قضايا

الهوية العربية والدلالة الغائبة.. قراءة في فكر عصمت نصار

يعد عصمت نصار (أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية)، أحد الأسماء الهامة واللامعة في سماء الفلسفة العربية؛ حيث أسهم بقسط وافر في بناء هذا الصرح، وتعد لبناته الفكرية والأدبية التي وضعها بالجهد والعرق بمثابة الأساس الذي بني عليه الكثيرون من تلامذته مشاريعهم الفكرية، ورؤاهم الفلسفية في العربي المعاصر.

ففي دراسة له بعنوان "إشكالية الهوية من غائية الخطاب إلى ضرورة المشروع"، أكد لنا على حقيقة مهمة وهي أنه لما كان التفكير الناقد هو النهج المُنتج للآراء والتصورات والمُوؤل والمُحلل للإشكاليات والقضايا، فأعتقد أنه الضرب الأنسب والأوفق لهذا اللقاء الذي نستهل به برنامج التثاقف الفلسفي لعام 2023م تحت مظلة المعهد العالمي للتجديد العربي وإذا ما سلمنا بأن التحاور والتناظر والتصاول هو رحم التجديد المولد للفكر الحر فأنني أدعوكم لمصاحبتي في تلك الجلسة لممارسة الإمتاع والمآنسة لإحياء سنة الفلاسفة والمفكرين المستنيرين. وعليه سوف نبدأ من السؤال الفلسفي لنصل إلى فلسفة السؤال التي تنطلق من خمس قضايا رئيسة هي: عتبة موضوع إشكالية الهوية، الهوية بين التعريف والدلالة والمفهوم، الهوية بين الانتماء والانضواء والتغريب والاغتراب، ثقافة الذات المفكر وبنيته وأهوائه وميوله، وسلطة الهوية واستبداد المجتمع، رسالة المجدد وواجبات الموؤل.

ثم يدلف إلى عتبة موضوعه فيتساءل : لماذا جعلنا موضوع الهوية العربية إشكالية وليس قضية؟ فكلنا نعرف أن معنى لفظة إشكالية أنسب للتعبير عما يتسم به موضوع الهوية من حيث المشكلات التي أثيرت ومازلت، ومن حيث التعريف والمضمون والمسائل ذات الصلة وتصارع الرؤى والتصورات حول ماهية المشخصات التي تشكل بنية الهوية من حيث أصالتها وطرافتها وإدراجها ضمن التليد أم المستحدث الجديد. ونتسأل ثانيةً هل الإشكالية هي الإلتباس والمغالطة في الاستدلال، أو الأمر الصعب المعقد الذي يصعُب الفصل فيه أو الاختلاف والتناطح والتصاول الذي لا يُقطع بصدقه والمشتبه فيه دون دليل كافي أو صفة لقضية لا يظهر فيها وجه الحق كما عند الفلاسفة، أم تراها المقُرر دون دليل؟ الحق أن جُل قضايا الفكر العربي الحديث يمكن إدراجها ضمن الإشكاليات بالمعنى السابق ويرجع ذلك إلى الوقائع والواقعات التي أنتجت تلك القضايا شأن قضايا التراث والتجديد والحرية والإصلاح أما مسألة الهوية فقد خرجت من بوطقة الوعي وتربية الرأي العام وتوجهات أهل الحل والعقد والسلطات القائمة ومثاقفات أصحاب المنابر ورجالات الدين وكتابات المستشرقين وذلك في أخريات القرن التاسع عشر والعقدين الأول والثاني من القرن العشرين في بلاد الشام ومصر والعراق، ثم المغرب العربي. وقد دارت الحوارات حول مفهوم الوطنية والقومية والأصول الحضارية وعراقة الأنساب وأصالة المشخصات والسمات المشتركة والصفات المتشابكة دون جدوى، وليس أدل على ذلك مما يتردد في حواراتنا المعاصرة حول الآراء المتباينة حيال بنية المصطلح.

ثم يستطرد المفكر الكبير عصمت نصار فيقول: وإذا ما انتقالنا إلى مصطلح الهوية العربية سوف نُدرك أنه لا يقل تعقيداً عن سابقه من ناحية ولا يختلف في صفة الخلط والاختلاف والالتباس في التعريف عما نجده حيال مصطلح القومية Nationalismفي الفكر الغربي الحديث من جهة أخرى. حيث ورد في معظم المعاجم السياسية والاجتماعية بمعاني متباينة (الوطنية، الأمة، والجنس، الأصل) وجعلت معظم التعريفات (اللغة والمعتقدات والتقاليد والأعراف ووحدة المكان والمصير والمصالح والمقاصد) من أهم المشخصات التي يعول عليها في تحديد مفهوم القومية.

ولم يكتف بذلك الدكتور عصمت نصار أكد على أنه إذا ما انتقالنا إلى المثاقفات في المجتمع العربي الحديث سوف نجد ما يشابه ما أشرنا إليه سلفاً. وذلك لأنه من العسير التمييز بين مفهوم الهوية والذات وذلك في السياقات اللغوية والمنطقية العربية، ومن المستحيل فصل الذات عن الهوية عندما نتحدث عن المشخصات العربية ووجودها، ويرجع ذلك لأصالة وعقلانية عقلها الجمعي الذي دأب على غربلة المستحدثات الوافدة، والمتغيرات العالقة التي يحملها الأغيار الوافدون عليها. وقد ظهر مصطلح الهوية العربية كرد فعل مباشر لتحديات ثلاثة رئيسة أنتجها الواقع المعيش، أولها: الربط بين الدين والهوية وذلك على يد الراديكاليين التراثيين (الجامعة الإسلامية)، وثانيها: تعصب الأتراك وانتشار شعار التورانية على يد حزب الاتحاد والترقي وتركيا الفتاة، وثالثها: الدعوة للكوكبة والعولمة وتزييف المشخصات وجحد التراث والسير في زيل الثقافة الغربية تحت العديد من المسميات (الوحدة الإنسانية، المدنية الحديثة، ثقافة البحر المتوسط، والشروق من الغرب وليس من الشرق) وعلى مقربة من ذلك نجد حركات إحياء للنعرات العرقية والعصبيات المذهبية. الأمر الذي دفع عبدالرحمن الكواكبي، وبطرس البستاني، وإبراهيم اليازجي، ونجيب العازوري، ثم الشيخ على يوسف، وأحمد لطفي السيد، وعبدالله النديم، وعبدالرحمن الرافعي، وسعيد الشرتوني، وأمين الريحاني، وعبد الحميد الزهراوي، وأحمد زكي باشا، وأنطون سعادة، وعبدالرحمن عزّام، وغيرهم من الرافضين لربط العروبة بالعقيدة وإقصاء المسيحيين والأغيار عن مفهوم المواطنة الكاملة. وتغليب المشخصات الفاعلة في بناء الذات العربية مثل اللغة والتاريخ والمصير والتحديات والمصالح المشتركة على غيرها، والراغبين أيضا في التحرر من تعصب الأتراك وتعاليهم على الجنس العربي ومحوهم للثقافة العربية وإنكار دورها للحضارة الإنسانية ناهيك عن الظُلم والاستبداد والقمع الذي عانت منه المجتمعات العربية في المشرق أو المغرب تحت وطأتهم بإسم الخلافة الإسلامية وخوفهم من هجمة الاحتلال الغربي ولا سيما بعد الحرب العالمية الأولى واتفاقية سايكس بيكو.

ثم ينتقل الدكتور عصمت نصار للحديث عن بنية القضايا المطروحة فيقول: أعتقد أن الوقت لن يسعفنا في الاسترسال في الحديث عن القضايا التي يحويها عنوان ذلك اللقاء أعني مناقشة الفارق بين الخطاب والمشروع حيال هذه القضية، فعلى الرغم من اجتهاد المُجددين الأوائل في تحديد بنية الهوية العربية ومشخصاتها ومقاصدها إلا أن جميعهم لم يحسن التخطيط في نقل تلك المفاهيم ومقاصدها من طور التنظير إلى طور التفعيل وليس أدل على ذلك مما نحن فيه الآن. فإذا ما عرضنا قضية الهوية العربية على مائدة الفلاسفة والتفكير الناقد فسوف نُجابه العشرات من التساؤلات من منظور مبحث الوجود ومبحث المعرفة ومبحث القيم، بالإضافة إلى تهكم الساخرين من تطبيق المقولات المنطقية الرئيسة على دلالة المصطلح، فأتصور أن يكون الطرح على هذا النحو:

* هل القومية العربية موجودة بالفعل؟ وبأي معنى؟ وبأي دلالة؟

* وهل تلك القومية العربية ومشخصاتها يمكن الاستدلال على وجودها في الثقافة المعاصرة؟ وفي أي مرتبه يمكن وضعها، في مكانة الفاعل أم المفعول دوماً؟

