قضايا

موريس ميرلو بونتي في مديح الفلسفة

قال لجان بول سارتر، انه عاش طفولة لا مثيل لها، وان طفولته السعيدة الهانئة اصبحت مثل المرض الذي لا شفاء منه بعد أن تقدم به العمر.. ولهذا ظل يرى ان الانسان لا يستطيع فهم تجربته إذا لم يكن يفكر في نفسه بوصفه طفلا ينمو باستمرار، فادراك الانسان الاول ياتي بالتزامن مع تجاربه النشطة الاولى في مراقبة العالم والتواصل معه لاستكشافه.. تتذكر سيمون دي بوفوار المرة الاولى التي التقت فيها موريس ميرلوبونتي ظهيرة الخامس من حزيران عام 1927، كانت آنذاك في التاسعة عشرة من عمرها، وكان هو أيضاً قد دخل عامه التاسع عشر قبل أيام، فهما من مواليد 1908- سارتر يكبرهما بثلاثة اعوام،مواليد 1905-. في روايتها المثقفون – ترجمة جورج طرابيشي – تطلق سيمون دي بوفوار اسم " براديل " على ميرلو بونتي، حيث تصفه بأنه يمتلك: " وجهاً صافياً جميلاً، ونظرات مخملية، وله ضحكة تلميذ، وذو مزاج لطيف "، لكنه يثير الغيظ في احيان كثيرة بسبب عناده، ونظرته الى الامور من جوانب مختلفة. تَّعلق اثناء مراهقته بالفيلسوف باسكال الذي اخذ منه اختبارات الذات القلقة والوجدان المضطرب، يلخص رؤيته للحياة في كتابه " ظواهرية الإدراك" – ترجمة فؤاد شاهين – حيث يكتب:" انا بنية سيكولوجية وتاريخية. فبالوجود العيني، تلقيت طريقة كياني الحالي او اسلوبه. وكل افعالي وافكاري مرتبطة بهذه البنية، وحتى فكر الفيلسوف ليس سوى طريقة لابراز فهمه للعالم الذي هو كل ما يكون عليه الفيلسوف ". وميرلو بونتي يرى ان في وسع الانسان أن يتخطى المتناقضات الانسانية بحيث يملك شمول الرؤية، فالانسان ضعفا كامنا في قلب الوجود. وهو ليس عاملا كونيا بل هو المكان الذي تُغير فيه العوامل الكونية اتجاهاتها فتغدو تاريخا، فالعالم هو المسرح الذي تجري عليه كل ادوار حياتنا ولكنه مسرح مرتبط بالماضي والحاضر والمستقبل، وفصول مسرحياته مترابطة ومستمرة. حتى لو اسدلت ستائره فان هذا لن يعنينا في شيء لاننا لسنا المتفرجين ولكننا جميعا نحن الممثلون ونحن الذين نقوم بكل الادوار.

كانت تجربتي الاولى مع ميرلو بونتي مخيبة للآمال.. كنتُ في العقد الثاني من عمري عندما سمعت اسمه. آنذاك كنت اعمل في مجلة الثقافة، وكان الحوار يدور بين الدكتورة سعاد محمد خضر مدير تحرير المجلة والروائي الاردني غالب هلسا عن الفلسفة الوجودية، وقد اربكتني المحاورة لانها تطرقت الى اسماء لم اكن اعرف عنها شيئا، فالوجودية بالنسبة لي كانت سارتر وسيمون دي بوفوار وكامو وطبعا كيركغارد، فاسماء مثل كارل ياسبرز وميرلوبونتي وبرديائيف تبدو لي غريبة. بعد سنوات، وقعت على كتاب صغير بعنوان " تقريظ الفلسفة " المؤلف ميرلو بونتي الذي سمعت باسمه في مجلة الثقافة، دفعني الفضول الى شراء الكتاب ومحاولة قراءته، فاربكتني عباراته التي كنت اضطر للبحث عن معاني لها، وانتهى بي الامر الى العزوف عن قراءته، تركت ميرلوبونتي وتعقيداته، وانشغلت بقراءة كتب سارتر وسيمون دي بوفوار، فوجدت ان اسم ميرلوبونتي حاضرا في بعض كتاباتهما، فقررت ان اخوض مغامرة جديدة للتعرف على هذا الفيلسوف والعودة ثانية لقراءة " تقريظ الفلسفة "، وافلحت هذه المرة في قراءته من البداية إلى النهاية، متمعنا بالمفهوم الذي يقدمه ميرلوبونتي للفلسفة التي يقول انها تتضمن غرابتها الخاصة، وعن الفيلسوف الذي يطالبه بان تكون له واضحة وان يفهم ويختار.

في المقال الذي كتبه سارتر بعد رحيل ميرلو بونتي يخبرنا عن قصة لقاءهما الاول: " كنا نعرف بعضنا البعض من غير أن نتعاشر أو نتصاحب، وفي الجيش أصبحتُ أنا عريفاً وأصبح هو ضابط صفّ، وغاب كل منا عن أنظار الآخر. لكننا كنا نستعد من غير علم منا، للتلاقي، فقد كان كل منا يحاول أن يفهم العالم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً عن طريق الوسائل الموجودة تحت متناوله. وكانت وسائلنا واحدة، كانت تدعى هوسرل وهايدغر، لأننا كنا من وسط واحد" – جان بول سارتر مواقف ترجمة جورج طرابيشي -. سيخبر ميرلو بونتي الأصدقاء الذين تعرف عليهم في المقهى التي يرتادها سارتر أن الدهشة هي التي أخذته إلى الفلسفة، وسيحدّثهم عن غرامه بالفيلسوف بليز باسكال، يتذكر أنّه عثر على هذا الفيلسوف عندما كان في الخامسة عشرة من عمره حين وقع بيده كتابه " الخواطر"، وستنطبع هذه العبارة التي كتبها باسكال في ذهن ميرلو بونتي: " إن ربحت تربح كل شيء، وإن خسرت لا تخسر أي شيء، راهن إذن دون تردد على أنّه موجود". كان باسكال يصف حياة الإنسان اليومية بأنها تتقلب بين الملل والقلق، والعبثية قبل كل شيء، وهو يكتب: " إن لم تستطع أن ترى كم هو العالم عبث، عليك إذن أن تكون أنت نفسك عبثياً جداً".

يقول سارتر إن ميرلو بونتي عاش خلال حياته القصيرة، مثل باسكال: " يبحث عن فردوسه المفقود، كان يريد أن يفهم نفسه، فهو يؤمن بأن وجود الإنسان لا يتمّ إلّا بالتوافق مع العالم وتفهمه "

ولد موريس جان جاك ميرلو بونتي في الرابع عشر من اذار / مارس عام 1908، ومثل سارتر وكامو، يموت والده -الضابط في فيلق الشرف- وهو في الخامسة من عمره، وستتولى أمه تربيته، يتعلق بها ويغار عليها مثلما كان سارتر الطفل يفعل مع أمه التي كانت تسميه " زوجي الصغير"، كانت والدة ميرلو بونتي من عائلة غنية، عاش طفولة سعيدة لكنها خجولة، كان يتجنب الأسئلة التي تتعلق بحياته الجنسية، فقد كان كتوماً، بل حتى قصة إعجاب سيمون دي بوفوار به اعتبرها مجرد مزحة: "فلا يمكن أن يلتقي عقلان فلسفيان في فراش واحد". لكن هذا التحفظ والكتمان لم يمنع ميرلو بونتي من الارتباط ببعض الفتيات، على الرغم من حرصه على أن يعيش حالة زوجية مستقرة. فمن بين مغامراته كانت علاقته بـ (سونيا براونيل)، لكن العلاقة لم تستمر طويلاً، إذ سرعان ما أحبّت سونيا رجلاً يعاني من المرض لتتزوجه عام 1949، وكان هذا الرجل اسمه (جورج أورويل).

