قضايا

الفلسفة والحرب والسلم

هل فشلت الفلسفة المعاصرة في حماية الإنسانيّة من الحروب المدمّرة؟ ماذا جرى لفلاسفة عصرنا؟ هل تخلّوا عن رسالتهم الإنسانيّة الساميّة؟ أم إن الفلسفة قد تحوّلت إلى أداة إيديولوجيّة منحرفة؟

 غريب - حقا - ما يحدث في عصرنا، خاصة في القرنين الأخيرين. لقد خاض الإنسان فتوحات علميّة جبّارة، وخطا خطوات عملاقة في عالم التكنولوجيا والرقمنة، حتى أصبح كوكبنا الأرضي شبيها بقرية صغيرة في ظلّ العولمة. لكن بالمقابل، خسر الكثير من المباديء الأخلاقية، وتجرّد من الروح الإنسانيّة، ومن الرحمة والرأفة بنفسها. طغى على عقله التفكير الفلسفي المادي، المجرّد من الروحانيات المهذّبة، وتسيّدت مشاهد العنف الدموي.

 ما يحدث من حروب داميّة وقذرة، كالحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، والحروب الأهليّة في سوريا واليمن وليبيا ومناطق الساحل الإفريقي، وغيرها، دليل دامغ على فشل الفلسفة المعاصرة في كبح جماح الشرّ في الإنسان المعاصر. وهاهو الإنسان المعاصر(المتحضّر) في الغرب والشرق، ينفق المال والجهد والوقت، ويسرف في استهلاك ثروات الأرض، من أجل إنتاج السلاح التقليدي والنووي والبيولوجي والكيماوي، دونما تعقّل وبصيرة.

 وكأنّ هذا الإنسان المعاصر، لم بتعلّم من حوادث التاريخ القديم والحديث ما يغنيه عن صنع وسائل الدمار. ولم يستوعب الدروس القاسيّة، ولم يتعظ من الكوارث الماضية التي أصابت البشريّة في مقتل، رعونة الإنسان وتهوّره.

 ولو قرأ الإنسان المعاصر تاريخ البشريّة، بتمعن وتأمّل، لأدرك حجم الخطر الذي يتهدّده جرّاء هذه الفلسفة المعاصرة المبشّرة بعصر حضاريّ مرقمن، على حدّ زعم العلماء والباحثين في مخابر الموت.

 وكان من واجب الفكر الفلسفي المعاصر، أن يعيد للإنسان فطرته وإنسانيّته ورسالته. ويخرجه من دوائر الصراع الدموي، ومربعات الكراهيّة والتنابز السياسي والثقافي المفضي إلى الدمار النفسي والمادي. وكان لا بد من التطهّر من الأفكار المميتة، التي حملتها لنا فلسفة القرون الوسطى، والقرون النهضة الصناعيّة اللاحقة.

 ما هو الهدف من كل هذه الأسلحة التقليدية والنووية المدمّرة للبشر والطبيعة؟ أهناك عدو خارجيّ يهدّد كوكبنا. كلا، إنّ العدو الحقيقي هو الإنسان نفسه. هو عدو ذاته، هو المعتدي والضحيّة معا.

 لقد أهدر الإنسان المعاصر آلاف الساعات من عمر البشريّة، وهو يبحث عن وسائل القتل والدمار، وخوض الحروب تلو الحروب. وفشلت المنظمات الدوليّة، السياسيّة والحقوقيّة في منع اندلاع الاقتتال بين الإنسان وأخيه الإنسان. ومن نتائج تلك الفلسفة الساديّة، وقع الإنسان في المحظور.

 فقد قتلت قنابل النابالم الحارقة، وقنابل الغازات السامة، وقنبلتا هيروشيما وناكازاكي ملايين المدنيين الأبرياء ؛ من أطفال ونساء وشيوخ، دونما ذنب اقترفوه، ودمّرت الحجر والشجر، وشوّهت الطبيعة، وأجهضت التطوّر الحياة الآمنة في أحضانها.

 لماذا فشلت الفلسفة المعاصرة في زرع الأفكار السلميّة الهادئة، وترشيد عقل الإنسان المعاصر وتهذيب سلوكه تجاه أخيه الإنسان، وتربيّته على المباديء الأخلاقيّة الساميّة، التي تحرّم العنف والقتل والسلب والنهب، وتجرّم العبوديّة والغزو والإرهاب، مهما كانت الدوافع والغايات.

