قضايا

محمد أركون ونظرية الكهنوت المتأسلم

الكهنوت هو أن يكون للكاهن أو رجل الدين سلطة فوق الكل، على طريقة القساوسة في العصور الوسطى للوصول للحكم عندما كانت لهم سلطة فوق سلطة الحكومات والشعوب،، فقد كانوا يتحكمون في الشعوب والحكومات، بل وفي بعض الحكام أيضًا.. فكلمتهم كانت مسموعة، واحكامهم كانت نافذة أكثر من نفاذ القوانين؛ فحكموا، وسيطروا، وطغوا، وتوحشوا، وتجبروا.. ومنحوا أنفسهم «صك الإله»، و«وكلاء الله» في الأرض، على غرار ما كان يفعله قساوسة العصور الوسطى!.

وللأسف، هناك- الآن- مَنْ يعيش بيننا، ويحمل لقب "شيخ"، أو "عالم"، أو "داعية"، ويمارس العمل الدعوي، لكنه حاد وانحرف عن طريق الدعوة.. ورويدًا رويدًا، بدأ الداعية من هؤلاء يتحول من عالم دين إلى رجل دين، ثم إلى "كهنوتيط، ولكنه "كهنوتي متأسلم"، يحيط نفسه بهالة من القداسة، ويلزم أتباعه بفتواه، وآرائه، ولا يُسأل عما يفعل.. فيما يسفه من نظرائه الذين لا يسيرون في فلكه، ولا يتبعون عقيدته، وفكره ومنهجه، فيُحط من شأنهم، ويشكك في علمهم، وعقلهم، وربما يتهمهم بالضلال و«الكفر».. ويوهم أتباعه بأنه أحد وارثي العقيدة، و«حامل الأسرار الإلهية»، وأنه «المفوض من الله» لهداية الناس؛ حتى يضمن السيطرة على أتباعه ومريديه!.

وضدّ التطرّف اللاهوتي الأصولي ينبغي أن نتخذ موقفاً نقدياً راديكالياً، واستخدام كل منهجيات العلوم الإنسانية ومصطلحاتها لإضاءة التراث الإسلامي من الداخل ومعه كل الظاهرة الدينيّة بمجملها، بغية الخروج من السياجات الدوغمائيّة المغلقة والتحرّر من النّزعة المذهبيّة التي أصبحت تشكّل في العقدين الماضيين تهديداً فعلياً لعالمنا المعاصر وللعالمين الإسلامي والعربي. إذا لم تحصل هذه الإضاءة التاريخية واللغوية والانتروبولوجيّة والفلسفيّة للخصومات العقائديّة المتراكمة منذ قرون وقرون بين الأديان التوحيديّة من جهة، وبين هذه الأديان والحداثة العالميّة من جهة أخرى، فسوف يستمرّ الصدام بين مخيالين قائمين على الكره والنبذ المتبادل منذ قرون عديدة.

هذه الأولويّة تشكّل خلفيّة مشروع محمد أركون النقدي وتلخص كما يقول في كتابه الجديد «الهوامل والشوامل حول الإسلام المعاصر»، دار الطليعة 2010، واحدة من أهم المعارك التي ابتدأ خوضها منذ زمن بعيد. ويذكر المؤلّف في المقدمة أنه شاء تغيير العنوان الفرنسي «ألف باء الإسلام من أجل الخروج من السياجات الدوغمائيّة المغلقة» بالنسبة للطبعة العربيّة لإعجابه بالكتاب الشهير للتوحيدي ومسكويه، الذي يحمل الاسم نفسه، وذلك لأنّ مفكري العصر الذهبي من عمر الحضارة العربية الإسلاميّة، كانوا جريئين جداً في طرح المشاكل الفكرية الكبرى من دينية وفلسفية. كتاب أركون هذا ما هو إلا مجموعة أجوبة مطوَّلة عن أسئلة طرحها عليه بعض الباحثين الفرنسيين حول الإسلام وقضاياه بعد الثورة الإسلاميّة وصعود الحركات الأصوليّة وضربة 11 أيلول.

وكما نعلم محمد أركون  يعد واحد من المفكرين المعاصرين الذين أخذوا على عاتقهم مهمة الفحص والبحث والنقد الجذري للتراث العربي الإسلامي، وهو يعتبر ذلك ضروريا للانطلاق نحو العصرنة والحداثة، إنه عند البعض امتداد لجهود الأفغاني ومحمد عبده وشكيب أرسلان وطه حسين حتى إن إحدى أطروحاته الجامعية عنونها بـ"الجانب الإصلاحي في أعمال المفكر العربي طه حسين" بل يعتبر وريث الفكر الاعتزالي وامتدادا له غير أنه قدم نقدا جذريا للفكر العربي الإسلامي لم يسبق لمفكر عربي وإسلامي أن اقتحمه.

وهنا يتساءل محمد أركون في كتابه حول الإسلام المعاصر فيقول : هل توجد كهنوتية في الإسلام (ص: 213). فيقرر أن الكهنوتية موجودة "بأشكال ومجريات شتى، في جميع الأديان التوحيدية بل والشركية المتعددة الآلهة [...] بمعنى أنه لا يخلو أي مجتمع بشري منها، فكل المجتمعات الإنسانية فيها كهنوت أو طبقة رجال دين وإن كانت تجلياتها تختلف من هذا المجتمع إلى ذاك أو من هذا الدين إلى ذاك" (ن. ص). لأنها "عبارة عن وظيفة ذات أبعاد أنتروبولوجية أي إنسانية في العموم المطلق" (ن. ص).

ويقارن بين الكهنوت في المسيحية والكهنوت في الإسلام، حيث يلعب الكاهن أو رجل الدين المسيحي دور الوسيط بين جمهور المؤمنين والإله. فالقداس المسيحي لا يقوم به سوى الكاهن المؤهل دينيا لهذا الغرض. وبهذا المعنى لا يوجد كهنوت في الإسلام. فمن الناحية المبدئية بإمكان أي مسلم الدخول في علاقة مباشرة مع الله من خلال تأديته الشعائر الدينية المقررة. (ص 213-214).

لكن هذا، كما يؤكد أركون، لا يعني انعدام وجود الكهنوت أو رجال الدين في الإسلام. فانتفاء وجود تنظيم هرمي تراتبي، مثلما هو الشأن في المسيحية، لا يعني أنه لا توجد سلطة لرجال الدين في الإسلام. "وينبغي العلم بهذا الصدد أنه في الإسلام الكلاسيكي كما في الأنظمة المعاصرة فإن رجال الدين المسلمين يلعبون نفس الدور الذي كان يلعبه كهنة الكنيسة المسيحية في فترة ما قبل الفصل بين الدين والدولة في الغرب" (ص: 215) ومن خلال ممارسات الدولة في العالم الإسلامي وسعيها لحيازة مظلة دينية تمنحها المشروعية بهذا الاعتبار انقسمت طبقة رجال الدين في كل البلدان العربية والإسلامية "إلى قسمين: قسم مع الدولة، وقسم ضدها" (ص: 216).

وفي كتاب "قراءات في القرآن " يخلص أركون إلى أن هذه الأسئلة “طرحت في الأوساط اليهودية والمسيحية بخصوص التوراة والعهد الجديد. حاول علماء لاهوت وفلاسفة مشاهير منذ بضع سنوات تجاوز الإشكالات الكلاسيكية، لكي يستطيعوا التحدث عن الله بما يتناسب مع فكرنا الحديث ومعارفنا المعاصرة، ولكن مثل هذا الجهد التجديدي الكبير لم يحدث حتى الآن في ساحة الفكر الإسلامي. مثلاً، لا نجد في الساحة الإسلامية شخصيات فكرية لاهوتية تعادل أندريه نيهير (André Neher) بالنسبة إلى الفكر اليهودي، أو جان دانييلو (Jean Danielou) وإيف كونغار (Yves Congar) وجاك ماريتان (Jacques Martain) وإيتيين جيلسون (Etienne Gilson)…إلخ بالنسبة إلى الفكر الكاثوليكي، أو كارل بارت (Karl Barth) ورودلف بولتمان (Rudolf Bultmann)  وأندريه دوما (André Dumas )…إلخ بالنسبة إلى الفكر البروتستانتي” (قراءات في القرآن، ص 80).

