قضايا

الإبداع الكتابيّ والمعوّقات الثّلاثة

الكتابة جزء لا يتجزأ من حياة الأمم والمجتمعات، فهي الوعاء الحافظ للمعرفة والنّاقل لها معا من جيل إلى جيل آخر، كما أنّها المهذّب والنّاقد لها أيضا، وحتّى يصل الكاتب من درجة الكتابة حتّى درجة الإبداع فيها المقترن بالرّيادة لا يتحقّق ذلك إلا في فضاء الحريّة، فلا إبداع دون حريّة، وكلّما اتّسع هذا الفضاء اتّسع الإبداع.

إلا أنّ هناك معوّقات ثلاثة في نظريّ، هي ليست من الفضاء الخارجيّ، أي من الخارج باعتبار الكاتب، ولكنّها من داخل الكاتب ذاته، فتحول بينه وبين الإبداع، وتجعله رهين التّذمر والنّقد بلا إنتاج، وإنّي لأكبر في الكاتب النّاقد، ولكنّه في الوقت نفسه نجد ثمرته واضحة، لا يتوقف عند ثرثرة الرّد، وعند ردّات الفعل دون أثر، فمن الثّمرة تعرف الكاتب لا من ثرثرته وتذمره على كلّ شيء.

هناك من يعملون حسب الفضاء المتاح لهم، ولا يتوقفون عند الواقع، فإذا اتّسع الفضاء اتّسع نتاجهم، وإن ضاق تكيّفوا معه، لكنّ ثمرة عملهم ظاهرة، ونتاجهم لا ينقطع، فليسوا خصما للمجتمع وتشكلاته، بقدر ما يقدّمون من رؤى إبداعيّة تساهم في خلق وعي عميق في المجتمع، منطلقين من العمق الرّأسي، ليتمدّد أفقيّا بعد حين بذاته، فالإبداع لابدّ له من أثر ولو بعد حين.

على أنّ وصول الكاتب من درجة الكتابة العاديّة فالعميقة ثمّ الإبداعيّة إلى حدّ الرّيادة لا يتحقّق في يوم وليلة، فالمعرفة كما قيل قديما في المجد:

لا تحسبُ المجدَ تمرا أنت آكله    لن تبلغ المجدَ حتّى تلعقَ الصّبرا

والمعرفة الكتابيّة كذلك، تحتاج إلى حفر كبير مقرون بالصّبر لا بردّات الفعل، فهذا يضعف المعرفة ويشتتها، ولو كان أذكى أهل زمانه، إلا أنّ الأسباب واحدة، وكم من هو أقلّ ذكاء فاق غيره، بعد أنّ أخذ بأسباب ذلك، ثمّ صبر وظفر، وفي القرآن:  {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]، ومن الحكمة السّننيّة في ذلك، فالإبداع لا ينزل من السّماء، ولا يتحقّق بالأحلام، وإن توقف عند ردّات الفعل، ومشتتات النّتاج، تقدّمه غيره؛ لأنّ الزّمن واحد لا يتغير، ولا يفرّق بين أحد، فمن استثمره كان له ذلك بعد حين، ولو كان أقل ذكاء ومالا ووجاهة.

ومع هذا كلّه؛ هناك معوّقات ذاتيّة ثلاث في نظري، إذا ارتبطت بالكاتب قل إبداعه: الهويّة الضّيقة والسّلطة النفّعيّة والمال، فأمّا الهويّة الضّيقة كانت لاهوتيّة أو مذهبيّة أو مجتمعيّة أو ثقافيّة تجعل الكاتب نظرته ضيّقة، فالمعرفة فضاؤها واسع، ولا إبداع إلا من خلال هذا الفضاء الواسع، فإذا نظر إلى هذا الفضاء الواسع من خلال رؤيته المسبقة الضّيقة؛ ضاق الفضاء، وإذا ضاق الفضاء ضاق الإبداع، فكيف بمن يحاول فهم الآخر الواسع من خلال أفقه الضّيق، والعكس صحيح، إذا تحرّر من أفقه الضّيق، ونظر إلى المعرفة من فضائها الواسع، أدرك عمقها وجمالها، فكان مبدعا فيها، على مستوى الطّبيعيّات، وعلى مستوى الإنسانيّات.

ولمّا نتحدّث عن الفضاء الواسع فلا أتحدّث هنا عن القراءة فحسب؛ بل يتجاوز ذلك إلى السّير والتّأمل والبحث في الوجود وفي الإنسان، وفي الحضارة والثّقافات، وفي الأمم ماضيها وحاضرها، متحرّرا من القيود المعوقة في ذلك؛ لتكون ذات الكاتب واسعة بسعة الوجود وما يشمله من تفلسف وتثاقف ونتاج ورؤى، لا أن يجعل هذا الوجود مرهونا بضيق الكاتب وهويّاته الانتمائيّة، فما ينتمي إليه جزء بسيط جدّا من هذا الوجود، لا يكاد يذكر أمام سعة هذه العوالم وتعدّدها، فكلّما اتّسع أفق الكاتب، وتحرّر من قيودها، كان أكثر وعيا للآخر من خلال سعة ذاته، وهنا لا أقصد أن يتنكر لذاته، أو أن ينفصل عن هوّيته وانتماءاته، ولكن إن وقف عندها دون قراءة للآخر ضاقت هويّته وتعصّب لها، فجمد عن الإبداع، وتأخر في النّتاج، وابتعد عن التّنوير والعمق المعرفيّ.

