قضايا

الهابطات.. ذلك المكان الأرفع أين هو وما هو؟!

يقول إبن سينا: " هبطت إليك من المحل الأرفع.. ورقاء ذات تعزز وتمنع"

ولا يبدو أن النفس موجود يتمتع بالهبوط والصعود والتعزز والتمنع، وإنما حالة تتسم بطباع الجرم الذي هي فيه، ولكل جرم سماوي نفوس متصلة به، ومنكبسة داخل غلافه الجوي المغلق، وكأن الأرض لها نفس، ومن هذه النفس تتولد النفوس الحالة في المخلوقات العائدة للتراب.

فالنفس في جوهرها طاقة قائمة لا تفنى، وذات توازن وتفاعل منضبط، وفق معادلات سلوكية دقيقة مرهونة بإرادة الدوران وقدراته التنظيمية الفائقة التمام.

فلا زيادة ولا نقصان، وإنما أمواج في ذات التيار، وبذات المقدار الجاري في بدن الكائن في الدوران.

فالقول بأن النفس هبطت من مقام علوي فيه شيئ من بعض ما لا يُنظر فيه، أو لا يُدرك، فبتقدم العلوم والمعارف وتوسع المدارك، وإنطلاق المفاهيم وتراكم القوانين والفهم الأفضل لما يتحقق في الحياة الأرضية والكونية، وعبر مسيرات طويلة من التفاعلات التي أوجدت أدلة وبراهين، وإنارات لموضوعات ما كنا ندركها من قبل.

فالقول بالهبوط قد يصح في زمانه ومكانه، لكنه لا يصح القول به في زمان آخر ومكان مؤزّر بالأدلة والبراهين والإشراقات المعرفية الفياضة.

وعليه فأن الأصح القول بأن النفس كائن موجود في الأرض وتتصل بها، وقائم في فضاءاتها ومرتبط بأحيائها، ويحل بها ويغادرها، لكنه يبقى في مواضعه ومتوافقا مع إيقاعات الدوران وتجدداته، وتبدلات ما يتحقق في أوعية الكرات الدوارة بأنواعها، التي نسميها حية أو غير ذلك.

فكل نفس طاقة في الموجود ومتصلة بالطاقة الكبرى المحتشدة في الجرم الذي هي فيه كالأرض مثلا، وهذا يعني أن النفس تكون موجودة في الأجرام التي ترعى الحياة، بمعنى أن الأجرام التي تنعدم فيها الحياة هي أجرام فارغة نفسيا، أو مفرّغة نفسيا، فلكي تنتفي الحياة في أية بقعة كونية، لابد لتلك البقعة أن تخلو من طاقة النفس.

فالحياة لا تتحقق ولا تنطلق إلا بوجود الطاقة النفسية، التي تقدحها وتوفر لها أسباب ومفردات التفاعل والتنامي والإرتقاء.

وأمّنا الأرض صاحبة نفس تفتلها بدورانها وتملؤها بالطاقات الكفيلة لتحقيق الحياة، ومن غير الدوران لا يمكن الوصول إلى أقصى درجات الإنفتال والإنطلاق من القدرات، التي تخزّنت في ذات النفس الدوارة الساعية للتجدد والتفاعل والإبتداء.

ولهذا فأن النفس تفنى بفناء وعائها الأكبر، وهو الجرم الذي يحويها، فمغادرة النفس للكائن الذي حلت فيه لا يعني موتها، وإنما عودتها إلى فلك الدوران الأكبر، وسعيها من جديد للتحقق في صيرورة أخرى ذات مميزات متوافقة معها، وهذا يتسبب في عدم إختفاء الخبرات والمعارف، وتحققها وتراكمها ونضجها في مسيرة الموجودات كافة.

أي أن النفس تدوّن تجربتها فيها وتحملها إلى فيضها الأكبر، وتحافظ على ما دونته بالموجود الذي تكون فيه، فالنفس ذات النفس لكنها صاحبة تجارب متنوعة، ومدونات متباينة، وكل نفس تطلق ما دوّن فيها من الرؤى والتصورات وتعبر عنه بسلوكيات ترمز إليها.

وهذا يؤسس لموسوعة أرضية نفسية، أو أرشيف نفسي أرضي، تنكبس فيه المعارف والعلوم وتنضغط كما يحصل للمعلومات في أي جهاز إليكتروني.

وعليه فأن المستقبل سيوافينا بقدرات غير مطروقة لقراءة المدونات النفسية الموجودة في المخلوقات والموجودات كافة.

وليس ببعيد ذلك الزمن الذي نتعلم فيه قراءة مدونات النفوس الحالة في أي موجود أرضي ومنها البشر، وبالتمكن من قراءة هذه المدونات ، سنستطيع أن ندرك مدونات الدوران وإستحضار التأريخ حيا أمامنا، وبهذا ستنكشف أسرار الموجودات والمعتقدات، وما يتصل بالوعي الأرضي من مدارك وتصورات، ورواسخ بقيت تهيمن على مصير الأجيال بعد الأجيال.

ويمكن القول أن النفوس كالبذور تحلم بالمروج والغابات الشاسعة، فالنفوس تتواجد، وتنجب ذاتها من رحم ذاتها، و تحتاج لقدح طارقها، لتطلق شرارة صيرورتها وسرمدية كنهها في أفلاك الدوران التي تنبت فيها.

وهكذا فالنفس لا تهبط بل تحل في الموجود الأرضي، الذي يجد نفسه في مجال كهرومغناطيسي منفتل، يشحذه بالطاقات الكفيلة بتجديد مسيرته، فعمر الموجود يتوافق مع درجة إنفتال النفس الحالة فيه، ولهذا فأن الأعمار تتباين، وقدرات الإنفتال تذوي وفقا لما إختزنته من الطاقات الكفيلة بديمومة تواصلها مع طاقات وقدرات النفس الكبرى المتصلة بها.

فهل للنفس علاقة بالروح؟!!

***

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم