قضايا

جذور الحداثة الغربية وأنعكاسها على سياسة دول الغرب (3)

أشرنا في الحلقتين السابقتين، الأولى والثانية بأن الحضارة الغربية الحالية التي نعيش تجلياتها في العالم الغربي أقتصادياً وأجتماعياً وسياسياً وعلمياً، ترتكز في مبانيها وأسسها وجذورها على مصادرها التراثية، وخاصة على الميثولوجيا الأغريقية، فهي تمثل البنية التحتية لبناءها الفكري على جميع الأصعدة . في هذه الحلقة نتناول البعد السياسي في الحداثةِ الغربية، وعلى أي جذر ميثولوجي تأسست، حيث نتتبع مجرى النهر السياسي الغربي الى منابعه الأصلية، لكي نعرف منشأ ما يتمتع به من خصائص وأسلوب سياسي يمارسه لنفسه، وما يواجه به غيره من الشعوب والأنظمة الأخرى التي لا تنتمي له حضارياً .

من المهم أن نعرف ان حجر الأساس لبناء النظام السياسي الغربي هو ما ذَكرته المصادر التاريخية للمؤرخ الأغريقي الشهير (ثوسيديديس) صاحب كتاب تاريخ الحرب البلوبونيزية التي دعا فيها أهل أثينا الى منح الحق لكل من هو أكثر قوة في عالم الطبيعة، بحيث يكون الأقتدار هو المرتكز للقانون الطبيعي (ميثولوجيا الحداثة-الأصل الأغريقي لأسطورة الغرب ص250). هذا المبدأ، هو الذي أستلهمه نيتشه من الموروث الأسطوري الأغريقي الذي يقول فيه  أن (أقوى وأسمى ارادة في الحياة لا تتمثل في الكفاح التافه من أجل الحياة، وإنما في أرادة الحرب، أرادة السيطرة)، وهو من ألهم المنظر السياسي الأيطالي ميكيافيلي بالقول بالقوة الخاطفة في كتابهِ الأمير، والتي يعني بها قوة الصدمة، وهي القوة الكبيرة الباطشة والسريعة، التي توجه للخصم سواء كان من الشعب أم عدواً خارجياً من أجل أخضاعه والتحكم  به .

أننا لا نتردد اليوم من القولِ، من إن ما نعيشه اليوم من توحش سياسي وعسكري، وما نعيشه من أزمة أقتصادية مفتعله، هو تجليات واضحة للعقلية الحداثوية الغربية في هذه الجوانب المذكورة، لأننا لا نريد أن نبخس الحداثة الغربية في جانبها العلمي . هذا الواقع الوحش الذي هو من مخرجات الحداثة الغربية، قد أشار اليه، وحذر منه الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي حين قال (أن الحضارة الغربية قد ضيعت البعد الإنساني للبشر، فباتت ثقافتها ثقافة فرعونية، وأذا أستمرت هذه الثقافة في الأنتشار فأنها ستؤدي الى أنتحار الكون بأكمله) (مؤتمر السكان في القاهرة 1994م -الأسلام حضارة الغد-يوسف القرضاوي)، وفعلاً اليوم نحن نعيش هذا التهديد، من خلال التراشق في تصريحات الفريقين المتحاربين، روسيا من جهة، والعالم الغربي بقيادة أمريكا من جهة ثانية، حتى أصبحنا نعيش اليوم شبح الحرب النووية، التي لو حدثت لا سامح الله لأنتحر الكون على حد قول غارودي.

