قضايا

حرية المرأة وازمة الهوية.. دراسة انثروبولوجية (1)

تجري اليوم في العالم بوجهيه الواقعي والافتراضي تغيرات خطيرة تمس وتطال طبيعة التكوين النوعي والنفسي والعقلي للجنس البشري، وبات من الواضح ان مشاريع كبيرة تقف وراء ذلك عندما عدّت دول كبرى على السنة بعض مسؤوليها، اولئك الاشخاص الذين يعلنون عن رغباتهم في التحول الجنسي او المثلية بأنهم ابطال، لأنهم تمكنوا من مواجهة مجتمعاتهم والتصريح برغباتهم، واعتبر ما يقومون به من شذوذ يندرج ضمن الحريات الخاصة التي دعا الى احترامها ودعمها، واذا كان ذلك مقبولاً في بعض البلدان، فإن ما لا يمكن تجاوزه في مجتمعاتنا العربية  هو اننا بشكل او بآخر صرنا ملزمين في حاضرنا بالتبعية لحركة العالم في كل المجالات بعد ان تمكنت الماكنة الاقتصادية الصناعية من معالجة مشاكل استعصت على السياسة العالمية مثل نضوب المصادر الطبيعية  للطاقة، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وازمة الغذاء والماء والتصحر واحتباس الأمطار وغيرها، وكان من ابرز مخاوف المعنيين بدراسة علم الانسان هو محاولات تلك المشاريع إعادة برمجة حياة الناس على وفق تقنيات حديثة تخدم عالم الاشياء الذي يندرج فيه الانسان كرقم الى جانب الكائنات الاخرى، وفي ضوء ما قدمه علماء المستقبليات من توقعات رسمت صورة مخيفة لمستقبل الانسان على الارض كونه مهدد في حياته ووجوده بسبب نتائج السياسة العالمية، فقد تسببت هذه الرؤى في إحداث تراجع نفسي وإحباط لدى كثير من الناس، وهنا يأتي دور الثقافة والمثقف في انقاذ واقع الحال والوصول به الى حالة من التوازن حفاظاً على سلامة النسيج الاجتماعي من التمزق الذي بات يهدده، ما بين تنامي معدلات العنف الاسري، وكثرة حالات الفساد، وارتفاع معدلات الطلاق، وتفشي المخدرات وانتشار المقاهي الموبوءة، والنوادي الليلية، والأفكار المتطرفة والمنحرفة، والسلوكيات الغريبة والشاذة احياناً ..

في هذا الجو القلق المضطرب نشطت دعوات تحرير المرأة، والذي يجعل هذه الدعوات تختلف عن غيرها، هو دخول رجل الدين على خط المناداة بخلع حجاب المرأة، كما ظهر على شاشات بعض القنوات الفضائية، وأياً كانت خلفية من تصدى للدفاع عن عدم مشروعية حجاب المرأة من متدينين وعلمانيين ومتغربنين ومتعلمين، فإن الموضوع يحتاج الى دراسة متأنية في طبيعة الجنس البشري في المجتمع العربي بنوعيه الذكر والأنثى، ويجدر بنا ان نذكر ان الدكتور مصطفى جواد في كتابه "قل ولا تقل" ج1 ص103 قال: (فالبشر جنس وهو الجنس البشري، والذكورة منه نوع والأنوثة منه نوع، والجنس أعم من النوع والنوع أخص من الجنس..) ..

