قضايا

مواقع الفيسبوك وأوهام التحرر

في مقال له عام 1954 بعنوان "كيف ننظر الى التلفزيون" فحص المنظّر والناقد الألماني ثيودور ادرنو طبقات الاضطهاد في عمل التلفزيون كشكل فني جديد. بدلا من ان يقوم التلفزيون بترفيه واثارة وتحرير الناس جادل ادرنو انه مارس دور المنوّم للانسانية كدجال مبشر بعصر ذهبي جديد. كوسيط غامض، اسّس التلفزيون نفسه كأحدث أشكال الهيمنة وربما الأكثر قربا منها . في البدء عندما كانت تُشاهد البرامج في صالاتنا وغرف النوم، على المستوى الواعي، كانت تضفي شعورا قويا وذات صلة واحيانا تبدو سخيفة، لكنها ممتعة. ربما ازدادت جاذبية دور التلفزيون كتحوّل – يسهل الانخراط به مقارنة بحروف الكتابة الصغيرة . وعلى مستوى اللاوعي، جادل ادرنو، كان للتلفزيون تاثيرا أكثر قتامة. مستعملا الفكاهة والوسائل الاخرى لجعل التعامل مستساغا، برمج التلفزيون مشاهديه لعدم التدخل بالظروف الاقتصادية والأحكام النمطية الاجتماعية والذي كان من شأنه ان يولد فحصا دقيقا.

بالنسبة لأدرنو، كانت للتلفزيون مقدرة على السحر – مقدرة على إعفاء الفرد من التفكير النقدي – وهو ما أتاح له ضمان مشاهديه والإضرار بهم على حد سواء. في كتابهما (ديالكتيكية التنوير، 1947) كتب ادرنو وماكس هوركهايمر ان "الناس كان عليهم دائما ان يختاروا بين خضوعهم للطبيعة او إخضاع الطبيعة للذات". البشرية كانت قادرة على هزيمة الطبيعة عبر فصل العلم عن الميثولوجيا باستعمال الحسابات الباردة للعقل. ومع انتصار الانسان على الطبيعة، جاء "الاغتراب الذاتي لأولئك الذين كان يجب عليهم نمذجة أجسامهم وأرواحهم طبقا للاجهزة التقنية". ومع سيطرة الانسان على الطبيعة، جاءت التكنلوجيا لإستغلال الحاجات والرغبات الانسانية. ونظرا للاحباط والشعور بالخيبة من الاسطورة، استسلمت البشرية لاحقا لأهواء الماكنة.

الطموح الأصلي للتنوير كحركة ثقافية كان تحرير العقل من الخرافة. هذا قد تحقق الى مدى ملحوظ لكن يبدو اننا الآن نواجه تهديدا جديدا ولكن ايضا مضللا للعقل: ذلك الذي تأتي أوامره من خوارزمية ليس لها هوية (1).

ان شكل ثقافتنا الحالية صُنع من خلال بصماتنا الرقمية. التلغراف، الطابعة والراديو ترانسستور، وحتى التلفزيون هي باستمرار بقايا حنين للماضي. ولكن في عصر المعلومات الحالي نحن خُدعنا مرة اخرى بشكل جديد من هيمنة الشبكات الاجتماعية المغرية والموجودة في كل مكان.

في مراجعة نيويورك للكتب لشهر ابريل 2020، لاحظ الاكاديمي القانوني تم وي Tim Wu ان جوجل والفيسبوك وزملائهما يقودون "اقتصاد الانتباه" الجديد. هذا العصر الجديد – من نوع التنوير الرقمي – يزدهر في التواصل الاجتماعي، المتعة المباشرة، والتعبير المتنوع. لقد برزت ميتا لغوية جديدة (وهي مجموعة رموز او كلمات تُستخدم في وصف وتحليل اللغة ذاتها)، التغريدات المزعجة، النصوص، الإعجاب/ اللا اعجاب، المواد المتداولة من الافكار المنتقلة من فرد الى آخر وغيرها . بالنسبة للعديد من الناس، السهولة النسبية والوصول الى منصة مثل فيسبوك يجعلها وسيط مريح للاتصال المحلي والدولي، مع ذلك، وكما يلاحظ تم، هذا العصر الجديد هو ايضا عصر "الاخ الاكبر" او هيمنة الحكومة.

كما في التلفزيون، ومع حلول فجر خوارزمية التواصل الاجتماعي دخل شكل جديد من الاضطهاد . مثل الإغواء الافتراضي، فيسبوك ويوتيوب وغيرهما يسحرون الفرد بتيار مستمر من المحتوى الذي يمكن القبول به. ولكن اذا كان التلفزيون استغل ردود افعال مشاهديه من خلال مختلف القصص المحددة سلفا، فان الفيسبوك ذهبت خطوة أبعد، في برمجتها المحتوى الحقيقي المرئي – على مواد وأخبار الفرد. "اعجاب" بسيط مثلا، قد يثير زيادة مفاجئة لمحتوى مشابه بما في ذلك نصائح مصممة للمستخدم لغرض الاستيعاب. انها تماما مثلما ذكر ادرنو للتلفزيون: "كل شيء يبدو "محتوما".

