قضايا

لماذا نتطرف؟(3): التطرف بوصفه إغتراب

ثمّة تفسيرانِ أساسيان للتطرف في التأملات النقدية المعاصرة، وهما يقومان على فكرة أنّ التطرف تفريط أو إفراط في الوعي واغتراب عن التسامح العقلاني.

لا مبالغة عند القول اننا كأمة بشعوبها وتكويناتها الثقافية والاجتماعية والدينية والاثنية، يوما بعد يوم نغرق أكثر فأكثر في طوفان التطرف، فإذا كان الأمر متوقفا على ظاهرة الأمية أو البداوة في المجتمع فهو هين وقابل للنقاش، بالنظر لمخلفات الثقافة الاستعمارية في العالم العربي والإسلامي من جهة، وفوضى المنظومات التعليمية وفساد الادارة والتعصب الذي صنعته التيارات العلمانية والدينية من جهة أخرى، لكننا لا يمكننا أن نغمض أعيننا ونمر مرور الكرام ،عندما التطرف -الذي وصفناه بالمقال السابق أنه جهلا- يلبس العلم لباس الفرو مقلوبا، حيث يتقمص التطرف إسم العلم،عندما يصبح المتطرف دكتور يشتغل في مؤسسة جامعية عريقة أو في معهد عال، فهذا هو الاستغراب الخطير في مجتمعاتنا.

أن يسوق التطرف بغلاف علمي وإشهار عالمي وبصبغة قانونية، هنا الخطورة حيث يصبح العلماني والديني يتنافسان في تسويق التطرف بين الأفراد في المجتمع على حساب التسامح العقلاني..

 أن يحاضر دكتور في الفلسفة امام الطلبة ليبلغهم أن الخلاص هو في نبذ الوسطية وخاصة الإسلامية لأنها ضد النقد، فهذا عين الطامة، أن نتطرف في اصدار الاحكام على مفاهيم لأنها لم تتجسد في الواقع، والطامة الكبرى أن نتطرف بلا حكمة على ماهية هذا المفهوم في روح الإسلام، هذا استغراب العلماني عندما يتطرف على واقع مجتمعه بدل السعي نحو تصحيح المسارات وتجديد المناهج وتقريب الأغيار لإبداع النهوض الحضاري لدى إنساننا ككل.

ومن الطرف الآخر المتطرف الديني الأكاديمي الذي يدعو إلى إضافة مقررات إلى باب النكاح في الفقه الإسلامي في كليات الشريعة تخصص الفقه خاصة بذوي الاحتياجات الخاصة والمسنين والموظفات والمضيفات بالطائرات والمطاعم والفنادق وهلم جرا، هذا تطرف بإسم الدين لغايات مريبة في نفوس أصحابها يراد العبث من خلالها بالوعي الديني وتشويه العقل وتعطيل المجتمع بحصره ضمن مربع التفاهة لكن بحلة أكاديمية عصرية تجعله يغترب عن دوره الحقيقي في الحياة..

في ظل هذا التطرف الأكاديمي بشقيه الديني والعلماني والذي لا يمكنه البقاء إلا إذا كان المجتمع فاسد الوعي، ومثل هذه الأمثلة وغيرها الطاردة للعقلانية السليمة والتسامح العقلاني والتعايش السلمي والتعاون الإبداعي، هي الركيزة الثقافية التي تستند عليها منظومة التطرف في تدمير كل مشاريع النهضة والتجديد والإصلاح في المجتمع.

أن يحاضر شيخ طائفي تكفيري في جامعة عريقة ويحدث طلبته عن هلوساته وفتاواه الإباحية والتكفيرية للشعوب والأنظمة بدون حياء ولا رهبة، بينما يطرد اكاديمي مثقف من جامعة وتحاصر كتبه كما تحاصر كتب المجددين في الفكر والثقافة والدين والاجتماع، كل هذا يعني أننا لسنا على شفا جرف هار وإنما في واد الطامة.

