قضايا

الصراع على السلطة.. مقاربة في سوسيولوجيا التداول السياسي

على الرغم من ثبات موقف علم السياسة التقليدي حيال موضوعة (الدولة)، باعتبارها فكرة مؤسسة لمختلف ضروب الاجتماع البشري، فضلا"عن كونها المعيار المحدد لكل ما قد يتمخض عن هذا الأخير من علاقات وسلوكيات. بيد إن واقعة (السلطة) – من وجهة نظر علم السياسة المعاصر- كانت وستبقى الموضوع الراجح لمختلف ما تنطوي عليه الظاهرة السياسية؛ من أطر اجتماعية، وميادين اقتصادية، وحقول ثقافية، ومضامير نفسية، وأبعاد تاريخية. وبصرف النظر عن سعة هذه الشبكة السوسيولوجية وما تشتمل عليه؛ من تعقيد في نسيجها، وجدلية في علاقاتها، وشمولية في ديناميتها، فان مسألة (التداول السياسي) لتلك السلطة، ما بين مكونات المجتمع ومؤسسات الدولة، قمينة بجعلها واحدة من أكثر القضايا راهنية وحساسية في الوقت نفسه. ذلك لأنها لم تبرح – منذ أن أدرك الإنسان طبيعته الاجتماعية - رابضة في صلب هذه السيرورة؛ تتحكم بحراك عناصرها، وتتصرف بأواليات تفاعلها، وتؤثر بخلفيات تمظهرها.

ولأن واقعة (السلطة) وجدت طريقها لشتى أنواع الوجود الاجتماعي، بصيغة تواضعات جمعية (أعراف وتقاليد وعادات وقيم)، حيث (الجميع – كما خلص العالم الاجتماعي الفرنسي "جان وليم لابيار" - يحترمون العادات والتقاليد ويحافظون عليها، وليس لأحد وظيفة خاصة، غايتها فرض هذه المحافظة، باستعمال وسائل الضغط أو الإقناع المشروعة. لا ترهيب في هذه السلطة ولا عقاب سوى الشجب الجماعي والتكفير الضروري تحاشيا"للإبعاد. فكأن الطاعة هنا هي طاعة غريزية). قبل أن تتبلور كنمط من أنماط؛ تنظيم العلاقات، وتقنين الارادات، وإدارة الأزمات، وتسوية الخلافات، وضبط النزاعات. بمعنى أن تتحول من طابعها العرفي / الأهلي، إلى طابعها المدني / السياسي، حيث (إن تأسيس السلطة – يضيف العالم المذكور – من وجهة سوسيولوجية، يكشف درجة من الوعي الجماعي، يعترف الأفراد عندها بالجماعة كحقيقة لها حقوقها التي تسمو على حقوقهم).

ولهذا فليس من الغريب ولا من الشاذ أن تختلط الأمور وتتداخل القضايا، في وعي المجتمعات الراكدة حضاريا"، حيث لم يشهد تاريخها السياسي أي شكل من أشكال السلطة الممأسسة، سوى تلك المعنية بسلطان شيخ القبيلة، ونفوذ زعيم الطائفة، وهيبة قائد الحزب. ولهذا تزدهر بين أوساطها الرسمية والشعبية، العامة والخاصة، ظواهر من قبيل؛ التأليه للزعامات والشخصنة للمؤسسات والاستزلام للعلاقات. بحيث تندرس الحدود وتضمحل الفواصل ما بين المجتمع السياسي بمجمل سلطاته (التشريعية والتنفيذية والقضائية) من جهة، وبين المجتمع المدني / الأهلي بمختلف مكوناته (أحزاب منظمات جمعيات) من جهة أخرى. وهو الأمر الذي يقود المجتمع – عاجلا"أم آجلا"- إلى الوقوع بين شقي الرحى؛ فتارة حين يسلم المجتمع زمام أموره إلى العناصر الطارئة من نخبه، ويتنازل عن دفة قياده إلى الجماعات الهامشية من مكوناته، فانه لا سبيل أمامه سوى الرضوخ لعواقب تغوّل الدولة، ولا مناص له من تحمل تبعات توحّش السلطة، ولا مهرب أمامه للإفلات من مصائب تعسّف القانون.

وتارة ثانية عندما يعتقد إن الحظ قد حالفه، وان الفرصة قد واتته، وان الظروف قد سنحت له، عبر الانخراط بمظاهر الثورة على الحكومة والانقلاب على النظام، فانه سرعان ما يجد نفسه وقد أصبح صيدا"سهلا"وفريسة مغرية؛ لعنف جماعاته المتبربرة، وتطرف ثقافاته المؤسطرة، وتعصب مرجعياته المتحجرة. وهكذا تغدو السلطة – بما هي حقل نسقي يعلو الحقول النسقية الأخرى جميعا"كما أوضح ذلك الفيلسوف وعالم الاجتماع بيار بورديو - محور صراع لا يهدأ أواره ولا يستكين سعيره؛ بين دولة عنينة في أصل بنيتها حتى وان بدت قاسية ومدججة بالعنف، تحاول إثبات وجودها المهدد بالسقوط، وفرض سيطرتها الآخذة بالانكماش، وبسط سيادتها المدموغة بالزوال. وبين مجتمع آيلة مكوناته إلى التصدع والتشظي، حتى وان بدا انه يقاوم عوامل تآكله الذاتي، عبر التناحر بين قبائله والتباغض بين طوائفه والتنابذ بين أقوامه. وذلك ليس من منطلق إن (السلطة) هي الميدان الشرعي؛ لضبط التوازنات السياسية، وتسوية الخلافات الإيديولوجية، وحلّ الأزمات الاقتصادية، وتهدئة الاحتقانات الاجتماعية. أي باعتبارها مضمار مؤسسي للتداول السياسي والتحاور السلمي. ولكن من اعتقاد كونها وسيلة فعالة لاحتكار مصادر القوة لقمع المعارضين وردع المخالفين، وأداة مجربة لحيازة مقومات فرض التوجهات الواحدية حتى وان كانت راديكالية، ونشر المعتقدات الخلاصية حتى وان كانت أصولية، وطريقة مضمونة للاستحواذ على الامتيازات المادية والمعنوية حتى وان كانت لا شرعية، هذا بالإضافة إلى قدرتها اللامحدودة على توظيف رصيد الرموز الوطنية واستثمار خزين الذاكرة التاريخية حتى وان كانت لا أخلاقية.

وإذا كانت المرحلة التاريخية الماضية، والظروف السياسية السابقة، والأوضاع الاجتماعية المنصرمة، والعوامل الاقتصادية السالفة، قد هيأة – بالنسبة لمجتمعات بلدان العالم الثالث - مستلزمات استخلاص أواليات صيرورة الدولة كفكرة، وتحليل خلفيات تشكيلها كمؤسسة. حيث استطاع كل من المفكر الجزائري (عبد الله العروي) الكشف عن طابعها السلطاني / الثيوقراطي، من خلال كتابه الموسوم ( مفهوم الدولة)، في حين تمكن المفكر السوري (برهان غليون) من إماطة اللثام عن طبيعتها اللوثيانية / الاستلابية، عبر كتابه الموسوم (المحنة العربية : الدولة ضد الأمة)، بينما توصل المفكر العراقي الأصول الكويتي الجنسية (خلدون حسن النقيب)، إلى فضح دورها التسلطي / الاستبدادي، من خلال كتابه الموسوم (الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر). بينما عرّى المفكر اللبناني (مهدي عامل) نزوعها الطائفي / التفكيكي، من خلال كتابه (في الدولة الطائفية). في حين نجد إن المفكر المصري (نزيه نضال الأيوبي) قد أزاح الستار عن طبيعتها الإشكالية / التغريبية، ضمن كتابه الموسوم (تضخيم الدولة العربية). هذا بالإضافة إلى الكثير من الأعمال الجادة والرصينة، التي انتهجت سبل تجريم الدولة كبنية دخيلة وتأثيم مواقفها كسلطة مستتبعة، حيال قيادتها للمجتمعات التي أحكمت قبضتها عليها طيلة عقود القرن العشرين الآفل، كما تجسد في أعمال مشروع الاستشراف المستقبلي، الذي صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية خلال فترة الثمانينات.

