قضايا

التهكم والتعويض عن النقص

قد نتعرض في تعاملنا مع الآخرين إلى كثير من المواقف المسيئة التي لا نجد لها تفسيرا في الإبان. من ذلك أن ترى أحدهم جذلا مستبشرا في حال بدر منه تجاهك، وبدون موجب، ما يجعلك تشعر بالسوء تجاه نفسك.

قد يبلغ به هذا أن يتهكم على ميزة فيك من المفروض أن تكون مدعاة للإطراء. قد يكون هذا التهكم بصورة مباشرة أو عن طريق التلميح أو بالإشارات. كذلك يمكن أن يصدر عنه هذا التصرف المسيء بينك وبينه كما يمكن أن يسخر منك على الملأ.

لسائل أن يسأل ما الذي يدفع الناس كي يسيئوا لبعضهم البعض هذه الإساءة المجانية؟

ألفرد أدلر (1870 - 1937)، طبيب نفس نمساوى، مؤسس مدرسة علم النفس الفردى التي ترتكز على كون القوة الدافعة في حياة الإنسان هي الشعور بالنقص والتي تبدأ حالما يبدأ الطفل بفهم وجود الناس الآخرين والذين عندهم قدرة أحسن منه.

كان ادلر من تلاميذ سيجموند فرويد لكنه اختلف معه وانشق عنه.

أسس هذا الطبيب نظريته على دور الأنا الشعورى على خلاف فرويد الذي أكد على دور الليبيدو او النزعات الجنسيه.

فمثلا وحسب رأيه، فإن أساس اضطراب العصاب (العصاب هو عبارة عن مجموعة من الاضطرابات العقلية التي تتميز بشكل عام بالقلق، والاكتئاب، ومشاعر التعاسة، أو التوتر) هو الشعور بالنقص الناشئ عن احباط نزعات السيطره و أهداف الشخص الكبرى وأن التعويض هو الميكانيزم اللى يشبع به نزعته للتفوق.

أما فيما يتعلق بالتهكم فقد أكد ادلر أنه انفعال مركب وأرجعه إلى الغرائز البسيطة التي يتركب منها، فقال:

(هو خليط من انفعالين هما الغضب والاشمئزاز، فنحن إذ تثور فينا غريزة النفور نشمئز، فإذا عدا الشيء الذي أثار اشمئزازنا على صفاء عيشنا، من أية ناحية من النواحي، بعثت فينا غريزة المقاتلة والانفعال المقترن بها، وهو الغضب، فدفعا بنا إلى السخرية مما بعث اشمئزازنا أو ممن أثاره في نفوسنا. ولا يخلو هذا من عنصر الزهو، لأننا ننزع إلى الرضا عن أنفسنا والاسترواح إلى شعورنا، عقب مطاوعة السخرية والانسياق معها).

التهكم هو الكلام الذي يذكر في غير سياق التواصل المتعارف عليه بهدف النيل سلبا من شخص أو مقولة أو فكرة أو معتقد، فيكسر تواتر مسار الحديث لينقلب الجد إلى هزل ولكنه هزل قاتم. هزل يرسم الضحكة على الوجوه ولكنه يورث جرحا ويضمر شرا..شرا بالمتهكم عليه وذلك بالتنقيص من قيمته والتقليل من شأنه حتى يشعر صاحب النكتة،الخارجة عن إطارها، بالعلو والتفوق في قرارة نفسه.

نفهم إذا أن التهكم على الآخرين مرده البحث عن التعويض عن الشعور بالنقص.

جاء في كتابات أدلر أن كل فرد يمر بتجربة يعاني فيها إحساسًا بالدونية، ويؤمن أدلر بأن كل فرد يجاهد من أجل التغلب على مثل هذه الأحاسيس وفقًا لأهداف محددة ومنتقاة. وهو يذكر أنَّ لكلّ فرد أيضًا طريقة متفردة في محاولته لتحقيق تلك الأهداف. وقد استخدم أدلر مصطلح "أسلوب الحياة" وهو يقصد بذلك الطرق التي يتبعها لتحقيق تلك الأهداف.

يعتقد أدلر أن شخصية ألفرد ومفهومه للعالم يعكسان أسلوب حياته وأسلوب تعاطيه مع الناس.

إن مفهوم الشخصية عند آدلر يرتكز أساساً على مبدأ فهم شخصية الفرد وطبيعته الداخلية مما تستلزم الكشف عن الإطار الاجتماعي الذي يعيش فيه الإنسان من حيث هو كائن إجتماعي، تتشكل حياته من خلال المعايير الأخلاقية والثقافية والاجتماعية.

لفهم الإنسان يتوجب فهم هذه العلاقات الاجتماعية التي يتواجد فيها.

إن فهم من يتهكم عليك من شأنه أن يمكنك من التقليل من حجم الأذى الذي يمكن أن يؤثر فيك وفي نفسيتك. لكي تفهم الخلفية من وراء سوء تصرفه يتحتم أن تفهم العلاقات الاجتماعية التي يتواجد فيها هذا الشخص، ببساطة، أن تضعه في إطاره.

في الحقيقة إن التهكم على الآخر بالإشارة أو بالقول أو بوسائل أخرى وإن يجعل صاحبه يشعر حينها بالزهو المؤقت فهو لن يضيف له ما ينقصه.

إن الإضافة الحقيقية هي عندما يعرف الواحد نفسه ويعمل على تطوير ذاته و مهاراته و يفهم خاصة أن الإنسان، مهما كان، يتعين احترامه لا التهكم عليه. و يعي خاصة أننا، كلنا، قادرون على الود الصادق والحب الحقيقي.

أستحضر هنا مقولة لمن سخريته تختلف كثيرا عن سخرية هؤلاء من حيث غاياتها، مقولة لتشارلي شابلن، حين ذكر أنه " حينما ينهمر عليك عالم من الخيبات، تنتقل إما إلى الفلسفه أو السخرية."

محظوظون هم من انتقلت بهم خيباتهم إلى الفلسفة بدل التهكم على الناس والسخرية منهم.

***

درصاف بندحر - تونس

....................

المرجع:

كتاب علم النفس الفردي لألفرد أدلر، د. أحمد فائق.

 

 

في المثقف اليوم