أنهى بونتي دراسته الثانوية متفوقاً، ليلتحق بمدرسة المعلمين العالية التي تخرج منها عام 1930، يتم تعيينه مدرساً للفلسفة في بعض المدارس الثانوية، يلتحق بالجيش عام 1939، وللفترة من 1940 إلى 1944 ينضم إلى صفوف المقاومة الفرنسية إلى جانب كامو وسارتر، وقد ساهم بتحرير مطبوعات المقاومة. وما أن تنتهي الحرب العالمية الثانية حتى يتقدم لنيل شهادة الدكتوراه تحت إشراف أستاذه (أميل برهييه)، وكانت أطروحته بعنوان (ظاهراتية الإدراك الحسّي) والتي نُشرت في كتاب عام 1947، في هذا الكتاب سيمزج بين الفلسفة وعلم النفس، حيث يصف لنا العناصر الأولى في الادراك: الأحاسيس، البصر، السمع وغيرها، وصفاً جديداً، فهو يؤكد أننا حين ندرك، إنما نضفي المعاني على الأشياء، وكل معنى يضطرب بين اللامعنى والمطلق، وكان بهذا الكتاب متأثراً جداً بفلسفة (أدموند هوسرل) في " الظاهراتية"، التي حدد فيها الفيلسوف الألماني الشهير أن كل تفكير ينبغي أن يبدأ بالعودة إلى وصف العالم الذي نعيش فيه، ولهذا فنحن لا نستطيع أن نتبين وحدة أجسادنا التي نعيش بها دون أن نتبين وحدة الأشياء، وتتضح لنا حقيقة حواسنا في اللمس والنظر ابتداء من الأشياء، ويطلق هوسرل نداء فلسفياً: " لا تضيعوا الوقت في التساؤل عمّا إذا كانت هذه الأشياء حقيقية، اذهبوا إلى الأشياء نفسها".

ويضرب موريس ميرلو بونتي مثلاً على ذلك في أعمال الرسام الفرنسي (بول سيزان)، فقد كان يبدو من لوحات سيزان في شبابه أنّه يسعى لتصوير التعبير أوّلاً. كانت اللوحات التي رسمها في بدء حياته الفنية نوعاً من التسجيل للتعبيرات مباشرة، متخطياً الأشياء ذاتها. ولذلك فشل دائماً في محاولة التقاط هذه التعبيرات، وتعلّم سيزان من هذه التجارب شيئاً فشيئاً أن التعبير هو لغة الشيء نفسه، وأنه يولد مع رسومه ومعالمه، لذلك أصبح التصوير عند سيزان محاولة مستمرة لبلوغ علامات الأشياء والوجوه عن طريق الإحياء المتكامل لرسومها ومعالمها الحسية، وهذا هو ما تؤديه الطبيعة ذاتها في كل لحظة، ولهذا يصحّ أن يقال إن المناظر التي صورها سيزان إنما تنتمي إلى عالم سابق على هذا العالم، حيث لم تظهر الناس بعد. وقد حاول هايدغر أن يحدد المعنى الاشتقاقي لكلمة الظاهراتية، فأشار إلى أن الظاهراتية تعني البحث عن معنى ما يظهر.

والمثير أن معظم فلاسفة الوجوديّة المعاصرين حاولوا التقرب من فلسفة هوسرل، حتى أن سيمون دي بوفوار تكتب عام 1931 أنّها عجزت هي وسارتر آنذاك عن معرفة الفائدة الفلسفية لكلمة فينومينولوجيا (علم الظواهر). لكن سارتر سيلتهم في ما بعد مجلداً صغيراً لهوسرل، ثم يقرّر السفر إلى برلين حيث يتعرف على الظاهراتية عن قرب، وسيعود بعد عام وهو يحمل زاداً جديداً؛ ظاهراتية هوسرل مخلوطةٌ معها أفكار فيلسوف دنماركي اسمه (سورين كيركغارد)، مع إحساس جديد بالعدم، ليخرج لنا بفلسفة جديدة ستسمى وجوديّة سارتر.

بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، انضم ميرلو بونتي إلى سارتر ومجموعة من الكتّاب لتأسيس مجلة فكرية وفلسفية أطلق عليها اسم (الأزمنة الحديثة)، وهو الاسم الذي اقتبسه سارتر من عنوان فيلم (شارلي شابلن) الشهير الذي كان سارتر وبوفوار يستمتعان بمشاهدته، وقد كتب سارتر افتتاحية العدد الأوّل الصادر في سبتمبر عام 1945 شارحاً فيها هدف المجلة: " باختصار، نيّتنا هي العمل على إحراز تغييرات معينة في المجتمع المحيط بنا". ورغم أن سارتر كان يكتب معظم الافتتاحيات، إلّا أن ميرلو بونتي كان الأكثر نشاطاً، إذ كتب العديد من المقالات البعض منها من دون اسم.

في يوم 15 يناير عام 1953، حضر جان بول سارتر محاضره لصديقه ميرلو بونتي كان يلقيها في (الكوليج دي فرانس)، كانت هذه أوّل محاضرة له بعد وظيفته الجديدة مدرساً للفلسفة، في تلك المحاضرة أشار ميرلو بونتي إلى ما يجري في العالم من أحداث وطالب بأن يبقى الفلاسفة يقظين، عندما انتهت المحاضرة لم يقدم سارتر التهنئة لصديقه، بل فقط قال له عبارة واحدة: " كانت المحاضرة ظريفة". عاش سارتر ضد العمل في المؤسسات الرسمية ووجد في قبول ميرلو بونتي للمنصب الاستعداد لأنّ يكون مدجناً داخل المؤسسة الحكومية. رفض سارتر من قبلُ التدريس في الكوليج دي فرانس. سينشر ميرلو بونتي محاضرته تحت عنوان " الصراع من أجل الوجوديّة" التي صاغ فيها أشبه بالرد على محاضرة سارتر (الوجوديّة فلسفة إنسانية)، فالوجوديّة بالنسبة لميرلو بونتي تحاول أن تبرهن أن الإنسان أكثر من مجموع القوى الاجتماعية والنفسية والجسدية، وأن ميزتها بالتحديد هي أنّها تحاول، من منطلق وجوديّ، أن تجد أسلوباً للتفكير في وضعنا. أو بمعنى أدق، فإن " الوجود" هو تلك الحركة التي عن طريقها يوجد الإنسان في العالم ويدمج نفسه في موقف اجتماعي وجسدي يتحول بعد ذلك إلى وجهة نظره عن العالم.

عام 1953 يصدر كتابه (تقريظ الفلسفة) وفيه يتساءل ميرلو بونتي: ما هي مهمة الفلسفة، إذا كانت قد بقيت لها مهمة؟ فالعالم الذي نعيش فيه اليوم يتميز بسيطرة العلوم الطبيعية، وامتداد مناهج البحث العلمي إلى العلوم الإنسانية أيضاً، وهذا ما يسلب الفلسفة أهميتها في تناول ومناقشة المشكلات، وينتزع منها الدور الرئيسي الذي كانت تؤديه في الفكر البشري، فهل انتهت الفلسفة؟ يجيب ميرلو بونتي بالنفي، فالفلسفة أصبحت في كل مكان، حتى امتدت إلى أعمالنا اليومية، ومن الخطأ القول إنها أصبحت معزولة عن الحياة، لأنها في الواقع تعيش في حياتنا. صحيح أن العلم أصبح المجال المهيمن، ولكن الحياة نفسها، الحياة المباشرة، أصبحت فلسفية. ويحلل ميرلو بونتي وضع العالم الممزق بين عدة اتجاهات ومظاهر، ليؤكد أن في هذا العالم بالذات تبرز أهمية الفلسفة في سعيها إلى أن تعيد الوحدة إلى هذا التشتت ـ وأن ترمم كل صدع في الوجود يمكن أن ينشأ عن هذا الضياع: " إن رسالة الفلسفة أن تضع معنى للعالم، ولا نعني بذلك أن نكتشف هذا المعنى أو نتخيله في مذهب معين، على غرار التجارب الفلسفية السابقة، بل أن نبدع معنىً جديداً، يكون الوحدة الجديدة للعالم"، ويشرح ميرلو بونتي معنى الفلسفة بالنسبة إلى الإنسان المعاصر فيكتب: "ليست مهمة الفلسفة أن تحلل لنا المشاكل أو تفسرها، أو أن تبني العالم على أساس فكري معين، بل أن وظيفتها الأساسية، هي أن تعمق اندماجنا في الوجود، وبذلك يتسع وعينا للكون ويصبح أكثر شمولياً" – تقريظ الفلسفة ترجمة قزحيا خوري -

سيشعر ميرلو بونتي باليُتم للمرة الأولى وهو في الخامسة والأربعين من عمره عندما ماتت والدته عام 1953، العام 1955 سيكون عام الصدام الكبير مع سارتر، حيث نشر ميرلو بونتي كتابة (مغامرات الجدل)، والذي خصص فيه فصلاً طويلاً عن صديقه بعنوان (سارتر والبلشفية المتطرفة)، تناول فيه كتابات سارتر السياسية ودفاعه عن الاتحاد السوفييتي، وقد كان موقف ميرلو بونتي مطابقاً لموقف ألبير كامو الذي كان قد أعلن القطيعة مع سارتر، قبل هذا التاريخ كان ميرلو بونتي مؤيداً للسوفييت، وقد دافع في كتابه (الفلسفة الإنسانية والإرهاب) الذي صدر عام 1947، عن ضرورة العنف لبناء دولة شيوعية والحفاظ عليها ضد أعداء يحدِقون بها ومصممين على تدميرها. المثير في الأمر أن سارتر لم يردّ وإنما ردّت سيمون دي بوفوار بمقال حمل عنوان (ميرلو بونتي والسارترية الزائفة). لكن سارتر سيكتب بعد رحيل ميرلو بونتي: " كان يعتقد أنّه ظل صادقاً مع نفسه وأنني خنته".

عاش ميرلو بونتي حياة فيلسوف وجوديّ، فيلسوف عنيد، متقلب، لكنه ملتزم باليسار، مدافعاً عن قضايا السلم العالمي، وعن حقوق العمال، إضافة إلى إدانته للاستعمار بشتّى صوره وألوانه، ولهذا تبدو وجوديّة ميرلو بونتي وجوديّة ملتزمة، أصرّت على تخليص الوجوديّة من نزعاتها الفردية، فقد استخدمت الإدراك الحسي كوسيلة يتعرف من خلالها الإنسان على عالمه المعاش، إلّا أنّها في الوقت نفسه لم تستبعد دور العقل في التحليل والتأمل. كما أن ميرلو بونتي ينفرد عن الفلاسفة الوجوديّين باحتلال موضوعة الغير مكانة متميزة لديه. كان سارتر يرى أن العلاقة مع الآخرين هي في كوني أجعل من الآخر موضوعاً، على أن أحيل من نفسي ذاتاً، ويرفض ميرلو بونتي هذه العلاقة التي كان يعتبرها ضيقة الأفق، ويقرر أن العلاقة بيني وبين الآخر هي علاقة مشاركة، إذ أن الآخر بالنسبة لي ليس مجهولاً، وعندما أُفسّر ذاتي فأن هذا لن يتأتّى إلّا بمقارنة هذه الذات مع الآخرين، ونجده يقول: " تُركت وحدي حرّاً بين الألم والمتعة، وليس حرّاً في أن أجهل الآخرين"، ويذهب ميرلو بونتي أبعد من ذلك حين يؤكد أن الحرية لم تكن حريتي أو حريتك بقدر ما كانت حريتنا جميعاً، في المقابل نجد فكرة الالتزام عنده هي نوع من التفاعل بين الداخل والخارج، بين الوعي الذاتي الحرّ وبين وعي الآخرين، اذ أن الالتزام من جانبي لن يعني في هذه الحالة الخضوع لأية سلطة كانت، بل سيكون بمثابة تنظيم واعٍ لفعلي الحرّ حتى يصير له معنى، إذ أني في ممارستي لهذه الحرية سأجد أن ما ينبع من داخلي وعي وليس هناك من شيء ما يمكنه أن يثقل على فعلي أو يخضع له، ومن هنا تبدو فلسفة ميرلو بونتي فلسفة وجوديّة ملتزمة، فلسفة تأمل للمعنى والدلالات، أراد من خلالها تخليص الفلسفة الوجوديّة من نزعتها الفردية المتطرفة، وأن تتيح للإنسان أن يفتح قلبه وعقله على العالم والغير: «على الفيلسوف أن يأخذ على عاتقه قول كل شيء ملتمساً في حديثه الوضوح والصراحة، وليس من شأن الفيلسوف أن يخدع الناس، فإن الروح الفلسفية هي أعدى أعداء الكذب والخداع».