خلافا للتلفزيون، الخوارزمية لها القدرة على هز اسس الديمقراطية. خوارزمية التواصل الاجتماعي تعمل لتؤكد باستمرار على منظور وعقائد الفرد، عبر تغذيته بالملعقة محتوى متفق عليه. هنا "الخداع العام للجماهير"يكون واضحا حسب ادرنو في اللجوء الى المحتوى السهل الخالي من التفكير النقدي. لكن التمرير الطائش من خلال محتوى مصمم على تغذيتنا عادة يعمينا عن الروايات المضادة او الرؤى النقدية التي ربما نشارك فيها. وهكذا فان تحيّز الخوارزمية يخلق إحجاما عن المشاركة البناءة في معتقدات تختلف عن عقائدنا. ورغم ان خوارزمية الفيسبوك وُلدت من نوايا تجارية غير ضارة، لكنها تقود الى استبعاد متكرر لزبائنها من الأصوات والافكار. عندما يخضع المواطنون للخوارزمية، تتحول التكنلوجيا بسرعة الى أسلحة وان أي فكرة مثيرة للجدل وغير متفق عليها يتم استهدافها كـ "مشكلة" لكي تُحل او تُسحق بسرعة. وبهذه الطريقة، فان رغبتنا للتسامح والمشاركة في الصراع الديمقراطي فقدت فاعليتها. جماعيا، نحن فقدنا الإحساس النقدي – ليس لأن عدو مختبئ خلف شاشاتنا او بسبب هوياتنا الافتراضية، وانما كمواطنين ذوي أهداف ومصالح وحاجات متنوعة. كذلك، نحن فقدنا الشعور بالسيطرة فيما يتعلق بتقرير أي محتوى نراه.

أدرنو وزملاؤه البارزين في مدرسة فرانكفورت، هوركهايمر وهربرت ماركوس وهابرمس لم يفشلوا أبدا في تسليط الضوء على مفارقة ظروف الانسان المصنّعة. من المفارقة، هم حذروا بان السعي التحرري للتقدم التكنلوجي جاءت معه مخاطرة الاضطهاد الكبرى. في الحقيقة، يبدو ان تحذير ماري شيلي Maryshelley، مؤلفة فرانكشتاين (1818) حول أخطار عدم رؤية نتائج التكنلوجيا الجديدة، هي بالضبط صحيحة في عصرنا الرقمي. خلافا لمخلوقها الخيالي، هو واقعي لو أثار الذكاء الاصطناعي الكامن خلف شاشاتنا تهديدا لعملياتنا الديمقراطية. المفارقة في التنوير كان يُنظر اليه في اغتراب الجماهير العاملة – محررة من الخرافة والافتراضات الاجتماعية القديمة، لكنها اُضطهدت بواسطة هدف اقتصادي ضيق. كتب هوركماير وادرنو ان التنوير "تصرّف نحو الأشياء كما لو كنت دكتاتورا نحو الناس". في عصرنا الحديث، مفارقة جديدة مرئية في اغتراب الناس الجاثمين خلف شاشاتهم، يعتقدون انهم احرار. نحن جماهير مندفعة بفعل الإثارة والتشويق التحرري للتقدم التكنلوجي، لكننا مع ذلك عبيداً لأهواء نفس تلك التكنلوجيا.

***

حاتم حميد محسن

........................

الهوامش

(1) تُنسب الخوارزمية في الأصل الى عالم الرياضيات والفلك محمد بن موسى الخوارزمي 781م. خوارزمية الفيسبوك هي عبارة عن مجموعة من القواعد تقرر أي مواد منشورة يراها الناس في صفحتهم. انها تقرر أي محتوى اكثر ملائمة لكي يظهر لكل مستخدم بالارتكاز على عدة عوامل. مواد كل مستخدم ستكون مختلفة جدا طالما جرى تصميمها فقط له.هذه الخوارزمية تتحكم في عرض المنشورات ووصولها للمستخدمين. كلما اشتهرت صفحات صنّاع المحتوى كلما زادت فرصتهم في الحصول على مشاهدات اكثر وبالتالي ارباح اكبر. خوارزمية الفيس تتحكم بالمعلومات التي سيتم عرضها امام المتابعين، وهي تتنبأ بطبيعة المحتوى الذي يفضله مستخدم معين اكثر من غيره وتعمل بناءً على ذلك.

 

 

في المثقف اليوم