قضايا

الحقيقة المستترة

في قصيد له بعنوان أخاف المطر، يقول الشاعر العراقي مهند الشهرباني*

"أخبـرْني ايها السكران بالخوف..

لماذا تكتب على الحيطان عن النصر..

وانت تمتهن الهزيمة؟!"

الحياة نجاحات وإخفاقات..نهزم حينا وننتصر حينا آخر.

 لا يأتي انتصارنا من عدم كما اخفاقنا. صحيح أننا أحيانا نفعل كل ما يلزم ونخطط كما ينبغي لننجح في الحياة لكن قد تأتينيا الرياح بما لا تشتهي سفننا..وصحيح أننا في بعض الأوقات لا نبذل الجهد المطلوب ولكن يلعب الحظ لصالحنا فنحقق من النجاح أكثر مما كنا نصبو إليه..لكن لا يحصل هذا إلا استثناء.

مثلما هو مهم أن نحتفي بانصاراتنا فإنه كذلك من المهم حين ننهزم أن ننظر إلى هذا المآل بكامل وعينا..ألا نصاب في مقتل إن سارت الأمور إلى غير ما نأمل.. أن لا نخبو مهما كان المصاب جللا.

من الناس من لا يقبل الخسارة فيندفع هاربا إلى منطقة توفر له الشعور بالراحة. هذا الهروب مرده الخوف من مواجهة الألم المتأتي من النتائج غير المرغوبة.

يلجأ كل من لا يقدر على هذه المواجهة إلى استعمال ما يسمى  بميكانيزمات الدفاع.

"سيغموند فرويد" كان أول من قدم مفهوم ميكانيزمات الدفاع وأضاف عليها كثيرون من خلال أبحاثهم، أبرزهم ابنته «آنا فرويد».

شرحت "آنا" الاتجاه الجديد الذي أسّسته في التحليل النفسي في كتابها "الأنا والميكانيزمات الدفاعية"

 أكدت "آنا" على دور الأنا في الحياة النفسية وفي العلاج النفسي التحليلي، وأكدت أن التحليل النفسي لايمكن أن يصدق عليه اسمه إلا إذا بحث في "الأنا". هي ترى أن تحليل الميكانيزمات اللاشعورية التي يلجأ إليها الأنا يمكن أن تطلعنا على التحولات التي طرأت على الغرائز عند المريض. ويتلخص دور المحلل النفسي حسب رأيها في إزعاج الأنا باستثارة المكبوت وتدمير ماقام به الأنا من أساليب توافقية مَرضية ولكنها من وجهة نظر الأنا تمثل أنساقاً دفاعية.

من بين هذه الميكانيزمات يوجد ما اتفق على توصيفه بالإنكار.

في علم نفس السلوك البشري، الإنكار هو اختيار الشخص لإنكار الواقع كوسيلة لتجنب الحقيقة غير المريحة من الناحية النفسية.

قد يستعمل الإنكار  لكتم المشاعر الإيجابية كالفرح خاصة عندما يتهيأ للشخص أن التعبير عن هذه المشاعر هو بمثابة التعبير عن الضعف.

 أحيانا يكون الشعور بالإيجابية بمثابة تهديد للذات التي تعودت على كبت مشاعرها وعدم التعبير عنها.

ولكن الذي يهمنا هنا هو كيف يمكّن الانكار من تجنب  كل عاطفة سلبية؟

إن تقبل كل حقيقة غير مريحة أو مؤلمة أو غير متوافقة مع ما نتوقعه يعني أنه علينا أن نضع أنفسنا في مواجهة معها وهو ليس بالأمر الهين من الناحية النفسية.

عندما تخرج الأمور عن السيطرة  ويكون موقفا ما صعبا من حيث قدرتنا على الإقرار به وبدل إنكار الواقع، علينا أن نزعج أنفسنا ونستثير ما نكبته في داخلنا.

أن نتمكن من التعامل مع ما يزعجنا بكل ما يحدثه فينا من ألم يعني ألا نغدو ممن في ظاهرهم أقوياء ولكنهم من الداخل مهزومون، مكبوتون.

يقول علماء النفس ان الخبرات الشعورية المكبوتة لاتقتصر على الدوافع المتضاربة التي يتعذر حلها وانما هي أيضا الشعور العاطفي الناجم عن الفشل في تحقيقها سواء كان هذا على شكل الم او غيظ او خوف او قلق.

اطلق علماء النفس تسمية  "العقدة النفسية" على المشاعر المكبوتة و كل ما يتصل بها من عواطف مفرحة او مؤلمة.

إن  كبت العقدة النفسية يعني ابعادها عن حيز الوعي الى اللاشعور وهذا لايعني ان "العقدة" فقدت قوتها ونسيت عوامل نشأتها..هي  تظل كامنة مع الالم الناتج عن الفشل وتظل حية، قوية، فعالة تحت ستار ظاهري من الهدوء.

 هذا ما يحدث اثراً عميقاً في النفس وخصوصاً في الشخصية وتنعكس مظاهر الكبت بشكل واضح في السلوك وعلى طبيعة التعامل مع الآخر.

ما أحوج الإنسان وهو يبحث عن توازنه، إلى التخلص من خوفه..إلى النجاة من عقده ..

ما أحوجه إلى أن  يصدح بما يكبته في نفسه ولا ينكره..أن يقاوم حتى وهو في أوج هزائمه.

***

درصاف بندحر – تونس

.................

الهوامش:

* مهند الشهرباني: أديب وقاص وشاعر عراقي من أبرز ما كتب وهو منفي عن وطنه مجموعته الشعرية" وطن على بعد امرأة".

 

في المثقف اليوم