قضايا

الإسلاميَّات في صادق أو القَدَر لـفولتير.. دراسة مقارنة

كان الدافع الرئيس للقيام بهذه الدراسة حول الإسلاميَّات في "صادق أو القَدَر" لـ(فولتير) ملاحظة بعض الآثار الإسلاميَّة أو العَرَبيَّة، خاصَّةً القُرآنيَّة، أو التي قد تعود إلى حكايات "ألف ليلةٍ وليلة". فجاءت بهدف استقصاء تلك الآثار، وإرجاعها إلى أصولها. وازداد الاهتمام بالموضوع بمعرفة علاقة (فولتير، -1787) الوثيقة بالشَّرق. وأبرز دليلٍ على تلك العلاقة قِصَّة "صادق" نفسها؛ إذ كانت قِصَّةً بابليَّةً شرقيَّةً قديمة، أعاد فولتير طرحها على نحوٍ آخَر.

ولأنَّ قِصَّة "صادق" قِصَّةٌ بابليَّةٌ قديمة- نُقِلت إلى العَرَبيَّة في الفترة نفسها التي أُلِّفت فيها مجموعة "ألف ليلة وليلة"- فإنَّه يبدو من المهمِّ أن تُدرَس القِصَّة البابليَّة القديمة، أو المترجمة إلى العَرَبيَّة؛ لمعرفة ما أخذ (فولتير) منها وما ترك. غير أنَّ هذا مشروعٌ آخَر لعلَّه يتحقَّق مستقبلًا. أمَّا هذه المقاربة، فتُعنَى باستقراء الآثار الفنِّـيَّة المقارنة، اعتمادًا على الترجمة العَرَبيَّة التي أنجزها (طه حسين) لقِصَّة "صادق".

وبناءً على هذا قُسِّم الموضوع إلى ثلاثة أجزاء: جُعِل الأوَّل للمَحاور الرئيسة في قِصَّة "صادق" لـ(فولتير)؛ لأنَّ في ذلك مفتاحًا لما سيكون بعد ذلك من دراسة. أمَّا الجزء الثاني، فكان عن العلاقات التاريخيَّة، وقد انشعب هذا الجزء إلى شُعبتين: واحدة أُفرِدت لحياة فولتير، والأخرى لصِلاته بالشَّرق الإسلامي. والجزء الثالث للمقارنة، عُرِضت فيه الآثار الإسلاميَّة أو العَرَبيَّة وأُصولها، مبيَّنةً وجوه التشابه أو الاختلاف بين المؤثِّر والمتأثِّر. وانقسم هذا الجزء إلى قِسمين: الأوَّل "بين القُرآن الكريم وقِصَّة صادق"، والآخَر "بين ألف ليلة وليلة وقِصَّة صادق".

وقد كنتُ كتبتُ هذه الدراسة قبل أكثر من ثلاثة عقود من السنين، خلال الفصل الجامعيِّ الأوَّل لعام 1405هـ= 1985م، ضِمن متطلباتٍ فصليَّةٍ لمقرر (الأدب المقارن)، في مرحلة الماجستير، تحت إشراف (أ.د. أحمد كمال زكي، رحمه الله). ومرَّت السنون، ولم يتسنَّ لي أن أنشر منها إلَّا مقدِّمتها في صحيفة «الرياض»، خلال ثمانينيَّات القرن الماضي، ولم تشأ الصحيفة أن تستكمل نشر بقيَّتها، ربما بسبب السمعة الفولتيريَّة غير المقبولة إذ ذاك.

ويسجِّل لنا هذا العمل مرحلة من مراحل تطوُّر المصطلح الأجناسي في الأدب، ولاسيما في العالم العَرَبي. فالمتلقِّي اليوم سيسأل: أهذا النصُّ "قِصَّة"، ذات صبغة تاريخيَّة، كما سمَّاه كاتبه: Histoire، وكما وافقه مترجمه؟ أم هو "رواية" تاريخيَّة، كما يمكن أن نفهم مصطلح (رواية) اليوم؟ إنَّه رواية، حجمًا وبناءً، غير أنَّه كان يُسمَّى "قِصَّة"، في ستينيَّات القرن الماضي، وما قبلها. وربما مُيِّز بإضافة صفة "طويلة"؛ فسُمِّي: "قِصَّة طويلة"، بعد ظهور "القِصَّة القصيرة". غير أنَّنا هنا سنلتزم بالمصطلح المستعمل مع النصِّ، بالفرنسيَّة والعَرَبيَّة.

كما أنَّ هذا العمل يسجِّل مرحلةً من مراحل تطوُّر الباحِث، بل من مراحل تطوُّر مناهج الأدب المقارن في العالم. فليس ما يجده القارئ في هذا الفصل من انطلاق المقارنة من شرطَي (العلاقات التاريخيَّة) و(التأثُّر والتأثير) هو لأنَّ موضوع الدراسة كان يستدعيه بالضرورة، لكنَّه تبنٍّ لمعايير المدرسة الفرنسيَّة التقليديَّة في الأدب المقارن، المنحدرة من القرن التاسع عشر؛ التي تشترط ذلك، والتي ما زالت عقابيلها مسيطرةً إلى اليوم على غير قليلٍ من المهتمِّين بالأدب المقارن. وكان ذلك بالطبع هو مذهب أستاذي (أحمد كمال زكي)(1)، ومذهب جيله من المقارنيِّين العَرَب، تلاميذ المدرسة الفرنسيَّة العتيقة. على حين لم تَعُد المدرسة الأميركيَّة في الأدب المقارن تُقِرُّ بمعيارَي العلاقات التاريخيَّة والتأثُّر والتأثير ولا تأخُذ بهما، منذ الثورة على المدرسة الفرنسيَّة- في المؤتمر الثاني للرابطة العالميَّة للأدب المقارن، عام 1958- على يد (رينيه ويليك، -1995). وإنَّما تتبنَّى، عِوَض مفهوم التأثُّر والتأثير، مفهوم (التوازي) بين الأعمال قَيْدَ المقارنة. غير أنَّ عدم اشتراط التأثُّر والتأثير في الدرس المقارن لا يعني إنكار وجوده، إنْ وُجِد، كما في حالتنا هذه.(2)

وللموضوع بقايا.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)

.....................

(1) وفي كتابه «الأدب المقارن»، (الرياض: دار العلوم، 1984)، نموذج من ذلك المنهاج الفرنسي.

(2) حول هذا طالع مثلًا كتاب: علوش، سعيد، مدارس الأدب المقارن، (بيروت: المركز الثقافي العربي، 1987).

في المثقف اليوم