قضايا

وجه الآخر: مسؤولية

إيمانويل ليفيناس (Emmanuel Levinas)‏ الذي ولد سنة 1906وتوفي  سنة 1995 هو فيلسوف فرنسي صاحب «إيتيقا الغيريّة».

قاموس كامبردج في الفلسفة يوضح أن كلمة الإيتيقا " يشيع استخدامها بين الناس كمرادف لكلمة الأخلاق " ليؤكد أن استخدامها العلمي يعني المبادئ الأخلاقية أو فلسفة الأخلاق لتقاليد معينة بالنسبة لجماعة معينة أو لفرد.

يعرف " ليفينس" بأنه فيلسوف اتيقا الغيرية وفيلسوف الوجه.

الوجه عند ليفيناس ليس فقط ما اجتمع من جبهة وعينين وأنف وفم، بل يتعدّى ذلك إلى كونه ما " يفتح هذا التكوين على عمقه ويضفي عليه بعدًا شخصيًا في نفس الوقت".

" إيتيقا الغيرية" تعتمد على التوجه نحو الآخر الإنساني والحوار معه وجهًا لوجه. اتخذ ليفانس  من الوجه رکيزة لفلسفته حيث أنه عندما يصف الوجه بالفقر والضعف والعوز،  يقول أن "هذه التعبيرات تجبرني على الإستجابة للآخر وتحمل المسؤولية عنه والموت من أجله".

جعل " ليفينس" للوجه قداسة إلى درجة  جعلته يرى أن الله اللامتناهي يتجلى على الوجه الإنساني کأثر عابر، يدعونا إلى عدم قتل الآخر.

يقول فيلسوف الوجه  "لا تقتل البتة".

من خلال نظريته هذه التي تدعو إلى فكرة إحياء وجه الآخر وليس قتله، هو يدعو  بصورة صريحة إلى محبة الآخر ورعايته والاهتمام به، مهما كانت صفته.

 اتّهم ليفيناس الفكر الغربي برمّته كونه فكرا كليانيا يقوم على الإقصاء. كذلك عاب على الفكر الغربي اهتمامه بمفهوم الحقّ وإقصاء مفهوم الخير.

 في مخالفة لفلسفة المشروع الميتافيزيقي الغربي القديم الذي يسعى نحو الحقيقة، اقترح ليفيناس "إيتيقا" تؤسّس لخير مشدود إلى الحقّ. وقد عرض  هذه الأطروحة في مؤلّفه «الكلّية واللامتناهي».

في هذا الكتاب قام بتوضيح أنّ حضور وجه الآخر ليس مدعاة  للصّراع  بقدر ما هو يدعو إلى  علاقة قوامها القبول. وذهب إلى أن إنسانية الإنسان تكمن في هذا القبول بالآخر دون احتوائه في منظومتنا المعرفيّة.

يقول ليفانس: " يفرض الوجه ذاته علي، فلا أستطيع أن أمتنع عن سماع ندائه أو تجاهله ونسيانه، لا أستطيع أن أتخلى عن مسؤوليتي أمام بؤسه".

لو اعتمد كل منا فلسفة ليفانس في تعامله مع الآخر لأصبح الآخر فكرة  تعطي للوجود معناه،  سيتجلى الآخر بصورة جوهرية من خلال وجهه الذي يمثل مرآة عاكسة لحقيقة الأنا وكينونتها.

كم من الناس نلاقيهم نطالع وجوههم ..نتحاور معهم فنشعر كأننا ولدنا من جديد.

في هذا يذهب ليفانس إلى أن  لحظات الالتقاء بالآخر هي لحظات ولادة للأنا من جديد من خلال الآخر، فتموت الأنا الأولى وتولد أنا جديدة.

لو طبقنا فلسفة ليفانس لأصبح وجه الآخر مدعاة إلى الوقوف عنده بكل احترام،  سواء كان هذا الآخر إنسانا عابرا ..معروفا لدينا أو مجهولا ..صديقا حميما أو عدوا لدودا.

هذه النظرة ستمكننا من تجاوز مفاهيم الذاتية كالتمركز حول الذات والأنانية والنرجسية إلى مفاهيم تبني لعلاقات غايتها المحافظة على الحياة الإنسانيّة وتكاملها.

عندما تحترم وجه الآخر فلن يكون الإنسان ذئبا  لأخيه الانسان ولن يكون  الآخر هو الجحيم الذي يفقدني حريتي.

 إنما الآخر سيكون شبيها لي من الناحية الإنسانية، وله من القيمة والمكانة تماما  مثل ما لدي. عندما أعي ذاتي من خلال الآخر ستتكون هويتي من خلال تواصلي معه وتحاوري معه.

 يقول ليفيناس " أن تتحدث مع الآخر هو في نفس الوقت أن نعرف الآخر ونجعله يتعرف علينا، فالآخر ليس فقط معروفاَ بل مرحّباَ به، أنه مدعو من طرفنا، أنا أفكر في كل ما هو بالنسبة لي فقط، بل وأيضاَ وفي الآن نفسه أفكر في كل ما هو بالنسبة إليه" .

أن تكون للآخر قيمة لدي هو أن لا أمتنع عن تلبية ندائه للحوار .. ألا  أتخلى عن مسؤوليتي أمام بؤسه أو جهله.

يكون لهذا الاحترام معنى عندما أتوجه بكياني نحو الآخر دون أي اعتبار لتوجهه نحوي..حتى في صورة العداوة فعندما تنظر إلى وجه من بينك وبينه عداوة فأنت ستنظر إليه باعتباره إنسانا..موقفك منه لا يجب أن يمس من إنسانيته..حينها لن تقتص منه ولن تطبق عليه شريعة الغاب ..ستعمل على أن ينال ما يستحق في كنف إحترام إنسانيته.

إن المسؤولية عن وجه الآخر على اختلاف ما يحمله وهو ينظر إليك تعني أن تحترم ما فيه من قدسية، حتى وإن لم يكن صاحب الوجه  قديسا. المسؤولية تعني أن تتولى  تسبيق البعد الأخلاقي عن أي بعد آخر. صحيح أنها مهمة صعبة لكنها ممكنة خاصة إذا كان محفزها الأكبر هو الارتقاء بالذات الإنسانية في إنيتها وغيريتها.

إن القداسة المتأصلة في وجه الآخر هي ما يتعين احترامه في كل الأوقات والأحوال.

***

درصاف بندحر - تونس

 

 

في المثقف اليوم