 تقتضي الدراسة الوقوف عند مفهوم الحرية، الذي دخلت عليه كثير من التعديلات في التأويل والتحليل، فارتبطت الحرية بالهوية الشخصية، وصار السلوك الذاتي يندرج ضمن مفهوم الحرية الشخصية، التي ينبغي احترامها طالما لا يترتب عليها إلحاق الضرر بالغير، ومن هذا المنطلق تعالت اصوات المدافعين عن الحرية بتغيير نظرة المجتمع الى المرأة وإعادة صياغة هويتها خارج حدود الحجاب والجلباب والنقاب كون حريتها الشخصية صارت تتيح لها ان تخرج وتتعلم وتعمل، وهذا الوضع الجديد يستلزم إعادة النظر في الصورة التقليدية التي يدخل فيها الحجاب كجزء مهم من هوية المرأة في مجتمع لم يكن يتقبل خروجها من المنزل، ثم هو يمانع تعلمها ويعارض عملها، اسوة بالتغير الاجتماعي الذي رافق الرجل في انتقاله من البدو الى الريف والمدينة ودخوله المدرسة والكلية ومزاولته انواع الاعمال، فقد تغير شكله وملبسه، فبعد ان كان لا يخرج الى الناس إلا معتماً ملتح، "وفي حديث ام سلمة: انه كان يمسح على الخفّ والخمار، أرادت بالخمار العمامة لأن الرجل يغطي بها رأسه كما ان المرأة تغطيه بخمارها"  ص257 لسان العرب لابن منظور، خلع عمامته وحلق لحيته، وعدَّ المجتمع ذلك من التغيرات المقبولة، وشيئاً فشيئاً اقتصرت العمامة واللحية على فئة محددة من المجتمع هي فئة رجال الدين بعد ان كانت ظاهرة اجتماعية عامة في السابق، وانحصر انتقاد هذه التغيرات في الفئات االمحافظة، فقد ذكر الدكتور علي الوردي في كتابه " لمحات اجتماعية من تاريخ العراق المعاصر" ان المتعصبين للدين كانوا يطلقون صفة " زنديق" على الأفندي في القرن الثامن عشر، وكان الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي  قد كتب مقالاً في 1910م  يدعو فيه الى تحرير المرأة وخلع حجابها، مما تسبب في احتجاج اهالي بغداد، ومن الجدير بالذكر ان الزهاوي من عائلة دينية وكان معمماً قبل ان يحسب على الأفندية، يذكر الدكتور علي الوردي ان الزهاوي لزم بيته لا يخرج منه خوفاً على حياته حتى تعهد للذين هددوه بعدم تطرقه لهكذا موضوع مرة اخرة .. في سنة 1924م تسببت موضوعة الحجاب في إحداث "ضجة كبرى" كما يذكر د. علي الوردي :(وكان العامة مستعدين للاعتداء على كل من يدعو الى السفور إذ هم يعتبرونه كافراً يريد إفساد اخلاق الناس ودينهم . وكان كثير من المتعلمين يؤيدون العامة في ذلك. أما دعاة السفور فكانوا قليلين جداً وكان معظمهم من "الافندية" ..).

يرى بعض الباحثين ان التغيرات والتحولات الثقافية والاجتماعية التي انتجتها الأحداث السياسية والاقتصادية في زمن الاستعمار، وفي زمن التحرير بعد ذلك، كان لها دور بارز في اعادة صياغة مفهوم الحرية والهوية بما يتلائم مع المعطيات الجديدة التي طرأت على الحياة الإجتماعية، فبعد ان قوبلت آراء قاسم امين في مصر وابو العلاء المعري في العراق وغيرهما في انتقاد النقاب - غطاء وجه المرأة – برفض كثير من الناس، اصبح من غير المستحسن اليوم رؤية المرأة وهي تخفي وجهها، وربما صار النقاب مجلبة للمشاكل في وقت نشطت فيه الجماعات المتطرفة المسلحة، فمثلما كانت قريش الضلال تستخدم المرأة للتجسس على المسلمين ونقل الرسائل من وراء نقابها وحجابها، استخدمت التنظيمات الإرهابية المرأة المنقبة والمحجبة لنقل الأحزمة الناسفة والاسلحة ..

ونحن نتحدث عن موضوعة الحجاب عند المرأة فمن الضروري جدا ان نتحدث عن شخصية الرجل العربي وان نعتني بخصلتين او صفتين يكاد يتفق عليهما جميع الرجال في العالم العربي وهما الغيرة والجنس، فعلى الرغم من ان الجنس يشغل حيزاً كبيراً وحيوياً في نفس وفي تفكير الرجل الشرقي، فإن الغيرة تشغل ايضاً مساحة كبيرة جداً، فالجنس تمليه عليه فطرته البايولوجية، والغيرة تمليها عليه بنيته الشخصية، يرى بعضهم ان نظرة الرجل للمرأة في المجتمع الشرقي انعطفت عن الاتجاه الذي كانت عليه قبل ان يعرف الملكية التي سوّلت له حب التملك، ولأن المرأة جزء في حياته كما المال والارض والاملاك والاولاد،  فقد اضفى صبغة الانانية، او الحرص العالي، او الحب، على تعامله مع ممتلكاته الحية وغير الحية، واصيب بعض الرجال بازدواجية في الشخصية، بدت مكشوفة عند بعضهم، ومخفية عند آخرين ممن انقسموا الى متوازنين ذاتياً ومأزومين، ولعل (سي السيد) في رواية نجيب محفوظ (بين القصرين) قد ترجم واقع تلك الشخصية المأزومة .

***

د. عدي عدنان البلداوي

في المثقف اليوم