قضايا

هَواجِسُ قِراءةِ العُمْيان.. قبل برايل!

وردت العقل البشريّ هَواجِسُ، كثيراً ما تمنى الإنسان تحقيقها، لكنه عجزَ عنها، فالزَّمن كان قاصراً. فهذا صاحب «الصَّحاح» الجَوهري(ت:393هج) تملكه هاجس الطيران، فـ«ضمّ إلى جنبيه مصراعي باب، وسّطهما بحبلٍ، وصعد مكاناً عالياً مِن الجامع وزعم أنه يطير»(الحمويّ، إرشاد الأريب). أما المتكلم هشام بن الحَكم(ت: 190هج) فراوده هاجس رؤية باطن الأرضِ، أو بواطن الأشياء الصَّلبة، بنفوذ البَصر إليها بشُعاعٍ، جعله مِن القِدرة الإلهية: «إن الله عزَّ وجلّ إنما يعلم ما تحت الثَّرى بالشُّعاع المتصل منه، والذَّاهب في عمق الأرض...»(البغداديّ، الفرقُ بين الفرقِ). لا يُعتبر ذلك إعجازاً، إنما هواجس، لم يطلع عليه مخترع الطَّائرة، أو الأشعة الخارقة، كي تكون أساساً لِما اخترعا.

كذلك اختراع قِراءة العُمْيان، لموجدها لويس برايل(ت: 1852)، التي دخلت الاستخدام منذ(1826)، واستمرت تتطور، فعمت الفائدة عُمْيان العالم، لكنَّ قبلَه ظهرت القراءة أمانيَ وهواجِسَ لدى عُمْيان مشهورين، وفي مقدمتهم أبو العلاء المعريّ(ت: 449هج)، وبيته غير المشهور، مع ما فيه مِن هاجس سابق للزمن: «كأنَّ مُنجمَ الأقوامِ أعمى/ لديه الصُّحف يقرؤها بلمسِ»(ديوان لزوم ما لا يلزم). كان ذلك، كما برايل الأعمى، مِن حاجةٍ، فكلُّ ما كتبه المعري، على السَّمع والإملاء. لم يكن زمنه، ولا زمن أوروبا آنذاك، قادراً على ترجمة هاجسه إلى اختراع. كذلك مِن الصَّعب عده إعجازاً على طريقة أصحاب الإعجاز العلميّ المتلاعبين بتأويل معاني النُّصوص.

لفتت نظريّ مناسبة تحقيق كتاب «نَكتُ الهَميان في نُكتِ العميان» لصلاح الدِّين الصَّفديّ(ت: 768هج)، أنّه كان بفضل «المؤتمر الدُّوليّ لتحسين حالة العُمْيان»، تحت رعاية الخديوي عباس الثَّاني(حكم: 1892-1914)، حققه ونشره(1911) أحمد زكي بك(ت: 1934).

وردت في كتاب الصَّفديّ قصة زين الدِّين الآمدي(ت: 712هج)، ومحاولته في قراءة عناوين مكتبته، وهو المدرس في المستنصرية ببغداد، ومِن حاجةٍ توصل هذا الأعمى، الحاد الذَّكاء والملاحظة، إلى صنع حروفِ الهجاءِ على شكلِ فتائلَ، يُلصقها على «طرف جلد الكتاب مِن داخل، ويُلصق فوقه ورقة بقدره لتتأبد»(نَكث الهميان...). فكان إذا سُئل عن كتاب يُجيب وهو يقرؤها بأنامله. غير أنَّ مستوى ذلك الزَّمن، العلمي والصِّناعي، لم يُسعف الآمديّ، كي يكون «برايل»، مثلما لم يسعف المعريّ قبله.

قرأت تفاصيل عن المؤتمر الدُّولي المذكور في «مجلة العلم» النَّجفيَّة(صدرت: 1910-1912) لمنشئها الفقيه المحب للعلم هبة الدِّين الشَّهرستاني(28/6/1911)، ولأن أحمد زكي حقق كتاب الصَّفدي، نهض في المؤتمر معترضاً على تسمية برايل أباً لقراءة العُمْيان، بل إنّ أباها كان الآمدي، بينما قام مندوب حلب، في المؤتمر، منشداً للمعريّ: «كأن منجم الأقوام أعمى...»، قائلاً: هذا هو صاحب الاختراع، لا الآمدي ولا برايل.

ليت شِعري ماذا ذكر الصَّفدي للمعريّ، وقد أفاض بسيرته وشِعرهِ، بينما أغفل البيت «كأنَّ منجمَ...»، الذي لو ذكره لكان جوهرةَ كتابه في العُمْيان، إلا أنه ذَكر للشامتين به: «أمعرة النُّعمان ما أنجبتِ إذ/أخرجتِ منكِ معرةَ العُمْيان»(نَكت الهميان).

مِن حقّ الآمدي تسمَّية مدارسَ ومعاهدَ العُمْيان باسمه، وللمعري كذلك، لكنَّ المشكلة مذهب الآمدي، لا يسمح به عصر الطَّائفيّة، فمؤخراً شُطبت أسماءُ مؤسسات ببغدادَ: المنصور والمعتصم والفاروق. أمَّا المعريّ فيعسر رفع اسمه عنواناً، وهو القائل بعد بيته «كأن منجم..»: «إذا قلتُ المحال رفعتُ صوتي/ وإنْ قلتَ الصَّحيح أطلتُ همسي».

هذا، وأغربَ ما قرأته في «الأسبوع» المصريَّة(1/12/2022): أنَّ المؤتمرَ المذكور، وما نتج عنه «رحلة إلى معاهد العُمْيان في أوروبا»(1912) لطبيب العيون نجيب كُحيل، كان مِن وحي عبقرية طه حسين(ت: 1973)، والأخير لم يشتهر إلا بعد المؤتمر وصدور الكتاب بسنوات! أراه إسقاطاً ليس في محله.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم