قضايا

الفهم هو غاية التعليم والتربية

تعلم العلوم الطبيعية والإنسانية مثله مثل تعلم  الحروف الأبجدية والأرقام الحسابية فإذا تمكن التلميذ من فهم الحروف الأبجدية والأرقام الحسابية نطقا وكتابة واستخدمها بذاته فقد تمكن من الخطوة الأولى في طريق التعليم والتعلم الطويلة. وإذا تمكن طالب الجامعة والدراسات العليا من فهم وامتلاك المفاهيم الأساسية في تخصصه الأكاديمي واستخدمها بذاته بعد تخرجه فقد وضع قدمه على طريق البحث والتفكير والنقد والكتابة في مجال تخصصه العلمي. وبدون ذلك التأسيس المنهجي التكويني للتلميذ والطالب والباحث سيظل التعليم والتعلم عقيما ولا ينتج ثقافة جديدة. فالمثل الأعلى للتعليم الاساسي لا يمكن في تعليم التلاميذ الأخلاق والدين والأدب بل في إكسابهم القدرة على امتلاك الحرف والحساب مفتاحي كل تعليم وتربية ممكنة. وكذلك هو الحال في التعليم الجامعي لا يتمثل فيما تزود به طلابها من معارف كثيرة، بقدر ما يتمثل في اكسابهم المقدرة على فهم ما تعلموه وبذلك تتمثل وظيفة المؤسسة الأكاديمية في مقدرتها على تحويل معرفة الأولاد والبنات إلى قدرة الرجال والنساء. وبذلك كان ولازال الرهان على التعليم بعده أهم المؤسسات الحيوية المخولة بإعادة إنتاج المجتمعات وتمكينها وتطويرها بما تقوم به من وظيفة تكوّن الأجيال الجديدة بتربية وتنمية العقول ونقل الخبرة وحفظ المعرفة وتداولها، وذلك بحسب رؤية فلسفية مدركة أو مضمرة عن النخبة المعنية بأمر تسويس المجتمع وتدبيره. والمؤسسة التربوية التعليمة هي تكوينية بالأساس، إذ تنهض بمهمة تصميم وتشكيل وتمكين النمط الثقافي المرغوب في مجتمعٍ من المجتمعات.

أن نظام التربية والتعليم التقليدي بمناهجه وأدواته وقيمه البالية هو من يعمل على هزيمة الاهتمام والفضول والدهشة والرغبة في المعرفة والانتباه وإحباط؛ فطرة الإنسان في حب الاستطلاع والتساؤل والحلم والخيال والتخييل ومثل هذا النمط من التعليم التقليدي الذي يقوم على الحفظ والتلقين لا ينتج إلا أناسا ممتثلين أو متمردين أو منحرفين خطرين على ذواتهم وعلى أسرهم وعلى مجتمعاتهم وعلى التعليم ذاته ويعمق الغربة والاغتراب بين الافراد وحياتهم وعصرهم وزمانهم . وحين نضغط على الأطفال التلاميذ والطلاب والطالبات أو نثقفهم بثقافة الطاعة والسكون والأدب يبقوا صامتين منفذين للتعليمات بروح سلبية لا مبالية بدلا من تشجيعهم على طرح الأسئلة وتنمية قدراتهم ومواهبهم بحرية وهنا يتحول الفضول الطبيعي إلى سلبية ورغبة في تجنب الآخرين، كما يتعود الأطفال على تخطي واهمال أسئلتهم وأجوبتهم النابعة من ذواتهم الحرة وبدلا من ذلك يسعون إلى توجيه الاسئلة والاجابات التي يعتقدون إن الآباء والامهات وكبار السن والأساتذة يودون سماعها منهم، وما أن يصلوا مرحلة الجامعة حتى يكون الطفل الموجه داخليا قد أصبح الراشد الموجه خارجيا وهكذا يحل الحذر والسلبية محل الفضول والاهتمام والرغبة في التساؤل، كما يحل تدوين ملاحظات افكار الآخرين محل التفكير النابع من الذات، كما يحل التقين محل التفكير. وحين نرهق الولد بمتاع لا يجيب عن أي سؤال يعنيه ويهمه، وحين نتخمه بغذاء لا يسد أي رمق أو لا يشبع جوع، أو يبل عطش، وحين نخنق تلك الحاجة العجيبة لدى التلاميذ إلى المعرفة والفهم والاستكشاف والنشاط واللعب، أي بكلمة حين نخنق الحاجة إلى أن ينمو، أي يصير انسانا، لا طفلا كبيرا- والشرير هو طفل كبير أسيئت تربيته- وقد أكدت الدراسات العلمية إن كبت الحاجات الفطرية للفضول والتساؤل والفهم والاكتشاف عند الأطفال والمراهقين حد اختفاءها الظاهر لا يعني محوها واختفاء أثرها من حياتهم الراشدة بل يعمد اللاوعي الى تأجيلها أو إزاحتها واستبدالها وتمظهرها على نحو لا إرادي تتجلى في جملة من مظاهر السلوك الشاذ أو غير السوي كحلم اليقظة والشرود الذهني، والانحرافات الشاذة، والمشاغبة واللامبالاة والكسل والتسيب والتسرب والخوف والاتكال والكذب والنفاق والجبن والتهور واللا انضباط والعنف والغش والجنوح والإدمان والتطرف والسطحية والابتذال وازدواج الشخصية واضطرابها وغير ذلك من الأفعال وردود الأفعال غير السوية الضارة بالحياة الاجتماعية. وهكذا يجب أن نعي ونفهم إن سيكولوجية التلميذ المكبوت تثأر لنفسها بطرق ووسائل سلبية وخطيرة، كما تفعل دينامية الاقتصاد المكبوت في الدول الشمولية بازدهار السوق السوداء ومنافذ التهريب والرشوة والفساد. يقول عالم النفس كارل سأغان" أن كل فرد يولد مزود بحب الاستطلاع والدهشة مما حوله، غير أن المجتمع يتولى هزيمة ذلك في نفسه، فالأطفال الصغار الذين سيكتشفون العالم المحيط بهم ببطيء  ويوجهون التساؤلات البريئة، حول، مثل لماذا لون العشب أخضر؟ أو اين الله ومن هو الله؟ ومن اين ولدت؟ وكيف ولدت؟ يواجهون بردة فعل غاضبة وصارمة وزاجرة كأن يقال لهم لا توجهوا أسئلة غبية؟ أو أستغفر الله العظيم! أو تسخر منه أو تحملق في وجهه أو تضربه .. الخ.  وهذا ما يعيق تفتح فطرته الطبيعية ونموها وتنميتها عقلانيا وإنسانيا. ومعلوم إن الكائنات البشرية تولد بغريزة فطرية بالفضول وحب الاستطلاع والتعجب والدهشة والتساؤل المؤدي إلى الاستكشاف والمعرفة والفهم وتقوم التربية السليمة على تنمية هذه القدرة الفطرية وتهذيبها. يقول جون هوليت:"ليس علينا أن نجعل البشر أذكياء، فهم يخلقون كذلك بالفطرة وكلما علينا أن نفعله هو التوقف عن تربيتهم وتعليمهم الغباء الذي نحمله"

***

ا. د. قاسم المحبشي

 

في المثقف اليوم