قضايا

شيء من الاحلام في التحليل النفسي

أن الحلم ظاهرة نفسية هو ما عبر عنه سيجموند فرويد بالوضوح والتأكيد القاطع لأنها حياة الإنسان وهو خارج الوعي وفي عالم آخر ربما يشبه حالة الموت كما يقول الفلاسفة. ويؤكد فرويد بأن الحلم عملية ذات معنى يمكن إدراجها في سياق خبراتنا النفسية، وليس بشيء خارج عمليات النفس المدركة أو غير المدركة، والسبب في ذلك كما يؤكد لنا فرويد إن النوم يجعل تكوين الحلم ممكنًا لأنه ينقص قوة الرقابة النفسية الباطنة.. إذن هو حارس النوم.

أن الحلم يحقق رغبة، وكل رغبة " أمنية" تصور في الحلم لابد أن تكون رغبة طفلية، وتنشأ هذه الرغبة من اللاشعور " اللاوعي" عند الراشدين كما يذكر فرويد ذلك في تفسير"تأويل " الأحلام في ص 544 ترجمة مصطفى صفوان.

يتساءل البعض ونحن معهم كيف يكون الشيء مبهم وهو فينا، نحمله في دواخلنا، يتعايش معنا، لا ندركه، ولكن نتعرف عليه بعد حدوثه فتأتي الإجابة بإن عقول الناس تحتضن أشياء معينة يعرفونها دون أن يعرفوا، وهو الحلم بعينه، رغم أن التحليل النفسي بكشوفاته أثبت وجود عالم اللاشعور " اللاوعي" مخزن اللامنتهي من السعة والإدراكات.

أذن الحلم يخرج من عوالم اللاشعور " اللاوعي" بطريقة قل وصفها ومعرفة آلية كنهها وعملها، ولكن فرويد بعبقريته لمس موضعها وأخرج مكنوناتها وسبر أعماقها بطريقة عجيبة غريبة، تفرد بفن قراءتها فاق قدرة الفلاسفة وواضعوا الاساطير ومدونو الكتابات، ولا نغالي إن قلنا أنه "فرويد" عرف لغة الأقدمين ممن كتبوا اللغات الهيروغليفية القديمة ودونوا نقوشهم على جدران الكهوف والمغارات، فكانت قراءته تنطلق بأنه عرف كنه هذا الإنسان معرفة حقه، ومنه أبتدأ في معرفة ما يعتمل في داخله قبل وأثناء وبعد ما يعيش لحظة الصراع النفسي. فلا نغالي إن قلنا أن التحليل النفسي هو تشكيل جديد للاوعي – اللاشعور بعد أن يكون قد أنهك هذا الإنسان المعاصر صراع لا منتهي وأزاء ذلك يقول العلامة مصطفى زيور الصراع في التحليل النفسي هو ذلك التعارض اللاشعوري "اللاواعي" بين رغبة غريزية تنشد التفريغ وميل يعارض ذلك ويناهضه. ويدور الصراع بين رغبات " الهو " الغريزية اللاشعورية "اللاواعية" ووظائف الأنا الدفاعية اللاشعورية كذلك كما هو في عصاب الوساوس القهرية. أنه اللاشعور " اللاوعي" منبع ما يصدر عنا من سلوك ويقود تعاملاتنا مع أقرب المقربين لنا ونحن أطفال، أو مراهقين، أو بالغين ناضجين، هو المحرك لكل ذلك دون علمنا، ومنها ما لا نستطيع قوله أو البوح عنه، لأنه غير مقبول إجتماعيًا أو دينيًا أو يتعارض مع القيم السائدة في مجتمعاتنا، وإلا فما بال من تحتقن بداخله برغبة الشذوذ عن ما هو معمول به في السلوك الجنسي، وهي رغبة المختلف عن الأخرين في طلب الحاجة الجنسية، وهو عالم المثليه. كيف يفكر الإنسان العادي ؟ وكيف يفكر الإنسان المثلي؟ وكيف يتم كبت هذه الرغبات والامنيات عنوة وبقوة، لكنها تعود بشكل آخر بغير الطريقة والأسلوب التي خزنت في هذا العالم الواسع الخفي، تعود بعد أن ضاقت بها النفس وكادت أن تمزقها فخرجت بتفريغ مقبول يرضي صاحبه ولكنه لا يفهمه، عاد مشوه، سريالي التكوين، مبعثر الكلمات واللغة، وحقًا حينما أطلق جاك لاكان مقولته أن للاشعور "للاوعي" لغة خاصة، تُفهم من خلال حل رموز الحلم، لأنه متركب من عالم اللاشعور. إذن الحلم.. تحقيق مقنع عن رغبة مكبوته كما أعلمنا سيجموند فرويد، وهو كذلك أي الحلم.. الطريق الملكي للاشعور، أو الطريق الذهبي للاشعور "للاوعي"

إذن.. الحلم تحقيق رغبة " أمنية"

يدلنا جاك لاكان بقوله عن فكرة الحلم: الحلم هو الحدث الذي بفضله تمر المتعة إلى اللاشعور "اللاوعي"

أننا أزاء ظاهرة نفسية لم تغب عن حياة الإنسان منذ فجر نشوء تاريخ البشرية لدى الأسوياء ولدى غير الأسوياء، وبذلك يقول فرويد.. الحلم ظاهرة شائعة في حياة الأسوياء، مهما تمايزت خصائصه عن ظواهر حياتنا اليقظة، ونقول نحن إنها عرفت منذ بدء تاريخ البشرية، لأنها أمنيات في الوجود المترف، والوجود الصعب، والحياة المعاشة في مختلف المجتمعات البشرية في مختلف الأزمنة والأمكنة في هذا الكون.

يتعمق سيجموند فرويد في بحثه عن عالم الأحلام ويقول: الحلم.. إذا افترضنا أن ما نذكره منه عند اليقظة ليس عملية الحلم الحقيقية بل هو واجهة تستتر وراءها هذه العملية. فعلا هناك خفي ما كان أعظم وأكثر غرابة، وأكثر اندهاشًا، لا وربما أكثر متعة وألمًا، لذة وألم.. هذا هو مبدأ الحياة في الوجود، يعلن الإنسان شيء ويخفي أشياءكثيرة، لأنها رغبات غير مقبولة، لكن يدلنا الحلم على كنهها وما تحتوي، يعرفها بحق المحلل النفسي في ميدان عمله لا سيما أن طبيعة عمل المحلل النفسي هي معرفة مسألة الرغبة وهي جوهر الإنسان.

تكلمنا عن فكرة بأن الحلم في جملته بديل محرف عن شيء آخر، عن شيء لاشعوري" لاواعي" وأن تأويل الحلم يهدف إلى الكشف عن هذه الأفكار اللاشعورية- اللاواعية وهي التي ظهرت في الحلم بعد أن أحيل بينها وبين اخراجها للواقع فذهبت بطريقة لا يدركها من لا يطلع على أدبيات التحليل النفسي وأسسه ونظرياته العلمية، لذلك يقول فرويد.. تمييزنا بين المضمون الظاهر للحلم، وأفكار الحلم الكامنة... وسمى فرويد العملية التي تحول الأخيرة إلى الأولى.. صياغة الحلم... ويضيف لنا سيجموند فرويد قوله " تقدم لنا دراسة صياغة الحلم مثالا عن النحو الذي تفرض به مواد اللاشعور " اللاوعي" في الهو – أصيلة كانت أم مكبوتة – وبذلك يؤكد لنا فرويد.. نحن نهدف إلى أن نتبين أن للاحلام معنى. لذا... فدراسة الأحلام خير تمهيد يمهد به لدراسة الأمراض النفسية. وقول فرويد في كتابه الموجز في التحليل النفسي إذن الحلم ذهان بكل ما يصاحبه من سخافات وهذيان وأوهام، والحق أنه ذهان قصير الأمد لا ضرر منه، بل إنه يؤدي وظيفة نافعه، ويتم بموافقة الحالم وينتهي بفعل إرادي يصدر عنه، ومع هذا فهو ذهان.

اننا في عالم الأحلام نذهب بعيدًا في بعض الأحيان رغم إنها "هي الأسلوب الذي تستجيب به الحياة النفسية للمنبهات التي تكتنفها خلال النوم" كما يقول فرويد وقوله كذلك إن من الأحلام ما يبدو بعض أجزائه واضحًا ناصعًا إلى حد بعيد، والبعض الآخر على درجة كبيرة من الغموض، وهو بحق أي الحلم يرتبط بانطباعات تأثر بها الشخص في الأيام الأخيرة التي سبقت الحلم ارتباطًا أوثق مما كنا نظن من قبل.

