قضايا

جدلية الفكر العلمي عند علماء العرب والمسلمين والعلماء الاوربيين

لا احد يشك ان الفكر العلمي عند العرب سبق الفكر العلمي عند الأوربيين، فقد شهدت بغداد حركة علمية واسعة صاحبتها حركة الترجمة العالمية في عهد الخليفة المآمون العباسي. وحركة اخوان الصفاء وخلان الوفاء، وسبقتهم حركة الاعتزال، ولو بقيت تلك الحركات مفتوحة الاطراف والاجنحة لكنا اليوم نتصدر حركات التقدم العلمي في العالم، لكن عهد المتوكل العباسي (232 للهجرة) وما صاحبته من حركات الفقهاء المتزمتين قد اوقفت التقدم العلمي حين حولته الى فقه ديني فارغ التطبيق، وخاصة في العهدين البويهي المذهبي (334للهجرة) المقيت، والعصر السلجوقي (447 للهجرة) المتحجر، وما تلاهما من سيطرة مؤسسة الدين على الدولة والسلاطين، مما أدى الى غياب الفكر العلمي واحلال فكر المتفيهقين المتخلفين.

من يقرأ التاريخ الاوربي ما بين القرن السابع عشر والتاسع عشر يقف مذهولا لما حدث، وكيف حدث؟ بعد ان بدأ الاوربيون يفكرون في شئون الكون على اساس من الفكر غير المقيد، والعقل المتعطش الى المعرفة، على اساس البحث العلمي والتجربة وهي اساس كل كشف صحيح، فأثبتوا ان هذا العالم هو غير العالم الماضي من كل الوجوه.، بينما لم نجد عند علمائنا ومؤلفينا الا كلاما مغايرا لينتهي الى ان العلماء هم ورثة الانبياء دون جهد جهيد، رغم ان النص المقدس دعا الى البحث والنظر والتأمل في الكون ودراسته لمعرفة كل جديد "قل سيروا في الأرض فأنظروا كيف بدأ الخلق"، حتى اصبح العلم عندنا لا يخرج عن نطاق علوم الدين من فقه وتفسير، ظنا منهم ان الانصراف الى دراسة ما سوى ذلك انما هو مضيعة للوقت وصرف الانسان عن عبادة الله والدين، وهنا كان مقتلنا.

ان العلوم الاساسية التي كنا نسميها صناعات مثل الطب والهندسة والفيزياء، تحولت في عهد فرانسيس بيكون الاوربي الى قاعدة للعلوم حينما بدأت دراسة مظاهر الكون وما فيه من نجوم ونبات وافلاك فظهرت نظريات التجربة الفعلية التي افتقدناها بفضل تخريفات فقهاء الدين. هذا العالم الكبير الذي نقض مذهب ارسطوفي الوصول الى حقائق الاشياء عن طريق المنطق بالذات واحلال منطق جديد قائم على العلم والتجربة كبداية لدراسة العلم الجديد

ثم جاء من بعده العالم الرياضي ديكارت الذي اقام فكره الفلسفي على الرياضيات ففتح امام الانسانية افاقا واسعة في العلم الجديد، من هنا اصبحت الصنائع علوما وتلك كانت البداية الصحيحة للنهضة العلمية الحديثة، حتى اصبحت مفاهيم العصور الوسطى تسمى بعصور الظلام والركود، فدخل الفكر العلمي لنيوتن وروبرت هوك مسار التاريخ الصحيح. فلم تعد المؤسسة الدينية المتخلفة لها فاعلية التحكم في الفكر الانساني الاوربي العظيم. وقد تركز هذا التوجه الكبير بعد حركتي لوثر وكالفن حين فصلت مؤسسة الدين عن مؤسسة السياسة، فاصبح العلم الجديد هو دين الاوربيين.

