – محمد حيدر – المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية – بدون تاريخ نشر).

 

في المثقف اليوم