واللافت انه حتى الدراسات الغربية ذات المنهج التحليلي / التركيبي، التي تطرقت للمجتمعات النامية من خلال علاقتها الإشكالية بدولها الوطنية، اقتصرت محاولاتها على نقد الطابع العسكري / التوتاليتاري للدول الآخذة بالترهل والتكلس من جهة، والى التعاطف المشوب بالتملق السياسي والتعالم الأكاديمي للمجتمعات من جهة أخرى. كما تبلور، على سبيل المثال لا الحصر، بأعمال المفكر الأمريكي (صموئيل هنتنغتون) في أحد مؤلفاته المعنونة (النظام السياسي لمجتمعات متغيرة). أو بالدراسة التي وضعها الباحث (بيري أندرسون) بعنوان (دولة الشرق الاستبدادية)، أو – وهذا أقرب إلى هاجس موضوعنا – بالدراسة التي خصصها مدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة رتجرز ( اريك دافيس) للدولة العراقية، عبر كتابه الموسوم ( مذكرات دولة : السياسة والتاريخ والهوية الجمعية في العراق الحديث)، وغير ذلك كثير لا يسع المجال هنا لذكرها جميعا"حيث تتطلب وضع ببلوغرافيا كاملة. للحد أن أحدا"من هؤلاء المفكرين والباحثين لم يشر بأصابع الاتهام إلى انحراف المجتمع وتجاوزاته، حيال أحقية الدولة بامتلاك مقومات السلطة وحيازة مصادر القوة، التي غالبا"ما كانت موضوع تنافس محموم وصراع دموي، كلف الطرفان خسائر لا تعوض في مجال عقلنة وعي الأول وأنسنة علاقاته، وعلمنة مؤسسات الثانية وشرعنة سلطاتها. وإذا ما اضطر سياق البحث المعنيين لإبداء الرأي هنا أو إسداء المعلومة هناك، فان الإشارات والملاحظات تأتي عابرة ومتفرقة وكأنها كتبت على استيحاء أو من باب إسقاط الفرض.

وهكذا فان بحثا" أو دراسة كتبت بوحي من مقاضاة المجتمع في علاقاته بالدولة؛ لجهة تطاوله على دور هذه الأخيرة في مجال التوازن السياسي، وتماديه على صلاحياتها في إطار الضبط الاجتماعي، وتجاوزه على واجباتها في مضمار الاستقرار الاقتصادي، وتدخله في شؤونها المتعلقة تجانس النظام الثقافي. وهنا تنتصب أمامنا حالة المجتمع العراقي كنموذج / مثال لهذه المفارقة السياسية الصارخة، حيث الجماعات المتحزبة والمتعصبة، وليس الدولة – ولا نقول الأحزاب السياسية إذ ليس هناك ما يمكن مقارنته بتكوين وتنظيم الأحزاب في صيغتها المعيارية، كما أجاد عرضها وتحليلها الفقيه الفرنسي (موريس دوفرجييه) في كتابه الكلاسيكي (الأحزاب السياسية) - هي من يوزع الأدوار ويقسم الصلاحيات، كما أن المليشيات الدينية المتطيفة والمتطرفة، وليس الدولة هي من يضع القوانين ويشّرع الأنظمة، مثلما أن اللوبيات المالية والتجارية العابثة، وليس الدولة هي من يقسم الثروات ويوزع الامتيازات.

والحال إن أمورا"تجري على وفق هذه الوتيرة الملتبسة من العلاقات والتجاذبات، قمينة ليس فقط بتعطيل عمل الدولة وإرباك سلطتها ومسخ هويتها ونسخ سيادتها فحسب، وإنما بالإضافة لذلك ضعضعة بنى المجتمع ككيان حضاري، وتفكيك أواصر لحمته كمكونات إنسانية. وتركه، من ثم، يتآكل ذاتيا"تحت طائلة؛ طغيان الفوضى في السياسة، وإمعان العنف في الاجتماع، واستشراء الفساد في الاقتصاد، وإسراف الخراب في الثقافة، واندياح التهتك في القيم !. ومما يزيد من تعقيدات المشهد العراقي الراهن ويضاعف في غموض تفاصيله، هو إن كلا من الدولة الكاريكاتورية القائمة والمجتمع المتهرئ الحالي، لا ينيان يجهلان – أو يتجاهلان – إن السلطة التي يتصارعان حولها، هي حصرا"مضمار إدارة الشأن العام لا الخاص، وميدان لتوازن الحقوق والواجبات المواطنية وليس حلبة لفرض المحاصصات الطائفية، ومجال لتحقيق الأمن والاستقرار بدلا"من تنمية العنف الكيفي وتسويق العدوانية الاعتباطية.

***

ثامرعباس

في المثقف اليوم