قضايا

فلسفة الوقت في حياتنا

قالت العرب قديما: الوقت كالسيف، إن لم تقطعه قطعك. وهو تشبيه، يبدو لي، يعبّر عن مدى أهمة الوقت وقيمته في حياة الإنسان. ولو قمنا بعمليّة حسابيّة عن عدد الثواني والدقائق والساعات والأشهر والسنوات التي يعيشها الإنسان، لخرجنا برقم ينفي ويعاكس كل ما نعتقده من تقديرات لعمر الإنسان الحقيقي.

 فإذا كان عمر المرء قبل إهالة التراب على وجهه، نصف قرن، فلا بد من تقسيمها – على الأقل – إلى جزأين أو زمنين. زمن اليقظة وزمن النوم. هل يمكن حساب الزمن الذي يستغرقه الإنسان نائما، بما أن النوم هو موت أصغر - زمنا حياتيا، وهو زمن يكون في المرء غائبا عن عالم الإدراك والشهادة والوعي. قال تعالى في شأن أهل الكهف " كم لبثتم؟ قالوا، لبثنا يوما أو بعض يوم " (الكهف / 19). لكنّ الحقيقة أنّهم ناموا ثلاثة قرون وتسع سنوات. وهذا يعني أنّ النائم منفصل انفصالا كليّا عن الحياة واليقظة والعقل والشعور.

 إنّ الإنسان، لا يعيش سوى نصف عمره البيولوجي.أو ربّما أقل مه، إذا شخصا نؤوما، أو أكثر منه قليلا إذا كان شخصا قليل النوم، نشيط الفكر والحركة. وهذه حقيقة، نحن غافلون عنها في خضم سيرورة الزمن.

إذن، الوقت سيف على رقابنا. وحب علينا الحرص عليه، والاحتراس من نفاده في عوالم الفراغ.

 إن بناء الحضارات ورقيّها واتّساعها، قائم على عنصر الوقت. وهذا ما أدركه أسلافنا، واستغلّه الغربيون في هذا العصر. فإذا كانت بعض المجتمعات المتخلّفة، مازالت تقدر المسافات بين الأماكن بالمتر والكيلومتر والميل، فإن المجتمعات المتقدّمة، قد انتقلت – منذ زمن بعيد – إلى التقدير الزمني، فصارت الأبعاد تُحسب بمقياس الزمن وحجم الوقت. أي بمقدارالسرعة والبطء، في الحركة والفعل،و الإنجاز.

 كم من المرات، عانيت، كما عانى غيري، من سرقة وقتي، وإهداره دون إرادتي، ودون رضا مني. لعلّها أكثر من أصابع اليدين. كنت أعشق السفر على متن القطار، لأنّه – حسب قناعتي – يمنحني فرصا كثيرة، لا أجدها في ركوب السيارة أو الحافلة، لكنّني أستمتع بها في القطار، ومنها، راحة نفسيّة ومتعة بصريّة، حين يعبر بي القطار الأنفاق والفجاج ومناظر الطبيعة الخلاّبة. لكن، كان هناك أمر يؤرقني دوما، فأفكّر في هجر السفر بالقطار. مرات عديدة كنت في محطة القطار، في بلدي السائر نحو النمو - بمنطق رجال السياسة - أنتظر قدوم القطار، وأنا حريص على عدم تبديد وقتي الثمين في الشوارع المزدحمة بفوضى الناس والمركبات الصغيرة والكبيرة، وفي محطات الحافلات والقطارات. فإذا بي أفاجأ بأنّ القطار – الذي أنتظره – قد يتأخر مدة من الزمن، بأسباب كذا وكذا، وهي أسباب غير مقنعة، لأنها غير منطقيّة.

والأمر أيضا، يحدث في مطاراتنا. تتأخر الطائرة عن الإقلاع، بربع ساعة أو نصف ساعة، وهذا يعني تأخر في الوصول إلى الوجهة الداخليّة أو الخارجيّة، والحجج، غير المقنعة، نفسها. أسباب تقنيّة أو لوجستية، او مناخيّة أو غيرها من الأسباب الواهية. ولا يجد المسافر إلا كلمات اعتذار من المكلّفين بالإعلام في المطارات.

 معضلة الوقت، عندنا - نحن العرب، ومعظم دول الجنوب - وكيفيّة التحكّم فيه وتسييره واستغلاله، معضلة حقيقية، شديدة التعقيد. رغم علمنا من الكتاب والسنّة وسيرة الأسلاف، أنّ الوقت ركن أساسيّ وحاسم في بناء الحضارة.

 فقد علّمنا القرآن الكريم أنّ ترتيب شؤون حياتنا اليوميّة مرتبطة بالوقت. فأداء الفرائض والأركان قائمة على وجوب مراعاة الوقت.

" إنّ الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا " (النساء / 103)، وكذلك أخذ الزكاة مرتبطة بدوران الحول (السنة)، وكذلك الصوم فهو مرتبط بالزمن " شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن " (البقرة / 185)، وأيضا مناسك الحج، فإنّها تؤدى في أوقات معلومة، وهو شهر ذي الحجة من كل سنة. كما أقسم الله تعالى بالوقت، " والضحى * والليل إذا سجى." (الضحى / 1، 2) و" الفجر* وليال عشر.." (الفجر / 1، 2) و" العصر * إنّ الإنسان لفي خسر.. " (العصر / 1، 2).

و قد نبّهنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهميّة الوقت في حياتنا الدنيويّة، وما ينتج عنه من فوز أو خسران في الآخرة. فالمرء سيُسأل عن شبابه وعمره فيما أفناه وأبلاه، لأنّه مكلّف ومسؤول عن الوقت الذي مُنِح إيّاه، مادام عاقلا، وراشدا ومميّزا وحرّ الفكر والجوارح.

 حياة ابن آدم، محصورة بين أزمنة ثلاثة؛ زمانان أرضيّان؛ هما زمن الميلاد وزمن الموت، وزمن أخرويّ، غير معلوم البداية والنهاية - عند الإنسان - هو زمن البعث والنشور.

إنّنا نتعامل مع الزمن (الوقت)، بأسلوب، فيه الكثير من السذاجة والتواكل والإهمال. وهذا صديقي، قد حكى لي حادثة جرت له بألمانيا، حين كان طالبا في إحدى معاهدها، وكان حديث عهد بالمجتمع الألماني، واضطرته ظروفه الماديّة والاجتماعيّة إلى العمل في وظيفة ما. فقد وبّخه صاحب العمل، وهدّده بالطرد من الوظيفة، لأنّه تأخّر دقيقة واحدة في المرّة الأولى، وخمس دقائق في المرّة الثانيّة وعشر دقائق في المرة الثالثة. قال له صاحب العمل - وهو كهل ألمانيّ قحّ يسابق الزمن من أجل صون شرف ألمانيا وازدهارها - أنّ الدقائق الضائعة هي بمثابة القطرات التي تفضي إلى الطوفان عند غزارتها. فتضييع الدقائق – حسبه – مقدّمة نحو تضييع الساعات. لأن تضييع القليل سيؤدي لا محالة إلى تضييع القليل، وأنّ الطوفان يبدأ بقطرة ماء. وهذا ما سيفلس معمله، ويعيّب أرباحه، فضلا عن تآكل رأس ماله.

 ولم يكن صديقي، كما اعترف لي، يعلم أنّ حساب الدقيقة في ألمانيا - وربّما أوربا واليابان والولايات المتحدة الأمريكية وكندا – يضاهي حساب يوم أو بعض يوم في بلاده. فإنّ العامل في بلادنا – نحن أهل الجنوب العاشقين للتأخر والمتيّمين بالعطل المرضيّة وغير المرضيّة – يعامل الوقت حسب هواه. فسيّان عنده التأخر أو التقدّم. فقد أوتي من العبقريّة والذكاء والفطنة الشيء الكثير. عبقريّ وذكيّ وفطن في تطبق نظريّة في الوقت على غير معناها الحقيقي ومقتضياتها (في التأني السلامة وفي العجلة الندامة).

فقد تحوّل التأني، الذي يعني الرزانة والحكمة في إدارة الوقت، إلى إهمال وتأخّر مشينين وتسيّب. فبات الموظف، عندنا، لا يلتفت إلى قيمة الوقت، ولا يهمّه حجم استغراقه في إنجاز مشاريعه الفكريّة والاقتصاديّة. فإذا بنا نجد أنّ مشروعا ما تحدّد مدّة إنجازه في الدراسة التقنيّة بسنة أو سنتين أو أكثر – مثلا – ولكنّه على أرض الواقع يمتدّ على سنوات إضافيّة أخرى. وقد رأيت، بعض المشاريع الاقتصاديّة والاجتماعيّة الهامة، تُدشَن بعد خمس أو عشر سنوات من عمر إنجازها االمرسوم على لوح البيانات.

