قضايا

فلسفة النزاهة في الفكر القانوني الحديث

الحال إن الفكر القانوني التقليدي كان يتعامل مع جرائم الفساد كأي جريمة عادية تخضع للمبدأ الدستوري المعروف فقهاً بمصطلح (شرعية الجريمة والعقاب)، والذي يعبر عنه في الدساتير والقوانين المقارنة بمبدأ (لاجريمة ولا عقوبة إلا بنص). ومن ثم فإن الإختصاص الأصلي يعود الى القضاء العادي للنظر فيها حسب ماجرى عليه العمل....

 إلا إن التطور الكبير الذي ميز الحياة الإنسانية المعاصرة عما سواها من عصور تاريخية، قد شمل عالم الجريمة أيضاً فتطورت اساليبها وتنوعت طرق ممارستها فضلاً عن القدرة الفنية على اخفاء معالمها فضلاً عن سطوة السياسة وأساليبها الملتوية التي طالما مكنت السياسيين ودهاة الموظفين، المعروفة جرائمهم في علم الإجرام، بجرائم ذوي الياقات البيضاء، من التملص من الجرائم التي يرتكبوها والإفلات من العقاب أو الباسها الى بسطاء الناس ممن لايدركون خطورة العمل الإجرامي الذي يقومون به.

 وفيما يخص جرائم الفساد فقد تطورت هي الأخرى كماً ونوعاً بما لا مثيل له في كل العصور المتعاقبة وأمتد ليشمل قطاعات واسعة من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ...

 ومابرح الفساد يلتهم خيرات الشعوب الفقيرة بشكل خاص كما تشير التقارير الدولية المتخصصة .. ومن ثم عجزت المؤسسات القضائية عن مواجهة هذا الكم الهائل من جرائم الفساد لأسباب عديدة منها تفنن الفاسدين في وسائل اخفاء جرائمهم مما يتطلب تحقيقات متعمقة تتطلب التفرغ التام لهذه المهام فضلاً عن الحاجة الى اشراك علوم متنوعة وتكنولوجيات خاصة لإدارة التحقيق مما يعجز عنه قاضي التحقيق للقيام به بمفرده وإحتياجه في كثير من الأحيان الى خبرات متنوعة فضلاً عن ترصد المافيات المجرمة له ولعائلته التي مست حياة القضاة في مختلف أنحاء المعموره كما ان تهديد قاض بمفرده أو محاولة جره للفساد يبدو اسهل مما لو كان التحقيق عملاً مؤسساتياً جماعياً .....

 ومن هنا نشأت فكرة إسناد التحقيق في قضايا الفساد الى هيئات متخصصة مستقلة في عملها عن سلطات الدولة الأخرى في الفكر القانوني الحديث ليكون التحقيق عملاً مؤسساتياً لا يسند الى فرد واحد أو مجموعة محددة من الأفراد وان تقوم هذه المؤسسة بأعمال متوازية لا تستند الى التحقيق وحده وإنما يجب عليها ان تطرح افكاراً وقائية خلاقة تمنع وقوع الفساد أصلاً وقد أولت الأفكار القانونية الحديثة للجانب الوقائي أهمية قصوى كما أشرنا اليها في مقال سابق.. كما يعد الجانب التربوي والإعلامي وتدقيق مشاريع القوانين والعقود الحكومية قبل إرسائها جزءاً لا يتجزأ من عملها.. مما يتطلب ان تضم هيئات النزاهة من بين إدارتها متخصصين في مختلف العلوم التطبيقية والإنسانية وبهذا المعنى لا تعد هيئة النزاهة عملاً قضائياً حصرياً ولكن يشترط ان يكون على رأس إدارتها رجل قانون فهي عمل مؤسساتي متكامل يطغى عليه العمل القانوني لا يتحقق إلا بإستقلاليتها التي كفلها الدستور ....

المبادئ الحديثة التي اكدتها اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد 2005

نصت وحثت الإتفاقيةعلى ضرورة:

 *انشاء هيئات مستقلة تتولى الكشف عن حالات الفساد والتحقيق فيها وإحالتها للقضاء المختص.

 * وجعلت من الإجراءات الوقائية عمل اساسي من اعمالها. ومن ذلك وضع قواعد السلوك الوظيفي وكشف المصالح المالية لمنع الاثراء على حساب الشعب.

* واسترداد الأموال المهربة المتجمعة (اسمتها الموجودات)من اموال الفساد أولوية خاصة

* وكذلك ملاحقة غسيل الاموال واعتبرته ذو أهمية جوهرية .....

* فضلاً على تركيزها على أهمية العمل الإستخباري السري ونشر المخبريين السريين ومكافئتهم في مؤسسات الدولة.

* أقرت لأول مرة في التاريخ القضائي قبول الشكاوى المُغفلة بشكل صريح.

(يقصد بها عدم إجبار المبلغ عن الفساد على ذكر إسمه وعنوانه إلا بإختياره).

انظر:

اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد هي الصك العالمي الوحيد الملزم قانونيًا لمكافحة الفساد. إن نهج الاتفاقية البعيد المدى والطابع الإلزامي للعديد من أحكامها يجعلان منها أداة فريدة لوضع استجابة شاملة لمشكلة عالمية. وتغطي الاتفاقية الخمس المجالات الرئيسية التالية:

التدابير الوقائية،

 والتجريم وإنفاذ القانون،

 والتعاون الدولي،

واسترداد الموجودات،

والمساعدة التقنية وتبادل المعلومات.

معلومات عامة

تغطي الاتفاقية العديد من أشكال الفساد المختلفة، مثل الرشوة، والمتاجرة بالنفوذ، وإساءة استغلال الوظائف، ومختلف أفعال الفساد في القطاع العام والخاص وغسيل الأموال.

فضلاً عن التشديد على حماية العاملين في قطاع النزاهة والمخبرين لضمان القيام بعملهم دون تردد او خوف على حياتهم وحياة عوائلهم وهذا ماثبت عندما استهدفت مافيات الفساد كوكبة من موظفي النزاهة وعوائلهم.

ولا انسى انا شخصياً ابداً حينما القى الفاسدون دورق بانزين على رأس أحد اولادي ولم يكن يتجاوز الخامسة عشر من عمره من اعلى البناية في قلب المنطقة الخضراء بقصد حرقه!!!

. ومن أبرز ما يميز الاتفاقية إدراج فصل خاص بشأن استرداد الموجودات، بهدف إعادة الموجدات إلى أصحابها الشرعيين، بما في ذلك البلدان التي أخذت منها بطريقة غير مشروعة. والغالبية العظمى من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أطراف في هذه الاتفاقية.

***

فارس حامد عبد الكريم

استاذ جامعي - النائب الأسبق لرئيس هيئة النزاهة الإتحادية

.......................

* النص الكامل للإتفاقية:

https://www.unodc.org/documents/treaties/UNCAC/Publications/Convention/08-50024_A.pdf

---

في المثقف اليوم