ولكي لا نختار منهجاً أنتقائياً، علينا الأشارة الى وجود أكثر من سياق فلسفي في الجانب السياسي، فهناك ما تطرحه المدونات الأسطورية للشاعر الأغريقي هسيود والتي يمنح فيها حق القيادة للعقل، وصاحب الروحية العالية، والتي يعتبر فيها روح الأنسان نسيم من نَفَس الآلهة، وهناك أفلاطون الذي رشح الفيلسوف أن يكون زعيماً يُدير جمهوريته . هذين الرجلين على سبيل المثال، يمثلان مدرسة غير مدرسة الشاعر الأغريقي هوميروس الذي يعطي في ملحمته قدراً كبيراً للقدرات الجسمية الخارقة، وقوة الحيلة والمكر كما في ملحمتيه الأوديسة والألياذة، والتي لعب أبطالهما أوديسيوس وأخيليوس دوراً كبيراً، وما تمتعا به من صفات البطش والمكر في مقاتلة الخصم، كما أن هوميروس يفضل أبناء الطبقة الأرستقراطية في مسألة السياسة والقيادة، ويسير بالتوازي مع هذا الأتجاه، الفكر الأسبرطي، القائم على العسكرة والقوة وتجيش المجتمع، وهو نظام لا مكان فيه للضعيف، أنه مجتمع الأقوياء . هذه النماذج التي ذكرناها لا نجد صعوبة في تشخيص مصاديق لها في الواقع الأوربي، فالأنظمة الكولونيالية التي حكمت أوربا كثيرة، منها المتمثل بالأمبراطورية البريطانية والفرنسية، وقادة مارسوا هذا النوع من الأنظمة كبسمارك وهتلر ونابليون، حتى ترسخ هذا النوع من الممارسة العنيفة في السياسة الغربية  في لا شعور كل الأوربيين، مما تحولت الى ما يُسمى بالثقافة الكولونيالية كما يُسميها الدكتور (أنيبال كيخانو) المنحدر من أمريكا اللاتينية.

يقول سقراط أن أنعدام الفلسفة في مدينة أسبارطة خطأ شائع : أذ آمن الأسبارطيون بفلسفة الحرب، وأعتنقوها مذهباً . اليوم أمريكا تتخذ من المنهج الأسبارطي منهجاً لها، وهو أعتماد العسكر والقوة لتأمين الهيمنة والأقتدار على الأخر . هذا الجذر الأسبارطي هو من أوحى الى قادة عسكرين وسياسين غربيين من أمثال هتلر ونابليون أستخدام العنف والقوة كأداة في فرض أجندتهم السياسية، وهو الفوز بالتمكين والأقتدار، وتأمين الحياة المرفهة لشعوب دولهم، وهي ذات الأهداف التي سطرها أبطال ملاحمهم الأسطورية أمثال أوديسيوس وأخيليوس، كما لو لاحظنا ملامح ما يعرضه هوميروس في أشعاره الملحمية، نجده ينزع الى تبني القيادة للطبقة النبيلة، وهي طبقة أرستقراطية، طبقة يطلق لها العنان في أمتلاك القوة والثروة، وهو أتجاه يُعتبر فيه هوميروس الأب الروحي للنظام الرأسمالي الحالي، وأما أشعار هسيود الملحمية، فهي أشعار تميل الى تمجيد قيم العمل في الحقل، وذات روح إنسانية، التي يعتبرها بأنها جزء من نفس الآلهة، والذي يعتبر الأب الروحي للنظام الأشتراكي .