لقد سعى أركون في كتابه إلى تفكيك “الدوغمائية الحرفية” التي ينهض عليها الخطاب الإسلامي الحركي والفقهي، في إطار صراعه التاريخي مع العقل الكهنوتي المتأسلم، وذلك انطلاقاً من “التوتر الصراعي الكائن بين العلوم الدينية أو التقليدية من جهة، والعلوم الدخيلة (الأجنبية) من جهة أخرى. هنا يكمن جوهر المشكلة. هكذا نجد أنفسنا وقد رجعنا إلى التقلبات الأيديولوجية التي طرأت على مكانة العقل وأنماط العقلانية المتصارعة داخل السياقات الإسلامية وذلك بدءاً من القرن الثامن ميلادي” (المرجع نفسه، ص 35). ثمة خلاصة هامة تشكل أحد أبرز الخلاصات الأساسية في الكتاب، يفسر فيها أركون أسباب تراجع “العقل الفلسفي” في الحضارة العربية والإسلامية. يقول: ” بعد الحضور الهش والمقاومة المشرفة للعقل الفلسفي في الإسلام الكلاسيكي، فإن تيار العلوم الدينية والقرآن اللامخلوق هو الذي انتصر وهيمن على العالم الإسلامي منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا. بمعنى آخر: إن المعتزلة هزموا والفلاسفة هزموا ولم ينتصر إلاّ التيار الحنبلي – الأشعري. إذا لم نأخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار، فلن نفهم شيئاً من شيء ضمن ما يحدث اليوم. إذا لم نفهم الماضي بل الماضي البعيد، فلن نفهم الحاضر” (المرجع نفسه، ص 36).

وهنا يقدم أركون نموذجا للمفكر النزيه الباحث عن الحقيقة الملتزم بشعار التوحيدي "نازعت الحق بالحق للحق" وهو مثقف نقدي يبتعد عن مغازلة السلطة بل كان ينتقدها ولا يفكر البتة في الاقتراب منها والتربح من وراء ذلك والرغبة في الشهرة والاستعراض عبر المحطات الفضائية والسعي إلى الجوائز والتكريمات والوصولية والطمع في المناصب والمكاسب بل كان يفضح أشكال الاستغلال والتلاعب واستغلال الدين لأغراض سياسوية (الكهنوت السياسي والديني) مما جعله مثقفا متخوفا منه لا تحبذ أي سلطة عربية الاقتراب منه ناهيك عن مساومته واستغلال اسمه كماركة تجارية للترويج لسياستها في محاربة الظلامية أو التطرف كما تدعي وهي ذاتها سلطة تفتقر إلى المشروعية السياسية والشفافية والعدالة والديمقراطية ومبدأ التداول على السلطة، وهذه نقاط مضيئة في مسار الرجل يجدر التنويه بها فقد عهدنا مثقفين يقدمون أنفسهم على أنهم نقديون أو تنويريون يمينيون أو يساريون قوميون أو وطنيون إسلاميون أو علمانيون سرعان ما ينكشفون على حقيقتهم إذ هم سلطة تريد مغازلة سلطة والتماهي معها وطلاب سمعة ورواد تربح يزيدون الطين بلة والأزمة طولا وعمقا باعتبار المثقف النبراس الذي تنكشف به الدياجر فإذا كان مجرد سامري يموه ويضلل بالعجل الذي يحسبه الناس إلها سيزيد في تخلف المجتمع واستبداد السلطة وعطالة الأمة من أي فاعلية حضارية أو علمية أو فكرية وصناعية.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.....................

المراجع:

1- ريتا فرج: محمد أركون: زعزعة اليقينيات و”اللاّمفكر فيه” في الإسلام، الهدف، الأربعاء 12 يونيو 2019 | 08:21 ص

2-إبراهيم مشارة : محمد أركون سبق التجديد أم أصالة الاجترار؟، ميدل ايست أونلاين، السبت 2021/07/03

3-أركون: الهوامل والشوامل حول الإسلام المعاصر»، دار الطليعة 2010

في المثقف اليوم