قضايا

السبق الحضاري في المجتمع المعطوب.. فاعل عراقة أم عامل إعاقة؟!

في المجتمعات المتقدمة حضاريا "والمترقية إنسانيا"، قلما تجد من يتباهى  بالحديث عن موروثه الحضاري بطريقة عنصرية، كما لو أن لا وجود لمواريث حضارية أخرى في مجتمعات سواه، أو يتماهى مع مخزونه الرمزي بأسلوب نرجسي، كما لو أن لا وجود لمخزون رمزي مختلف لدى شعوب غيره. ذلك لأن هذا النمط من المجتمعات الحية والشعوب الناضجة تجاوزت تلك الأطوار البدائية وتخلصت من قيودها الخانقة، بعد أن تمكنت من تصفية حساباتها (نقديا") مع تلك المواريث القديمة والمرجعات السابقة، مثلما سعت للتصالح (عقلانيا") مع ما في ذاك الماضي الآفل من أحداث ووقائع. وبالتالي لم تعد بحاجة إلى استحضارها كلما مرت بانعطافة تاريخية حادة، كما لم تعد مضطرّة لاستنفارها كلما شهدت واقعة اجتماعية طارئة، بغية الاستنجاد بما تتوفر عليه من أرصدة رمزية واعتبارات مخيالية لتدعمها في مواقفها المتعصبة، وتساندها في تصوراتها المنمطة في أتون صراعاتها مع الجماعات / المجتمعات الأخرى.

في المقابل، وعلى العكس من ذلك، نجد إنه في المجتمعات المبتلاة بمظاهر الانشطار إلى أقوام متنابذة، والمتذررة إلى طوائف متكاره، والمتبعثرة إلى قبائل متناحرة، حيث يعلو في أجوائها وينداح بين فضاءاتها صوت الماضي المؤمثل وضجيج الموروث المتخيل من جهة، وتخفت أصوات الحاضر وتنزع إيقاعاته إلى الرتابة والجمود من جهة أخرى. تنام وتصحو مجتمعات هذا الشطر من العالم على اجترار أمجاد تاريخية لم تصنعها وبطولات سياسية لم تختبرها، ليس من باب الاتعاظ بالدروس القاسية والاسترشاد بالعبر المؤلمة لتجنب تكرار الحماقات وتحاشي الإتيان بالقباحات كما يفترض، وإنما للاستغراق بأوهام سرديات مسكونة بالأساطير، وذاكرات مشحونة بالطوباويات، وإيديولوجيات مدججة بالراديكاليات، لم تفتأ تمسك بتلابيب الواقع المعيش لتحيله إلى بركان يغلي بالصراعات من كل نوع، وينذر بالانفجارات من كل صنف، بعد أن تغلغلت تلك الأوهام والأباطيل في بنى الوعي الفردي وترسبت في طمى السيكولوجيا الجمعية!.

والحال ليس معيبا "أن يعمد الإنسان للتغني بأمجاد تاريخه ومواريث حضارته، مثلما يفاخر بانجازات أبطاله وإبداعات رموزه - فتلك على أية حال ظاهرة عامة ومشروعة لجأت إليها معظم شعوب المعمورة – ولكن ليس قبل أن يشرع بإخضاع تلك الخلفيات والمرجعيات المؤمثلة  لمطارق (النقد) ومباضع (التفكيك)، ليس لإجراء عمليات (اختلاق) أحداث تاريخية لا أساس لها، أو (تلفيق) وقائع حضارية لا دليل عليها. أي بمعنى إجراء (الترقيع) للمجزئ والمقطع بما يظهره موحدا"ومتماسكا"، و(التزويق) للمعيب والمخجل بما يجعله قمينا"بالفخر والاعتزاز، كما عمدت وتعمد جميع الأنظمة الشمولية في بلدان العالم المبتلى بمظاهر، التخلع بنيويا"، والتضعضع قيميا"، والتصدع سوسيولوجيا"، والتشظي انثروبولوجيا"، والاضطراب سيكولوجيا". وإنما لازالت كل ما التصق بالوعي من تصورات خرافية تؤسس للمفاضلة ما بين الأجناس والسلالات على أسس عنصرية وشوفينية، واستئصال كل ما علق في الذاكرة من تمثلات مخيالية تشرعن للتمييز ما بين الأديان والثقافت والحضارات على أسس من الاعتقادات البالية الموسومة بالثنائيات، النبيل والرذيل، النفيس والخسيس، المتحضر والمتبرر.  

ولهذا ندعو العراقيين – عامتهم وخاصتهم – إلى الإقلاع عن التباهي والامتناع عن التبجح – بمناسبة وغير مناسبة – بالحديث عن مواريثهم الحضارية (الفريدة)، كما لو أنها دريئة تقيهم (النقد) وتجنبهم (المساءلة) عما يرتكبونه من رذائل ويمارسونه من مهازل. هذا في الوقت الذي لا يكلفون أنفسهم عناء البحث والتدقيق بصحة قناعاتهم وصدق مسلماتهم، حيال ما يعتقدون أنهم جديرون بحمل وتمثيل تلك المواريث من جهة، مثلما لا يتجشمون وزر فحص وتشخيص ما تنوء به دواخلهم من عصبيات مدانة وسلوكيات مشينة، لا تنبئ بان من يمارس هذا الضرب من المواقف والتصرفات قمين بحمله على محمل الأصالة التاريخية والعراقة الحضارية، بقدر ما تشي بحسبانه من تلك الأقوام التي لا زالت تتخبط - دون هدى - في أطوار (توحشها) الاجتماعي و(تبربرها) الحضاري. بحيث أضاعت أصول ماضيها، وأهملت معطيات حاضرها، وفرطت بآفاق مستقبلها.

وهكذا يتبين لنا أن (السوابق الحضارية) – حتى ولو افترضنا إن جلها حقيقي - لا يشكل بحد ذاته وسيلة للجناة من الضياع والإنقاذ من العدم، إذ إن كثيرا"من مواريث الشعوب والأمم كانت بمثابة (عائق) خطير حال بينها وبين النهوض من كبوتها والاستمرار في تطورها. ذلك لأن الأمر منوط لا بالوجود الفعلي لذلك الموروث من عدمه، وإنما متعلق - بالدرجة الأساس - بالتعاطي (النقدي) مع عناصره والاستثمار (العقلاني) لمكوناته، وهو ما يجعله سلاح ذو حدين، إما أن يكون (رافعا") حضاريا"يسمو بالمجتمع إلى مدارج التطور الاجتماعي والتقدم الاقتصادي والارتقاء الثقافي من جهة، وإما أن يكون (قيدا") يشل الإرادة ويضل الوعي، مثلما يكون (عبئا") ثقيلا"يفضي إلى العطالة الفكرية والنكوص المعرفي!.  

***

ثامر عباس

      

في المثقف اليوم