أن سياسة العنف وأراقة الدماء والقتل الوحشي للخصم، هو ما يميز سياسة الأغريق، ولنا في أخيليوس بطل ملحمة الألياذة خير دليل، فهو رجل يتصف بالدموية والقسوة المفرطة، وبالحقيقة هذه الشخصية غير غائبة في المنظومة السياسية الغربية، ونلمس ذلك في قادة الجيوش الغربية الكثير منهم، وقد أعطتنا الحربين العالميتين الأولى والثانية، والمعارك التي قادتها أمريكا ضد السكان الأصليين لأمريكا (الهنود الحمر)، والحرب الأمريكيه الفيتنامية، ولا ننسى ضرب مدينتي هورشيما ونكزاكي اليابانيتين، كدليل صارخ على درجة القسوة المتوحشة  للقادة العسكريين والسياسيين الذين يعطون لهم هذه الأوامر في التنفيذ . أن السياسة الماكرة لدول الغرب أتجاه الشرق خاصة، والعالم عامة، هي سياسة لا تحيد عن ما يتصف به بطل الأوديسة (اديسيوس)، الذي يمثل صورة واقعية للإنسان الأغريقي المتصف بالمكر والخداع والأنغماس بالشهوات والمملوءة نفسه بالحقد والضغينة، كما يصفه الشاعر الروماني فيرجيل (ميثولوجيا الحداثة-ص265  )، وبالمناسبة حتى كلمة الأوديسة تكون أحد معانيها الكراهية والجور وقسوة القلب (ميثولوجيا الحداثة ص264 ). حتى دانتي صاحب كتاب (الكوميديا الألهية ) يصنف أوديسيوس بأنه بالدرك الأسفل من النار، جنب الى جنب مع إله الحرب ديموس، وهذه هي النهاية التي توقعها صاحب كتاب (أنهيار الغرب) أوسفالد شبينغلر، وهو كتاب ألفه صاحبه في بداية القرن العشرين، وهي نهاية حتمية للسياسة الأمبريالية التي يتبعها الغرب والتي أستمدت جذورها من بطلهم الأسطوري أخيليوس وأديسيوس أبطال الألياذة والأوديسة الأغريقيتين، ولا أستبعد أن تسقط هذه السياسة الأمبريالية كما سقطت أسبارطة، وليس كما توقع فوكوياما بحتميته التاريخية  للنموذج الغربي الأمبريالي.

أن أسطورة ملحمة طروادة كانت وما زالت مادة دسمة يستوحي العقل السياسي الغربي منها العبر والدروس والخطط العسكرية والسياسية . هذه الملحمة المعبئة بأساليب الخدع العسكرية، والقسوة المفرطة في معاملة الخصم كأسلوب لابد منه لتحقيق الأنتصار على الخصم.

أن أسلوب السيطرة الحديدية سواء بالداخل أو على الخارج، وأتباع سياسة العنف الممزوجة بالمكر والخداع هو ما ميز الأستراتيجية السياسية لبريطانيا في طريقة أستعمارها للكثير من دول العالم، حتى سُميت بالأمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وأن الشعوب التي أستعمرتها بريطانيا تحتفظ بذاكرة مؤلمة عن أعمالها العدوانية أتجاه شعوب ما يُسمى بالعالم الثالث، واليوم أمريكا تمارس نفس الدور وبصورة أكثر بشاعة وقسوة. طبعاً أن التراث الأسطوري الأغريقي كان له بالغ الأثر ليس على السياسين فقط وأنما أيضاً على الفلاسفة الغربيين، ومنهم الفيلسوف الألماني المثير للجدل نيتشه، والذي نتيجة لتأثره بتراث أسلافه الأغريق، تنبأ بظهور عملاق ألماني، حيث قال (لا ينبغي لأحد تصور أن الروح الألمانية قد فقدت تراثها الأسطوري الى الأبد . وقد ذكر أيضاً في كتابه (مولد التراجيديا) عندما يولد هذا العملاق العظيم سوف يقتل الأفعوان ويقض على الأقزام الأشرار، وهنا وكأنه كان يتنبأ بظهور الدكتاتور الألماني هتلر.

أن سياسة الفصل العنصري الذي أتبعتها السياسة الغربية وخاصة في أمريكا وجنوب أفريقيا، تستمد نظرتها من تلك السياسة التي أتبعتها المدن الأغريقية، وما أوحته لهم ملاحمهم الأسطورية بالنظرة الدونية للأجانب، والذين ليس من جنسهم، وأنهم برابرة لايستحقون الا الموت أو السخرة والأعمال الشاقة، وهذا ما يؤكده التاريخ القريب في نظرة الأمريكان البيض الى الجنس الأسود، وما مارسوا عليهم من عبودية قاسية يندى لها جبين الإنسانية، وكذلك ما قام به النظام النازي بالنظر لغير الألماني بالدونية بأعتباره هو العنصر الأرقى في هذا العالم. يتبع....

***

أياد الزهيري

 

في المثقف اليوم