قضايا

بين الشك المنهجي العلمي، والشك اللامنهجي الظني الايديولوجي.. طه حسين انموذجاً

من أجل ان نحافظ على حرية الفكر والتعبير ولكي نواصل عملية التفكير النقدي ومن أجل مواصلة مسيرة المؤسسين الأوائل لثقافتنا الحديثة والبناء على ما أسسوه، أجد من الضروري ممارسة الشك المنهجي تجاه شك طه حسين في تراثنا الكبير من الشعر الجاهلي وإعادة مساءلة منهجيته ومدى دقتها ونتائج بحثه ومدى صحتها ومنطلقات بحثه ومدى علميتها!

ثم أليس طه حسين يدعونا الى اتباع منهج الشك!؟

فالاولى إذاً ان نشك بنتائجه التي اطلقها كأحكام عامة على تاريخ أمة كبير، ونفى من خلالها شعر مرحلةٍ كاملة، في ضوء افتراضات وتأويلات شخصية وشكوك ببعض هذا الشعر وقصائده ليعممها على الشعر الجاهلي كله وشعرائه كلهم .

كان الاولى بطه حسين ان ينفي شخصية او بعض الشخصيات او قصيدة او بعض القصائد بناءً على دراسة علمية وبحث منهجي وادلة بيّنة، أما ان ينفي تراث مرحلة كامل فذلك حكم مطلق عام يمكن ان نكشف تهافته ولاعلميته بتساؤل بسيط يحمل صفة التشكيك كما فعل هو فيقال له ؛

من وضع هذا الشعر كله!؟

ومادليلك على وضعه!؟

وفي اي وقت وُضع هذا الشعر!؟

وهل يعقل ان امة كاملة تتفق على تزييف تاريخ مرحلة كاملة وتضع له شعراً وتتبناه دراسةً ونقداً وتاريخاً!؟

واي مؤسسات كبرى ودول وقفت وراء هذا الموضوع لتضع كل ذلك وتزوره وتقنع به الاجيال لمدة الف عام حتى جاء طه حسين ليكشف هذا التاريخ المزيف كله!؟

اعتقد ان طه حسين لم يكن علمياً ولامنهجياً في شكه كما شخصت انت وكثيرٌ من الباحثين الجادين ذلك بدقة .

الشك المنهجي العلمي كان يجب ان يدعوه الى دراسة علمية منهجية لهذا الشعر ليقول لنا اي قصيدة مشكوك فيها او منتحلة واي شخصية غير حقيقية او مفتعلة، لكي يستطيع العقلاء واهل العلم قبول كلامه، اما بطريقته هذا الشكية الافتراضية واللاعلمية والتي تصدر احكاماً عامة وبهذا الاطلاق الشمول! فيكفي ان نجادله بطريقته ونقول له نحن نشك بكلامك وادلتك لانها كلام شخص واحد امام آلاف من العلماء والباحثين الذين اثبتوا وجود الشعر الجاهلي لكنهم شككوا ببعض القصائد وبوجود بعض الشخصيات اتباعاً للبحث العلمي وعملاً بالشك المنهجي، وليس كما فعلت في شكك اللامنهجي و احكامك الاطلاقية التعميمية اللاعلمية .

والثانية انه خلص الى نتيجة وهي اننا لايمكن ان نقرأ الحياة الجاهلية من الشعر الجاهلي لكننا يجب ان نتعرف على هذه الحياة من القرآن، وهذا امر ان قبلناه سقط شك طه حسين، فالقرآن يخبرنا عن شعر العرب وشعرائهم وانهم اتهموا النبي بانه شاعر وهذا الاتهام يدل على ان ظاهرة الشعر والشعراء ظاهرة معروفة وشائعة لدى العرب، فهل تم اخفاء كل ذلك الشعر ومحوه من الذاكرة واستبداله بشعر موضوع وشعراء غير حقيقين من وضع العصور التالية!

انه امر يستدعي الشك حقاً! اي الشك في الشعر الجاهلي كله، بناءً على القرآن كما يدعونا طه حسين نفسه، فالقرآن يخبرنا عن الشعر والشعراء عند العرب ويحذر من اتباعهم والسير على نهجهم لانهم يعيشون الخيال المتقلب والوهم ولايبنون حقيقةً عقلانية:

{ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) }

ولذلك ينفي عن نبيه ان يكون شاعراً او يسير على طريقة الشعراء:

 {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ}.

فاين هذا الشعر الذي يتحدث عنه القرآن!؟

ومن هؤلاء الشعراء الذين يتحدث عنهم القرآن!؟

اذا كان هذا الشعر كله منتحلا ومكذوباً والشعراء كلهم اسماء وهمية، وهم حسب شك طه حسين غير موجودين وغير حقيقيين، ولا أصل حقيقي للشعر والشعراء الجاهليين!؟

قراءة طه حسين قراءة غير علمية وشكه ليس منهجياً ونتائجه تعميمات ايديولوجية، والحق انه (شك طه حسين) هو الذي يستدعي الشك والتساؤل!

ويكفي الدراسة العلمية التي قدمها الدكتور ناصر الدين الاسد في الرد على شك طه حسين واسقاط نتائجه غير العلمية ….

الثالثة وهي الاخطر، ان شك طه حسين في الشعر الجاهلي ونفي هذا الشعر لم يكن مقصوداً لنفسه ولغاية علمية، فطه حسين نفسه عاد ودرس هذا الشعر ودرّسه في الجامعة وقدم حديث الاربعاء وهو كتاب تناول فيه دراسة الشعراء الجاهليين وشعرهم .

إذاً ماهي الغاية من التشكيك بالشعر الجاهلي؟

لقد كانت الغاية هي التشكيك بالقرآن وقصصه، كما ذكر ذلك هو في كتابه، حيث شكك بوجود النبي ابراهيم وغيره من الانبياء وعد ذكرهم في القرآن ليس دليلاً على وجودهم التاريخي معللاً ذلك بان القرآن كتاب هداية وانه يستخدم المعلومات المتعارف عليها والقصص المنتشرة في زمنه لاقناع الناس وتوضيح مايريده لهم كما يستعين المعلم بالقصص والشخصيات القصصية المشهورة لتعليم الطلاب وليس لاثبات وجود الشخصيات تاريخياً!

وهذا مااستدعى ثورة الرفض التي واجهها والتي اضطر بسببها للتراجع وطباعة الكتاب بعد رفع التشكيك بالقرآن!

ومن هذا يتبين ان الرجل لم يكن قاصداً التشكيك بالشعر الجاهلي وانما كانت غايته التشكيك بالقرآن واسقاطه ككتاب ديني مقدس والتعامل معه ككتاب قصص وتاريخ مزيف كما تم التعامل مع التوراة والانجيل واسقاطهما من الاعتبار!

لذلك اقول ان قراءة طه حسين كانت ذات مسبقات ايديولوجية وغايات غير علمية وباسلوب الشك اللامنهجي .

***

د. احمد حمادي - المانيا

 

في المثقف اليوم