يزودنا فرويد بحقائق علمية تضيف معرفة جديدة لنا وقوله: كل حلم هو بناء نفسي ذو معنى يمكن الربط بينه وبين مشاغل الحياة في اليقظة، وكذلك يضيف "فرويد" أخيرًا قد يستطيع الحالم، إن أتخذ الحلم نقطة ابتداء، أن يتذكر حوادث وقعت له في عهد أبعد من هذا، بل قد يصل إلى أحداث ترجع إلى عهد جدً بعيد.

أما " موراي " فيرى بعبارة محوكة حياكة مقبولة: إننا نحلم بما رأيناه أو قلناه أو رغبنا فيه أو صنعناه.

أما منابع الحلم وأصوله تؤكد لنا أن بناءه يقوم على اسس أربع طبقات وهي استخدمت في تصنيف الأحلام نفسها:

1. منبهات حسية خارجية " موضوعية"

2. منبهات حسية داخلية " ذاتية"

3. منبهات جسمية باطنية عضوية

4. مصادر نفسية خالصة للتنبيه.

إن المنبهات التي تقلق النوم قد تكون نفسية كما قد تكون بدنية. فنحن نعلم علم اليقين أن المنبهات النفسية هي المسؤولة على وجه التخصيص عن إقلاق النوم عند الراشد الكبير. وكذلك أن الحلم نتاج لنشاطنا النفسي الخاص، بيد أن الحلم بعد أن ينقضي يثير العجب من أنفسنا، وكأنه شيء غريب عنا.

ويقول فرويد: أن لكل حلم مغزاه وإن خفي هذا المغزى، وأن الحلم قد جعل ليحل محل عملية فكرية أخرى، وليس علينا إلا أن نرفع هذا البديل على النحو الصحيح لكي نصل إلى ذاك المعنى الخفي. ويؤكد لنا فرويد بأن لكل حلم معناه وقيمته النفسية.. ولكن من الواجب مع ذلك أن نترك مكانًا لإمكان تفاوت هذا المعنى بتفاوت الأحلام. فحلمنا الأول قد حقق رغبة.. ولكن قد يجيء ثان فإذا هو يحقق مخافة.. أو ثالث فلا يخرج محتواه عن أن يُكونْ فكرة ما.. أو رابع يستحضر إحدى الذكريات وحسب.

يعرض فرويد رؤى متنوعه عن الأحلام بقوله فالحلم كما نتذكره ليس الشيء الحقيقي الذي نبحث عنه بل بديل محرف له تستدعى به أفكارًا بديلة أخرى، وأزاء ذلك يبين لنا فرويد وجود اصطلاحين اساسين في الحلم هما

الحلم كما يرويه الحالم المحتوى الظاهر للحلم وسنسمي المعنى الخبيء الذي نظفر به عن طريق التداعي الأفكار الكامنة للحلم ولكن فرويد لا يترك ذلك فحسب، بل يقول: علينا الآن أن نأخذ في فحص الصلات بين المحتوى الظاهر والأفكار الكامنة، فالعنصر الظاهر ليس تحريفًا للعنصر الكامن بقدر ما هو تصوير له.

وأخيرًا يمكننا أن نتعلم من فرويد بإن الحلم يبعد أن يكون مصدرًا لإقلاق النوم " كما يؤخذ عليه عادة ".. بل انه حارس النوم يحميه من كل ما من شأنه أن يسبب له ازعاجًا.. صحيح أننا نميل إلى الظن بأن النوم الخالي من الأحلام خير من النوم المصحوب بها، لكنه ظن خاطئ، فالرغبة "الأمنية" هي التي تستثير الحلم، ومضمون الحلم تعبير عن هذه الرغبة: تلك إحدى الحقائق الرئيسة للحلم. ونتفق مع رؤية بأن الحلم لديه رسالة ووظيفة ويمكننا أن نعبر عن ذلك بأن الحلم في المستوى الواقعي له وظيفة حماية النوم ولكن هذا لا يتعارض مع كونه رساله.. كما يقول المحلل النفسي محمد درويش...

أعتقد أنها وظيفة ورسالة استنادًا لقول العلامة مصطفى صفوان قوله أن الحلم يتألف أكثر ما يتألف من صور مرئية لا من اصوات. وهي لغة الحالم النهارية.. ويضيف صفوان قوله: أن اللغات النهارية مهما أمعنت في هذا الاتجاه لا تبلغ أبدًا إلى القضاء على اتساع اللفظ الواحد للمعاني المتعددة..

***

د. اسعد الامارة

 

في المثقف اليوم