* وهل عقلنا الجمعي المنتمي، المجدد، الموؤل. موافقاً على وجودها أم ساخراً من الحديث عنها؟

* وهل القضايا التي تشغلها في الحاضر يمكن الحكم على صحتها أو كذبها في المستقبل أو ستظل غير معروفة؟ وهل سنظل نحلل قيمنا ومبادئنا في ضوء (المنطق المتعدد القيم) أو (المنطق المائي) أم (المنطق الضبابي أو الغائم)؟

* وهل سنبيت نؤمن بمقولة "إما... أو الإطاحي " أم " (مبدأ الثالث المرفوع)"؟

* وهل إنتمائاتنا يمكن إدراجها في قوائم الحضور أم في سجلات الغياب؟.

* وهل في إمكاننا التخلص من شيفونيتنا وعصبيتنا أم سوف نسمي نزيف تلك الهوية المزعومة ونلبسها أوهام الشاعر الروماني الساخر بيلاوتوس (نحو250/184ق.م) على مسرح الحياة أم قبعات الفيلسوف الإسكتلندي توماس كارليل (1795/1881م) وتيجانه في ساحة الزعماء والأبطال وحديثه عن أشكال فلسفته للملابس؟

ثم يجيبنا الدكتور عصمت نصار على ذلك قائلا: والإجابة يمكن إدراكها عند الجاحدين لتلك الهوية في شتات الاغتراب وتأوهات المغتربين في مجتمعاتهم العربية. وكذا في أكاذيب دعاة الأصالة والإصلاح تارة، وفي أوهام وإفك التفكيكيين والفوضويين وأرباب البدع تارة أخرى، ولهذا وخليق بنا أن نعمل سوياً لتجديد مبحث الوعي في مشروعنا الحضاري فنعين الثابت والمتحول في مشخصات هويتنا ونتخلص من الأوهام التي شغلت حيزاً كبيراً في خطابات ذواتنا عن الهوية ونجعل دراسة الواقع بكل ما فيه هي سبيلنا إلى إعادة بنائها. ونؤكد على أن نجاح ذواتنا المتطلعة إلى الرقي والتقدّم لن يتحقق بمعزل عن العيش مع الأغيار في متنفس من الحرية والتناغم والمحبة والتراحم والقيم الأخلاقية المستمدة من مكارم تراثنا التليد ووعينا الجديد حتى نتمكن من الإجابة التي ينبغي علينا البوح بها وإعلانها: من نحن وماذا نريد ولماذا؟ ونربي أولادنا على حكمة الأيقاظ الأصحاء الخالدة القائلة "إذا كانت كلمة نعم تطرب الأذان، فإن كلمة لا تُحيي العقول، وأن الولاء والانتماء لا يقوى على مجابهة عذابات الواقع بمنآي عن قناعات الأنا المُفكر وإنضواء الذات العاقلة". وأن غاية التأويل المعاصر يجب أن تنصب على فضح الأكاذيب وتوضيح المعاني والدلالات المستترة وفك الرموز وإزالة الألغاز وليس اختلاق المعاني والدلالات التي تبدد المقاصد الواضحة بذاتها.

وقد توصل الدكتور عصمت نصار إلى حقائق مهمة وهي إلى عدة توصيات ونتائج، أولها: أن قضية الهوية لم تُعد مقولات خطابية ولا شعارات غنائية؛ بل ضرورة حتمية واجبة التحقق بتخطيط علمي ينطلق من الواقع المعيش ويرمي إلى النظر للمستقبل باعتبار العرب فاعل وليس مفعول. وثانيها: ضرورة العزوف عن الشيفونية المضللة سواء بين الرأي العام القائد للزعمات العربية والسلطات القائمة أو في مُخيلة الرأي العام التابع حيث الثقافة السائدة في كل الأقطار العربية وأخيراً بين تصورات الرأي العام القائد وأهل الحل والعقد والمجددين الحقيقيين المسئولين عن حركة الأمة العربية وتقدمها إلى الأمام أو إلى الخلف، وثالثها: التخلص من كل قيود معوقات البوح وحرية الفكر والرأي والعمل على إنهاض الأذهان الراقدة لتلج أبواب الصمت وتحريضها على قيادة ثورة المستنيرين التي تنشد البناء وليس الهدم، ورابعها: تفعيل الخطوات العملية التي تُحيل الهوية اللفظية إلى وقائع وواقعات تثبت أن العرب أمة ووطن له حدود أمنة ومصانة تأوي شعوب متحابة متناغمة في العيش بمنآي عن العصبية الدينية أو الحزبية الأيديولوجية أو الرجعية العرقية، أي أمة تعبر عن كيان واحد اقتصاد واحد (عملة وسوق وإستثمار طاقات وموارد) وقرار سياسي ودستور أعلى يدين بالعلم والمصلحة التي لا تناقد مشخصات الهوية التي لا تفصل في الولاء والانضواء في رفعة القومية والإخلاص في الولاء للوطنية، وأخيراً: مراجعة المشخصات العقدية وتخليصها من الأوهام والأكاذيب وإعادة تربية الأذواق والبرامج التربوية والتعليمية وذلك لإنتاج جيل جديد من شبيبة راقية جديرة بحمل الهوية العربية التي تعبر دوماً عن يقظة التفكير الناقد وأصالة العقل الراجح الذي لا تضلّه الأكاذيب ولا تصرفه عن مقصده الأهواء والمطامع الزائفة.

ونخلص من قراءتنا لهذه الدراسة وحسب فهمنا لها أننا نلاحظ المفكر الكبير عصمت نصار يستخدم التفكير الناقد كأداة للحوار من أجل إحياء التجديد الفكري، ويراه السنة المميزة لكل مفكر تنويري، وبالتالي وضع أيدينا على بعض المرتكزات الأساسية لإشكالية الهوية العربية، فأراد أن يخرج بالمصطلح من دائرة المقولات والشعارات إلى مجال التطبيق والتخلص من القيود، ففرق بين القضية والإشكالية، ورأى أن الهوية هي إشكالية كبرى، لأننا نتحدث هنا عن بنيتها دون أن نتحقق من دلالاتها.

ويحزم مفكرنا بالعلاقة الوثيقة بين الهوية والوعي فلا هوية بدون وعي من الرأي العام، وأهل الحل، والعقد، وأصحاب المنابر، ورجال الدين. ثم يعود مفكرنا إلى مصطلح الهوية العربية فيراه اصطلاحا معقدا وذلك بسبب ما احيط به من لبس واختلافات خول تعريفه وعدم التمييز بين مفهوم الهوية والذات .ولقد ارجع مفكرنا ظهور هذا المصطلح كرد فعل للربط بين الدين والهوية .وتعصب الاتراك .والدعوة للعولمة علي قاسم وجحد التراث والسير في تبعية الثقافة الغربية وهو الامر الذي جعل العديد من المفكرين العرب يرفض ربط العروبة بالعقيدة لأنه يترتب عليه إقصاء غير المسلمين من مفهوم المواطنة الكاملة

ويتحدث الدكتور عصمت نصار عن بنية القضايا المطروحة فيأخذ على المجددين الأوائل انهم لم ينجحوا في تقل المفاهيم من طور التنظير إلى التفعيل ويحاول حل هذه المشكلة عن طريق طرح تساؤلات جديدة تنقلنا من هذا الطور فيتساءل عن وجودها الفعلي والدلالي ومدى استيعاب عقلنا الجمعي لوجودها، وهل القضايا المطروحة تجاهها في وقتنا الحالي صالحة للمستقبل في ظل المنطق متعدد القيم أو المنطق الضبابي وغيرها من آليات الحكم والتعقل

إذن التساؤلات التي تدور في اطار قضية إما... أو.. إن الإجابة في رأيه يمكن أن ندركها عند جاحدي الهوية الذين اصابهم الاغتراب وأكاذيب دعاة الإصلاح .. ويخلص مفكرنا إلى أن الحل يكمن في تحديد مبحث الوعي في مشروعنا الحضاري والتخلص من أوهام الماضي التي شغلت حيزا كبيرا في خطابات ذواتنا عن الهوية .والاهتمام بدراسة الواقع بكل ما فيه هو طريق مفكرنا لإعادة بناء الهوية والعيش مع الآخر في إطار الحرية والمحبة والقيم الاخلاقية .

ويطول بنا المقال غير أني لا أملك في نهاية حديثي عن الدكتور عصمت نصار إلا أن أقول تحية طيبة لهذا الرجل الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به و يسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخرى مني لهذا الرجلٍ العظيم الذي لم تجز به السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

***

أ. د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

في المثقف اليوم