وأمّا المعوق الثّاني السّلطة وبرجماتيتها، كانت السّلطة سياسيّة أو مجتمعيّة أو دينيّة أو ثقافيّة، ولا أقصد السّلطة هنا بمفهومها التّقليديّ المتضمنة للسّلطات الثّلاثة المعروفة، بقدر ما أقصد بذلك المعنى الاستعاريّ، بحيث يوجد حائل يبعد الإنسان عن استقلاليّة المعرفة إلى برجماتيّة السّلطة، فالإبداع المعرفيّ مرتبط باستقلاليّة المعرفة ذاتها، ولا أقصد هنا بالمعنى الحرفيّ للاستقلاليّة؛ فهناك مؤثرات مسبقة تؤثر – بلا شك – في الكاتب، ولكن كلّما كان أكثر استقلالا في ذاته كان أكثر إبداعا في نتاجه.

على أنّ هذه الاستقلاليّة قد تفقد الإنسان الكثير من النّفعيّة والوجاهة الاجتماعيّة، لما يقدّمه من نقد مبنيّ على المعرفة وحفر لها، وليس مجرد إثارة رأي هنا وهناك، فإذا ما أحسن إليه مجّد حتّى الثّمالة، وإذا ما فقد كان ناقدا كردّة فعل لا أكثر، لا كمعرفة ناقدة، بل إثارة للآخر وتشويها له، فهو برجماتيّ صرف، يكتب للسّلطة والمنفعة، ويدور قلمه حولها، فمتى استفاد منها وجاهة أو منصبا أو مالا، أو تصوّر بذلك أنّه محقّق لغاياته بذلك انقلب قلمه من ذات اليسار إلى ذات اليمين، فيبتعد عن العدل والإنصاف، وهي أسُّ استقلاليّة المعرفة.

ولا أقصد بحديثي هذا أنّ الكاتب عدو السّلطة برمزياتها الاستعاريّة؛ لأنّ ما يقدّمه ذاته سلطة بالمفهوم الشّموليّ، ولكن أقصد أن يتحرّر من السّلطة وبرجماتيتها، كما تحرّر من ضيق هويّاته الانتمائيّة، فإذا أحسنت السّلطة بمفهومها التّقليديّ والاستعاريّ، كان خير داعم لها، ومشجع لإحسانها، فالكاتب ليس عدوا للسّلطة، ولكنه حين يكتب هو متجاوز للسّلطة ليس رهينا لها، وكلّما كان عابرا للسّلطة كان الإبداع في الكتابة، وإلا ضاقت أيضا، وارتفع الإبداع عنها، أو توقف قلمه عن الإبداع منتظرا تلك المنفعة البرجماتيّة، فلا هي تحققّت، ولا هو تقدّم ليتجاوزه الزّمن كما تجاوز غيره؛ لأنّه واحد لا يرحم أحدا.

وأمّا المعوق الثّالث المال، فمن حقّ الكاتب أن يستغني بذاته عن غيره، فإذا افتقر تكسّب بمعرفته، وكان تكسّبه محقّقا لغاية من يكتب له، ولو خالف مبادئه، وسطّح معارفه، بل ومنهم من يسرق نتاج وأفكار غيره، لهذا كم من طاقات إبداعيّة يقتلها الفقر، وتستغلها السّلطة، وقلّ من تجد كاتبا يتحمل فقره، وضيق ما في يده، كما قلّ في عالمنا العربيّ خصوصا من السّلطات من يمايز بين استقلال قلم الكاتب، وبين فتح المجال له لكي يكتب بعيدا عن أيّ منفعة برجماتيّة قاصرة.

وهذه المسألة في حقيقة الأمر معقدة جدّا، ليس من السّهل تفكيكها؛ لأنّها مرتبطة بالنّظام العام ذاته، من حيث الوعي الجمعيّ أولا، ومن حيث قيم النّظام الإجرائيّ والحقوقيّ ثانيا، فإذا ما أدرك الوعي الجمعيّ أهميّة الإبداع الكتابي في نهضة هذه الأمّة أو ذلك القطر؛ حينها يعطي المبدع حقّه أيّا كان إبداعه؛ لأنّه بلا شك سوف يساهم بشكل كبير في خلق وعي إبداعيّ يرقي بهذه الأمّة أو ذلك القطر، والعكس صحيح إذا أهمل من هذا القطر قد يشترى من قطر آخر، أو قد يكون مآله النّسيان كما نسي مئات المبدعين في العالم العربيّ، وقتل إبداعهم قبل أن تفنى أجسادهم، أو قد يبحث عن عالم آخر غير عالمه - ثقافة ولغة - يجد فيه فضاء الإبداع واسعا، فلا يخسر إبداعه لضيق من يسوس عالمه.

وأمّا من حيث قيم النّظام الإجرائيّ والحقوقيّ، فكلّما كان هذا النّظام الإجرائيّ والحقوقيّ مدركا لأهميّة إبداع القلم وكاتبه، فاتحا للجميع في ذلك؛ هذا بلا شك أول المستفيدين منه المجتمع ذاته؛ لأنّ المجتمع القوي لا يخاف من إبداع القلم، بقدر ما يستثمر هذا الإبداع في رقيّة وتطوّره، ليكون مجتمعا مبدعا في داخله، متنوّرا في ذات أبنائه.

وبقدر ما أعذر الكاتب هنا كما أسلفت؛ بيد أني ألومه أن توقف عن إبداعه، أو كان إبداعه رهين المال، أو يشترى قلمه لمنافع تتعارض واستقلال المعرفة، فالمال ليس كلّ شيء، فالإنسان يفنى بماله؛ ولكن يبقى إبداعه، على أنّ المال ضروريّ للإبداع والعيش الكريم معا؛ لا أن يتكسّب الكاتب ويجعل المعرفة ضحلة هامشيّة، لا حفر فيها ولا عمق، فهذا يعوق الإبداع، ويسيء إلى المعرفة، ويؤثر على نهضة الأمم والمجتمع معا.

***

بدر العبري - عُمان

 

في المثقف اليوم