قضايا

الحداثة الغربية وأرث المركزية الأوربية

إن فكر التنوير هو روح لحداثة الغربية. إنه إرثها المستمر كما يصر ورثتها، وأن مشروعها بعيد عن الانتهاء أو الأستنفاد. يتحدث البعض عن الحداثة كمشروع غير مكتمل،[i] أو الحداثة الثانية، أو حتى تحديث الحداثة، أو المجيئ الثاني  أو المرحلة الثانية للتنوير نفسه.  لديهم إيمان لا يتزعزع فيه باعتباره "نهاية التاريخ" المطلقة. يدعي التفاؤل الجامح  للتنوير تعزيز التقدم الإنساني على أساس ثقافة العقل الخالص وتطبيقاته.

كان كانط نموذج فكر التنوير، وقد أوضح منطقه بأبسط المصطلحات: إن الهدف من استقلالية العقل هو إنقاذ البشرية وتحريرها من الكهف المظلم  الذي هي فيه جراء عدم النضج الذي يكتنفها. وبقيامه بذلك، اضفى الطابع المؤسسي على الأجندة الرئيسية للحداثة الأوروبية التي لم يتم تحدي عقليتها بشكل جدي وعميق الى  ظهور ما بعد الحداثة في مجموعة الأعمال الفسفية الضخمة التي اصدرها نيتشه، هايدجر، ليوتارد، فوكو، ليفيناس، دريدا، فاتيمو، دولوز، إيريجاراي، وآخرين. لكن على الرغم من امتياز وتقدير استقلالية وسلطة العقل للتقدم البشري والتحرر المزعوم، إلا أن الحداثة الأوروبية للأسف تركت الآخر في  منطقة مظلمة  وباردة، سواء كان الجسد أو المرأة أو الطبيعة أو الجسد الشرقي والشرق، وقد تم عزلها ليس عشوائيًا ولكن بموقف مقصود، فليس من قبيل المصادفة أن يتم تعيين الجنس  الأنثوي للأشارة الى الجسم والطبيعة والشرق، في حين أن الثنائية في  فكرهم أو عقلهم، الثقافة، والغرب - من المقولات الذكورية.[ii] وتجدر الإشارة إلى أن جوهر الخلاف ما بعد الحداثي يكمن في دحض هذه الثنائية في التفكير.

إنه من السهولة تأكيد حقيقة أن كل فهم، وكل التفكير هو مقارن. المقارنة هي مصدر اكتشاف حدود خطاب الذات في ضوء الآخر الأجنبي الذي يكون دائمًا غريبًا بدرجة أقل أو أكثر. لقد حث المنظر الأدبي الأمريكي جوناثان كولر، من أجل النهوض بالأدب المقارن، بكل حكمة زملائه على التخلي عن المركزية الأوروبية التقليدية والتحول الى العالمية.[iii] اذ سيعمل التبادل العالمي للأفكار والقيم  الى روح ابتكارية عابرة  للحدود الوطنية.

لقد تغلغلت المركزية الإثنية، بنسبة كبيرة كانت أم صغيرة في بعض أرقى العقول الفلسفية في التاريخ الفكري الحديث للغرب من مونتسكيو إلى روسو، ومن هيجل وماركس إلى كارل ويتفوغيل. هناك بالطبع استثناءات دائمًا مثل : فولتير، همبولت، وهيردر، الذين لرفضوا كمقارنين حكاء، أن بأمكان الشخص التعرف على الحقيقة و الوصول الى السعادة بمجرد كونه أوروبيًا أو غربيًا. يجب أن يقال، منذ البداية، أن المناقشة الحماسية لمسألة العقلانية ودورها في إنتاج الفكر بين الثقافات ليست مسألة تتعلق بالمطلقية والنسبية الإبستيمولوجية ( المعرفية)  بل تتعلق بكيفية صياغة الحقيقة الجانبية أو البعيدة أو المستعرضة بالفعل دون الوقوع في المركزية العرقية.

إن أساس العقلية الأوروبية التي تسمى المركزية الأوروبية  هو التنظيم والتصرف المهيمن لأوروبا الحديثة (الغرب) الذي يشرع أو يضفي الشرعية على نفسه باعتباره الوصي وصاحب الأمتياز  لرأس المال الثقافي والعلمي (التكنولوجي والسياسي والاقتصادي وحتى الأخلاقي)للعالم بأسره .وبناء جدار فاصل كبير بين الشرق والغرب، بعبارة أخرى، تنخرط المركزية الأوروبية  عمداً في "نوع من نظام الفصل العنصري الفكري الذي يتم فيه عزل الغرب المتفوق عن الشرق الأدنى".[iv] إن "التحديث" ليس سوى كلمة رئيسية شاملة تُعطى لعملية الشمولية والتهميش لظاهرة المركزية الأوروبية. واذا ما وضعناها على سرير المعبد الغائي للعالم، تتضح هذه المركزية عبارة عن عبادة الأصنام القبلية.  يتحدث زيجمونت بومان بصفته المترجم والناقد الفطن للحداثة الغربية والتمركز الأوروبي قائلاً:

نظرت النخبة الفكرية في أوروبا الغربية ومواطئها في القارات الأخرى، من القرن السابع عشر على الأقل وحتى القرن العشرين، إلى طريقتها في الحياة ككسر جذري في التاريخ العالمي. إن الإيمان بدون تحد تقريبًا بتفوق وضعها الخاص على جميع الأشكال البديلة المعاصرة للحياة أو ماضيها سمح لها أن تأخذ نفسها نقطة مرجعية لتفسير الهدف النهائي للتاريخ، وتصف نفسها بوصفها حداثة وتجديد في تجربة الزمن الموضوعي.  لقد تم تنظيم حساب الوقت بالنسبة لمعظم تاريخ أوروبا المسيحية، حول نقطة ثابتة في الماضي المتراجع ببطئ . حددت المركزية الأوربية النقطة المرجعية للزمن الموضوعي في الحركة، وربطتها بقوة بتوجهها نحو استعمار المستقبل بنفس الطريقة التي استعمرت بها الأرض المحيط  بها.[v]

في الواقع، تعطي فكرة مركزية أوروبا هذه لاستعمار المستقبل معنىً جديداً لمفهوم الحداثة كمشروع غير مكتمل أو كنهاية للتاريخ.

لقد لطخت عنصرية المركزية الأوربية البشعة والمروعة التي ارتكبها اثنان من الفلاسفة "المستنيرين" المرشدين للحداثة الغربية وبوصفهم فلاسفةعالميين سمعتهم : ديفيد هيوم وإيمانويل كانط. لقد كانوا بلا شك من أصحاب تفوق الجنس الأبيض. كتب هيوم: أنا أميل للاشتباه في الزنوج، في جميع  الأجناس  الأخرى من البشر بشكل عام، أنهم  أقل بشكل طبيعي من البيض ولم يكن هناك أبداً أمة متحضرة من أي لون آخر غير البشرة البيضاء، ولا حتى أي فرد بارز سواء في العمل أو النظر. ناهيك عن مستعمراتنا البريطانية.[vi]

إن كانط، الذي تم الإشادة به باعتباره المبشر السياسي لعصبة الأمم، هو النموذج الفلسفي للحداثة الغربية "المستنيرة" الذي دافع عن كرامة الإنسان، والنزاهة الأخلاقية الإلزامية، والمعرفة العالمية  ردد، لسوء الحظ، عنصرية هيوم في الملاحظات على شعور الجميل والسامي (1763). بالإضافة إلى الاستهزاء والسخرية من "الهنود والصينيين"، فقد  زعم كانط بطريقة غير مستنيرة ومتحيزة قائلاً:

ليس لدى الزنوج في أفريقيا بطبيعتهم أي شعور بالارتفاع فوق التافه. يتحدى السيد هيوم أي شخص على ذكر مثال واحد أظهر فيه زنجي أيً  مواهب، ويؤكد كانط  أنه من بين مئات الآلاف من السود الذين يتم نقلهم الى أماكن أخرى من بلدانهم، وعلى الرغم من أن العديد منهم قد أطلق سراحهم، إلا أنه لم يتم العثور على أي فرد منهم  قدم أي شيء عظيم في الفن أو العلوم أو أي خاصية أخرى جديرة بالثناء، بينما يرتفع بعض البيض باستمرار من حالة الرعاع والحشود الدنيا الى حالة سامية  من خلال مواهبهم  المتفوقة التي تحضى بالاحترام في العالم. الأساس هو الفرق بين هذين العرقين للإنسان، ويبدو أنه كبير فيما يتعلق بالقدرات العقلية كما في اللون. إن أديان الزنوج السود وثنية، وهم عبثون و ثرثاريون للغاية بحيث يجب أن يبتعدوا عن بعضهم البعض عند هيجانهم.

لقد رد كان المفكر الأمريكي الإفريقي المعروف فريدريك دوغلاس في القرن التاسع عشر، وهو يضع في أعتباره احكام هيوم وكانط، أن بشرة الجلد ليس لها أي تأثير على عمل العقل.[vii]

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

....................

[i] jurgen Habermas, The Philosophical Discourse of Modernity,Polity, 1990.

[ii] HwaYol Jung, "Enlightenment and the Question of the Other: A Postmodern Audition," Human Studies 25 (2002): 297-306.

[iii] Jonathan Culler, "Comparative Literature, At Last!" in Comparative Literature in the Age of Multiculturalism, ed. Charles Bernheimer (Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1995), pp. 117-121.

[iv] John M. Hobson, The Eastern Origins of Western Civilisation (New York: Cambridge University Press, 2004), p. 283.

[v] Zygmunt Bauman, Legislators and Interpreters (Cambridge: Polity Press,1987), p. 110.

[vi] Hume, Essays Moral, Political, and Literary,ed.T.H. Green and. H.Grose, 2 vols. (London: Longmans, Green, 1875), I: 252.

[vii] Observations on the Feeling of the Beautiful and Sublime, trans. John T. Goldthwait (Berkeley: University of California Press, 1960), pp. 110-111.

في المثقف اليوم