هذا التحول العلمي الكبير افرز لهم نمو التجارة الحرة والصناعة التي وفرت لهم المال الكثيرفتشعبت الافكار والاختراعات فشملت الفن والموسيقى حتى اصبح الفرد الاوربي محاطا باطار معيشي ملائم مظهرا واسلوب حياة،فارتبط العقل بالفكر والتفكير فظهرعصر الانوار بجلاله في اوربا بعد ابعد الفكر الديني المتزمت الذي منعهم من التفكير والتقدم، حتى انتقل مركز الثقل في العلم من الخيال الى الواقع ومن النظري الى العملي، لدرجة ان الجزاء اصبح على قدرالمواهب والجهد المبذول ومستوى ذلك الجهد في الدقة من عدمها، حتى اصبح للانسان حرية التصرف والتعاقد من اجل ضمان مستقبل الفرد في الدولة. هنا تم اخراج الفكر الاوربي من الطريق المسدود الى ثورة علمية فكرية حقيقية الى كل ما يسد طريق التقدم من قيود على الفكر والحرية والانسان ككل.

وبهذه النهضة والتوجهات الحكومية تحت سلطة القانون اصبح المجتمع الاوربي يستطيع ان يوقف الظلم ويرد السلطة عن هواها اذا هي أرادته، وبالمجمل اصبح المجتمع بكليته يحترم نفسه فترفع عن الكذب والدجل والخيانة والسرقة والفساد المالي والاداري والتعالي على الدنية بعد ان اصبحت الدولة دستور وقانون ورقيب وحسيب، من هنا نشأ الوعي الخلقي القائم على العمل والتجويد واحترام الاوطان،. نعم، من هنا بدأ التقدم. ؟؟؟ بعكس ما نحن فيه،

لكن الانفتاح الفكري والحرية المتاحة للعرب والمسلمين اليوم في الوطن العربي بعد التغييرات الحديثة تحتم علينا القيام بثورة منهجية على مناهج الدراسة المتبعة في العهود السابقة. فهل سنعمل على تغيير المنهج ليتغير فكر الطالب،لنبني طالبا واستاذا ومنهجا قائما على العلم والمعرفة والحقيقة العلمية بعيدا عن تخريفات رجال الدين،لنخلق شخصية المستقبل القيادية،. ام سنبقى نتعكز على ما سلف، لنهمل العلماءونعتمد على الحدس والتخمين. ؟

ولنعود الى حركة الفكر العلمي عند العرب والمسلمين بعد ان اخذت الدولة شكل خلافة وتنظيم وان رافقها النقص في التنظيم، لكنها كانت البداية لعمل رفع الجماعة الاسلامية الى مستوى المسئولية المطلوبة منها حتى قال البعض ان الحركة الحضارية عند المسلمين سبقت التاريخ، وهي بدايةالاحساس بضرورة ظهور اهل العلم والادراك الذين بدأوا يقيمون الدولة على الواقع وليس على الحدس والتخمين، لكن الخلافات السياسية بين الامويين والعباسيين ادت الى ردة الى الوراء فتعثرت الدولة وبدأت تتجه الى عهد اردشير الفارسي وكأننا بدئنا ان نعود الى حكم الاكاسرة فتراجعت الحضارة وبدأ يبرز التاريخ بعكس ما حصل في اوربا حين انتكست الثورة الفرنسية لكن مبادى الوحدة والحرية والاخاء ظلت هي السائدة ولم تتراجع عن دستورية الحكم وسيادة القانون، ورغم الصراع الذي دخلت فيه اوربا لكنها استيقضت وعرفت حقوقها، بعكس ما حصل في دولة الاسلام حين تلقفها فقهاء التخريب والبعثرة فدخلنا منعطف التراجع ولا زلنا الى اليوم. وهي فقدان"دستورية الحكم وسيادة القانون".

لكن هذا الواقع السياسي المتأزم حول المال والسلطة عند العرب لم يحول دون ظهور نظريات البحث العلمي كما ظهر في عهد المآمون العباسي وحركة الترجمة الرائعة من علوم الاخرين، وحركة اخوان الصفاء وخلان الوفاءورسائلهم الواحدة والخمسين وما فيها من علون واراء ادهشت العلماء والمفكرين، ولاننسى حركان المعتزلة والبحث في القرآن والخلق وحقوق الناس دون تمييز. لكن الخلافة اوقفت كل تقدم بحجة تعارضه مع الدين،

ان التقدم الحضاري الذي تحقق عند العباسيين والاندلسين كان كبيرا ومتقدما لو ان الامورسارت بتدقيق. لكن الخلاف السياسي ادى الى ردة الى الوراء بعد ان انعدم الفكر والتطبيق السياسيين، مما جرالى جعل وجوه التقدم واهية ضعيفة وبطيئة فعاد التقدم العلمي الى التدهور، لأن الاطار السياسي السليم هو ضمان كل قدم وبدونه لا يمكن أضطراد مسيرة الحضارة، كما هو اليوم عند السياسيين المتدينين كذبا وزوراً.

ولا ندري لماذا يصر الفاتح الجديد في بلداننا العربية وغيرهم اليوم على الخطأ مستقويين بالاخرين،يريدون تقسيم الوطن وينسون ابناء بلدهم عند الشدة مع الناكثين كما في العراق اليوم مبررين ذلك بالطائفية والمذهبية التي ليس لهما من اصل في الدين، فماذا لو تحققت العدالة والحرية والمساواة بين المواطنين الم تكن افيد واحسن لمن خانها وهو اليوم في حيرة التاريخ. فلماذا هذاالاستبداد والانسداد السياسي والحضاري وانتقاله الى فوضى زعماء وقواد وظلم للناس غير منظم بعد ان فقدت الصفوة القائدة ثقل التكليف وتحمل اعباءه ومضانكه وهذا اكبر دليل على انها فقدت وظيفتها واصبحت عبئا على جماعة التكليف.

واقول ايضاً ان من يحكم الوطن اصبح امام امرين لا ثالث لهما:

اما ان يكون لديه القدر الكافي من الوعي والارادة والقوة لاقصاء فئات التخريب وحرمانها من امتيازاتها التي حصلت عليها دون القانون، أو اتباع فئة مختارة جديدة من الشعب دون اكراه يكون لديها قدرة الوعي الفكري والاخلاص القيمي لتتربع على عرش التقدم والحقوق، وهنا يكون التقدم العلمي والحقوق اذن لماذا تتفرقون؟

ايها المهزومون، كل الأخرين حققوا فيكم ما يريدون ويطمحون وعليكم اليوم يستهزؤون ويضحكون،حين سلمتموهم كل ما يريدون،وأنتم تعلمون.، لكنكم تستجدون منهم عونا او استشارة علمية وعلماؤكم ومفكريكم بأيديكم يقتلون، اما تستحوون؟، المفروض انتم بشعبكم ورفاهيتة وعزتة وكرامته وجامعاته الرصينة تتفاخرون لا ان تبعدون،

رسالات الاديان ختمت عصر الاحادية، ,ومنها بدأت عصر الاجتهادية، اما فقهكم الذي به تدعون فقد اصبح جدليته خارج التاريخ، وعقلكم الجمعي العربي اصبح مهلكاً، والتقوى لا أصل الا عند المؤمنين.

نحن بحاجة اليوم الى جدلية النقد العلمي لانه اساس التقدم، اما نقد الدين الذي عليه تعارضون، فهو اساس كل نقد فهل تتفكرون، ايها المتعصبون، اعترفوا بان الحقيقة الدينية تتغير وتتطور وليست هي مطلقة ومنقوشة فوق حجر، فما جاءت الاديان الا لتحقيق الحقوق وهي اصل كل علم ودين.

ان الثورات والتغيرات ما جاءت الا للتغيير الكلي في المجتمعات، وهذه لاتتحقق الا بتوفر القيادات المخلصة لها والاهداف الواضحة والبناء التنظيمي السليم، فلا تعتمدوا الا على الابناء من علماؤكم لا علماء الاخرين، هكذا تقدمت الشعوب عبر التاريخ.

***

د. عبد الجبار العبيدي

 

 

في المثقف اليوم