 وأنتجت المدارس الفلسفية الغربيّة والشرقيّة، الماديّة والمثاليّة، على حدّ سواء، إنسانا إيديولوجيّ التفكير والسلوك والغاية. استولت عليه التصرّفات البراغماتيّة الضيّقة. وأمسى السلم العالمي في دوامة الخطر المحدق بالإنسان من كل الجهات. وها هو الإنسان المعاصر، في الشرق والغرب والشمال والجنوب، يعيش في كوابيس القلق والهلع، وتحت مسطرة التهديد والوعيد. ولعل أخطر ما يهدّد السلم العالمي، والوجود البشري والحيواني، هو التسابق لانتاج السلاح النووي والبيولوجي والكيماوي امتلاكه، واتخاذه كوسيلة للتهديد والردع والوعيد. والأغرب، بل والأبشع، هو سعي بعض الدول المصنّفة في خانة دول العالم الثالث أو الرابع إلى اقتحام المجال النووي، على حساب شعوبها المضطهدة، سياسيا واقتصاديا وثقافيا. إنّه لأمر عجيب، أن نجد بعض الأنظمة السياسية المفلسة فلسفيّا وإيديولوجيا، تنفق أموالا طائلة في شراء الأسلحة المتنوّعة، وتكديسها، بينا أغلب مواطنيها يعيشون تحت خط الفقر، ويعانون من نقص حاد في المدارس، وتخلّف صارخ في النظام التعليمي، وغياب ملحوظ في المرافق الصحيّة العامة والخاصة، ويعانون، أيضا، من أزمات خانقة، كالبطالة والسكن والعنوسة والأمن الغذائي وتدهور الطرقات والمسالك وغيرها.

 إنّه لمن واجبنا التذكير، أنّ المواطن العادي، في دول الجنوب، يفتقد يعاني من سوء التغذية، ويفتقد الدواء عند الحاجة، وهو معرّض للكوارث الطبيعيّة دون إعذار أو إنذار، مثل الفيضانات والحرائق. بينا المسؤول السياسي، قد استحوذ على الامتيازات كلّها، فقد يمارس سلوكا رأسماليا متوحشا ؛ فهو يعالج في أحسن المستشفيات في أوروبا، ويقتني أشهى المأكولات وأغلاها، وصاحب أجرة عالية وامتيازات اجتماعيّة، كما يقترف جرائم النهب والسلب والسرقة والاختلاس والرشوة، ولا يخشى من سلطة القانون، وسيف العدالة، لأنّ هذه الأخيرة مغمضة العينين عنه. 

ولم ينج من الهوس الإيديولوجي الرأسماليّون الجدد، ولا الشيوعيّون الذي ورثوا الفكر الماركسي، وانتحلوا ثورة البلاشفة بقيادة الزعيم البلشفي لينين، ومن بعده قائد الثورة الصينيّة ماو سي تونغ، ولا زعيم كوبا فيدال كاسترو، وزعيم يوغسلافيا الاشتراكية، تيتو، وغيرها من الأنظمة المولعة بالفكر الشيوعي، وبالنموذج الاشتراكي في إفريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينيّة، والمنضويّة تحت تكتّلات سياسيّة واقتصاديّة وعسكريّة، مثل دول عدم الانحياز وحلف وارسو. لقد كانت أهداف الفلسفة الاشتراكيّة ذات طابع اجتماعيّ بحت، ومن أجل كبح جماح تغوّل الرأسماليين وتحقيق العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الأراضي الزراعية على من يخدمها، رغم الانهيار الذي حدث على يد ميخائيل غورباتشوف، آخر بلشفي عنيد، كما وصفه رئيس الولايات المتحدة الأمريكيّة، وسقوط جدار برلين عام 1989 م، ثم انقسام الاتحاد السوفييتي إلى جمهوريات مستقلّة، ثم تفكّك المعسكر الاشتراكي.

 أمّا المعسكر الغربي الرأسمالي، الذي شُيّد مستندا على أفكار زعماء الفكر الرأسمالي، كجون لوك وتورغو وآدم سميث ودافيد هيوم ودافيد ريكاردو وغيرهم، فقد قادته الفلسفة الغربيّة، وأغرقته في التوحّش السياسي والاقتصادي والعسكري من خلال تطبيق نظامي الكارتل والترست. ونتج عن ذلك التطرّف الرأسمالي صراع طبقي مؤلم، وحروب دموية، لا تكاد تنتهي، أهلكت النسل والحرث. وعرضت أمما وشعوبا إلى الفناء. أمّا آخر الحيّل الرأسماليّة المبتدعة – من أجل الاستيلاء على ثروات شعوب الجنوب - فهي ظهور الفكر العولمي، والتبشير بنظام تقوده قاطرة العولمة السياسيّة والثقافيّة والاقتصادية بفكر غربيّ أحاديّ متوحّش.

 إذن، لنتفق أو لا نتفق، فإنّ الفلسفة المعاصرة، لم تبن للإنسان المعاصر مجتمعا آمنا، تسوده الأخوة والعدالة والحريّة، ولم تحقّق له السلم الاجتماعي والاقتصادي المتّفق عليه في العقد الاجتماعي. ومن هذا المنطلق، لا بد من إعادة النظر في النظام العالمي الجديد، وإصلاح المنظّمات الحاليّة، بدءا بمنظمة الأمم المتّحدة، وجميع فروعها الأمنيّة والحقوقيّة.

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

في المثقف اليوم