كان كتاب (المرئي واللامرئي) – ترجمة سعاد محمد خضر وهناك ترجمة اخرى قام بها عبد العزيز العيادي - هو المشروع الفلسفي الأكبر بالنسبة لميرلو بونتي، إلّا أن الكتاب لم ينشر خلال حياته، وقد جمعه تلميذه (كلود لوفور) عام 1964، أي بعد ثلاث سنوات على رحيله، وقد كان الكتاب سلسلة محاضرات مثله مثل معظم كتب ميرلو بونتي الذي ظل طوال حياته يعتبر الفلسفة خطباً أكثر منها كتابات، ولهذا كان شأنه شأن سقراط، يثير الأسئلة. والكتاب مجموعة من الدروس التي ألقيت بين عامي 1956 -1960 جعلت من علاقة الإنسان بالطبيعة محوراً لها، ويحاول ميرلو بونتي من خلال كتابه هذا أن يطرح الجدل الذي دفع الغرب إلى التساؤل حول القطيعة الأساسية بين الإنسان والطبيعة، لقد حاول ميرلو بونتي في (المرئي واللامرئي) أن يطرح جميع التساؤلات عن الإنسان والعدم والفكر والوجود واللغة والحياة والموت.

في سنواته الأخيرة عاش ميرلو بونتي " نصف ميت" كما قال لسيمون دي بوفوار وهي تشاهده بعد وفاة والدته التي كانت مصدر حياته السعيدة، أصدر عدداً قليلاً من الكتب، منها دراسة بعنوان (العين والعقل) الى العربية يوسف، أُعيد نشرها بالعدد الخاص الذي أصدرته (الأزمنة الحديثة) لتكريمه بعد وفاته، وستنشر في ما بعد في كتاب منفصل- ترجمه الى العربية يوسف الشاروني -ويعدّ آخر ما كتبه بونتي.

يكتب جان بول سارتر:" لقد زعم بعضهم ان ميرلوبونتي اقترب من هايدغر.. والحق ان دربهما قد تصالبا، ليس إلا. فالوجود هو الهم الرئيسي للفيلسوف الالماني، اما ميرلوبونتي، فعلى الرغم من مفردات مشتلركة احيانا فإن الهم الرئيسي اليه هو الانسان ".

عاش ميرلوبونتي مثل سائر الوجوديين الازمة الروحية للفلاسفة والمثقفين الاوربيين الذين يشدهم التمرد الاجتماعي الى الماركسية وتبعدهم فضاضة العقيدة الستالينية عن الانتماء.

ان الفيلسوف كما يراه ميرلوبونتي لا يسعى الى المعرفة المطلقة، بل ينظر في صورة العالم التي تتجدد في اللحظات التي تتجدد فيها الحياة، وهو بفهم هذه اللحظات حين يتخطاها بحيث يصبح عالمه الخاص عالما عاما للجميع. واسرار الفيلسوف اسرار كامنة في كل انسان.

***

علي حسين

في المثقف اليوم