هذا هو حالنا في ظل تطرف أكاديمي صوري لا علاقة له بالعلم والفلسفة والدين وقيمه الإنسانية العظيمة والسمحة، لسنا ضد أي شخص ولكن علينا نظم أمورنا ووضع الشخص المناسب بعلمه وأخلاقه وإتقانه واخلاصه وشجاعته في المكان المناسب، الأكاديمي المفروض هو الصورة المثلى للنباهة والاخلاق والوعي والدقة والحكمة والصدق لا افراط ولا تفريط، لا دين داخل العلمانية ولا علمانية داخل الدين، هناك واقع بحاجة لاسعاف ثقافي دقيق بدلا عن الترهات والأساطير الطائفية التي تعج بها وسائل التواصل الاجتماعي حتى أصبحت تدرس في مدرجات الجامعات وتنقل عبر الشاشات والإذاعات وفي الندوات الرسمية بأصوات من يقال عنهم اكادميين، نفس الشيء المعلبات الغربية التي تنمق بها محاضرات علمانيي آخر الزمان دون أدنى تدقيق أو معرفة بجذورها ومنهجها وما هنالك مما كتب عنه ادغار موران وهو اللاديني، وما فنده كارل بوبر، هذه الأفكار والأقوال والقصص والفتاوى والأحكام والنظريات التي جعلت نقالها ممن هم فرضا أكاديميون، يعيشون إما استغرابا في فوضى التاريخ او الغرب المعاصر، كلما تصادفني أشعر بغثيان ثنائي التطرف اسمه الحسرة، في عالم لايزال يبحث عن معنى الحياة وماهيتها ودوره فيها، عالم نخبته غالبيتها لا تتقن سوى مباحث الجنس والمال والتاريخ بغثه وسمينه والعنف والفوضى، عالم خصه الله بدين التمدن والإنسانية والجمال والسلام لكنه يدمن التطرف والتعصب ويرفض التسامح والتعارف والتعايش والحوار، عالم لا تزال الجامعة فيه تفتقر لعلم اجتماع القيم رغم مخزونه العظيم الذي لا زال الاستشراق يغرف منه غرفا، بينما شبابنا يعيشون عصر التكنولوجيا المعقدة والبحوث في الذكاء الاصطناعي وهناك من يحدثهم عن جهاد النكاح وعلمانية المثلية،  إنها حسرة ثقافية كبيرة أن نظل نجامل.

هذا السرطان الثقافي المهدد لمجتمعاتنا، بحيث يصبح "المتطرف" "أكاديميا" مبجلا، ويوجه بإسم الدين والعلمانية مجتمعا كالمجتمع العربي والإسلامي الذي يغرق في وحول اللاعقلانية واستحكام التمويه الثقافي الديني واللاديني...

واختصارًا لما سبق يضمّ هذا الطرح للتطرف الفكرة القائلة: إنّ التطرف أساسًا لا يتضمّن فقر معرفيّ فقط؛ إنّما يتضمّن أيضًا إخفاقاً ثقافيا ًّ في صناعة الوعي بل موت سريري للاستراتيجية الثقافية النهضوية في مجتمعاتنا لأن كرسي العقلانية مختطف!!

وبالتالي: هل يمكن أن يكون مركز التطرف أكاديميا لهذه الدرّجة؟ !!.

حتى نجيب على هذا السؤال ببساطة يجب علينا أن نتأمل في مخرجات التطرف بكونها غياباً للسلام والجمال والإحسان، حتىّ لو جادل رواد التطرف بجناحيه الديني والعلماني جميعهم على أنّ تطرفهم يتضمّن ذلك؛ إذ لا بدّ لنا أوّلًا من موضعة مفهوم التطرف في ميزان نظرية قيم حضارية موسّعةٍ ؛ حيث يحتلّ التطرف موقعاً سلبياًّ مقابل التسامح العقلاني الثقافي، كما أنه لا يتسنى لنا فهم التطرف إلا بواسطة ذلك، وتحديدًاً، مسألة احتوائه على غياب العدالة والتعارف والتعاون والإبداع وإخفاقه الثقافي في الإصلاح والتجديد السلميين، إنه التطرف بوصفه اغتراب عن ثقافة التسامح العقلاني..

***

بقلم: أ. مراد غريبي

كاتب وباحث في الفكر

في المثقف اليوم