هذه أمثلة، رصدتها من واقعنا المعيش..

 إنّ الوقت في حياة الإنسان رأسمال مال لا يعوّض، كما قيل في الحكمة العربيّة: " الوقت من ذهب، فإن فاتك ذهب ". " لا تؤجل عمل اليوم للغد " فلسفة الوقت في حياتنا المعيشيّة، خاضعة – للأسف – لمنطق التعويض والتأجيل. فمهما حاولنا إقناع عقولنا بهذا المنطق، فإنّنا لن نفلح.

 لنأخذ مثالا لذلك، فلو أخذت مني حبّة برتقال، ثم قيل لي: خذ أخرى بدلا منها وتعويضا عن فقدانك للأولى. هل ستكون مثلها في المذاق والنضج؟ كلا، لا يمكن ذلك، وإن تشابهتا في اللون والحجم والنوع. كذلك الوقت، في حياتنا، لا يمكن الادّعاء بأنّنا نعوّض الوقت الضائع منّا. لأن سلسة التدفق الزمني لا تعرف الفراغ، ولا ترتدّ إلى الوراء، ولا يوجد فراغ بين الماضي وما نطلق عليه زمن المستقبل. لأن فلسفة الحاضر، هي تلك نقطة الاتّصال بين ما مضى، وما هو آت..

 مازلنا، للأسف الشديد – لم ندرك قيمة الوقت في حياتنا، ولم نعِ حقيقته وفلسفته وحكمته. نحن نتعامل معه الوقت بسذاجة. نحسِب طول المسافات أو قصرها، ونهمل حساب حجم الوقت في قطعها. نلتحق بوظائفنا متأخرين عن الموعد المحدّد، ونغادرها قبل نفاد الوقت المحدّد. نقضي مصالحنا الشخصيّة على حساب المصالح العامة. ننام أكثر من المطلوب. نجلس في المقاهي لساعات. فإذا مررت بمقهى، اعتقدت أنّ روادها – الذين تركوا مكاتب العمل - في عطلة. يقول لك أحدهم، انتظرني، سأعود بعد خمس دقائق، فيعود بعد ساعة أو أكثر، ويتواعد معك أحدهم على اللقاء على الساعة الثامنة صباحا، فيأتي بعد الظهر، أو لا يأتي مطلقا. وعندما تسير بسيارتك في مدننا الكبرى، تجد نفسك محاصرا من كي جانب بجحافل الزحام المروري، وتضيع منك الدقائق والساعات. وعندما تقصد مصلحة إداريّة، تصدمتك سلوكات بيرقراطيّة لا طائل منها. وفي أغلب الأحيان تجد نفسك، أيضا، منغرسا في طابور، من أجل ابتياع ما يلزمك من أساسيات غذائيّة.

 وذات مرّة، سألت صديقا لي هذا السؤال:

 - هل فعلا، نحن نعيش حياتنا حسب عمرنا البيولوجي الممتد من لحظة الميلاد إلى أجل الممات؟

 - قال متعجّبا: وهل عندك شكّ في ذلك؟

 - قلت، بلى. نحن نعيش أقل من عمرنا البيولوجي.

 - كيف ذلك؟

- سأحسبِها لك كالآتي: إذا كان عمرنا البيولوجي ثمانين سنة، فنصفها (أي أربعون سنة) نقضيها في النوم. وتبقى لنا أربعين سنة، وهي مجزأة بين الحزن والفرح والانتظار في المحطات والطوابير وربّما الاعتقال أو الإقامة الجبريّة. فلو قدّرنا مدّة حياتنا الحقيقيّة، فلن تتعدى بضع سنوات.

- هذه، فلسفة جديدة، لم أعهدها، يا صديقي.

هذا مثال، أوردته، لبيان ماهيّة الوقت وقيمته في حياتنا. وليدرك المرء العاقل، أنّنا في مجتمعاتنا الجنوبيّة والشرقيّة، المتخلّفة، والسائرة نحو النمو، نعاني من معضلة الوقت. وأعود، وأكرّر، إنّ الحضارة لن تقوم لها قائمة في أرضنا، ما دمنا ننفق الوقت في توافه الأمور، ونهدره دون وازع عقلي، ونعامله معاملة الذكر للأنثى.

***

بقلم الروائي والناقد: علي فضيل العربي – الجزائر

 

في المثقف اليوم