قضايا

العقل العربيّ ما بين الاتباع والابداع

لم يزل الكثير ممن يشتغل على المعرفة، لا يميز في الحقيقة بين العقل والدماغ، فيساوي بينهما من حيث التكوين والوظائف. علماً أن هناك فرقاً بين العقل والدماغ.

فإذا كان الدماغ هو العضو المعقد التركيب داخل الجمجمة، والمسؤول عن إدارة نشاط الجهاز العصبي. وهو ذاته جزء من الجهاز العصبي المركزيّ، ويوجد في كلّ الفقاريات وفي مقدمتها الإنسان.

فالعقل هو مجموعة المعارف المكتسبة التي يحصل عليها الإنسان من خلال علاقته مع الطبيعة والمجتمع، عبر الحواس والتجربة، وكل وسائل المعرفة المتاحة التي يلعب الدماغ الدور الأساس في تلقيها وتحليلها وإعادة تركيبها وممارستها، وبالتالي تقويم صحة نتائجها وتوظيفها لمصلحة الإنسان أو ضده. ومع تأكيدنا على هذا الفصل أو النمذجة بين العقل والدماغ، إلا أننا لا نستطيع عزلهما عن بعض فكلاهما يكوّنان آليّة عمل واحدة هي تحقيق المعرفة والقدرة على استخدامها، ولا يمكن لأي منهما أن يعمل منفصلاً عن الآخر، فلا عقل يعمل (معرفيّاً) بدون كسب المعارف، ولا معارف تكتسب دون الدماغ ومكوناته وآليّة عمله الفيزيولوجيّة.

وبناءً على ذلك يمكننا تعريف العقل متضمناً الدماغ بالضرورة على اعتبارهما وجهان لقضيّة واحدة بأنه:

مجموعة من القدرات المتعلّقة بالإدراك، والتقويم، والتذكّر، وأخذ القرارات، وهو ينعكس في بعض الحالات على الأحاسيس، والتصورات، والعواطف، والذاكرة، والتفكير، والرغبات، والدوافع، والخيارات، واللاوعي، بالإضافة إلى التّعبير عن السّمات الخاصة بالشّخصيّة، كما يتصف بكونه ظاهرة يمكن إدراكها، ولا تقتصر على الإنسان، بل هو ينوجد عند الحيوانات أيضاً، كما يمكن للعقل أن يكون خارقاً، أو مطلقاً، أو فائقاً أو مسطحاً، أي ضعيف الإدراك عند بعضهم.(1).. أو بتعبير آخر نستطيع القول بأن العقل: هو مجموعة من القوى الإدراكيّة التي تتضمن الوعي، المعرفة، التفكير، الحكم، اللغة، والذاكرة. وهو ما يعرف غالباً بملكة الشخص الفكريّة والإدراكيّة. والعقل يملك القدرة على التخيل، والتمييز، والتقدير، وهو مسؤول عن معالجة المشاعر والانفعالات، مؤديًا إلى مواقف وأفعال. (2).

مفهوم العقل عند الفلاسفة المسلمين:  هو إدراك الشيء على ما هو عليه من حقيقة في تكوينه وغاية خلقه ووجوده، وهذا المعنى يشترك فيه الجنس البشري كله. ومقياس العقل عندهم هو إدراك الحكمة التي من أجلها خُلق الكون والعقل نفسه، وإدراك هذه الغاية هو الذي يُعطي الإنسان صفة العقل الشرعيّ، فمن أدرك هذه الغايـة فهو عاقل، ومن لم يُدركها فهو غير عاقل. (3). وقد جاء في النص المقدس: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ سورة البقرة: 242. ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾. سورة الملك: 10..

من هذا المعطى المنهجي في تعريف العقل، يطرح السؤال التالي نفسه علينا وهو: أين موقع العقل العربي بالنسبة للاتباع والابداع؟. مع تأكيدنا هنا بأن العقل العربيّ موضوع بحثنا لا يقصد به الدماغ فحسب، بل وجملة المعارف التي كونها تاريخيّاً.

رغم أن تعريف العقل في التراث العربي، ظل ينوس ما  بين الدماغ والقلب عند الكتاب والفقهاء والمتكلمين والفلاسفة العرب المسلمين منذ بدء الدعوة الإسلاميّة حتى اليوم، (4). إلا أننا لا ننكر أن هناك من استطاع أن يتعامل مع العقل على أنه مجموع المعارف التي اكتسبها الإنسان عبر علاقته مع الطبيعة والمجتمع، (5). مع تأكيدنا بأن البحوث التي اشتغلت على توضيح العقل كظاهرة ثقافيّة قائمة بذاتها لها سماتها وخصائصها وآليّة تشكلها وعملها التي تكونت في السياق التاريخ لحياة الإنسان، ولم تزل تتكون أو تتشكل عند الفرد والمجتمع عبر عملية تاريخيّة تفاعليّة ومعقدة ما بين الدماغ والواقع المعيوش بوساطة الحواس والتجربة البشرية، ظلت محدودة. وإن غياب مفهوم العقل النقدي المادي الجدلي التاريخي في الفكر العربيّ القديم والمعاصر إلى حد محزن، ساهم كثيراً  في غياب مناهج البحث العلميّة، وخاصة في فكر العصور الوسطى إذا ما أخذنا فكر "ابن خلدون" على سبيل المثال لا الحصر في مقدمته، كفكر علميّ يقوم على التحليل والتركيب والتعامل مع قوانين موضوعيّة (سنن) تتحكم في آليّة عمل الفرد والمجتمع، رغم أن "ابن خلدون" ذاته لم يطبق منهجه العلميّ الماديّ التاريخيّ عندما دَوَنَ كتابه في تاريخ العرب والاسلام، وظل ملتزماً بما اشتغل عليه "الطبري" و:ابن الأثير" وغيرهما. فمع غياب هذه المناهج في البحث، إما بسبب ضعف التطور في الوجودين الماديّ والفكريّ آنذاك، أو بسبب مواقف سياسيّة عملت على محاصرة الفكر العقلانيّ النقديّ كما جرى مع الخليفة المتوكل الذي أصدر فرمانه المشين عام 232 للهجرة يمنع فيه التعامل مع العقل والتوجه نحو النقل. ومن يومها راح الفكر اللاهوتي والمثاليّ الموضوعيّ، والمثاليّ الذاتيّ الميتافيزيقيّ يتحكم في حياة الإنسان ومصيره.  وإذا كان الفكر المثاليّ اللاهوتي قد اعتبر أن كل شيء مخلوق لله، وأن الإنسان في النهاية محكوم أو مقيد بقوى غيبيّة أو طبيعيّة أفقدته لقراره وإرادته في تقرير مصيره وحددت له كل شيء بشكل مسبق منذ ولادته حتى مماته. فإن المثاليّة الذاتيّة في الفكر الوضعي، هي ذاك الموقف الفكريّ الذي يعتقد دعاته أو ممارسيه بأن الإنسان بعقله أو بقلبه الذين منحهما الله له ووضع فيهما منذ بداية خلق الإنسان جملة من الأفكار الأساسيّة التي بها يستطيع تمييز الخير من الشر، مثلما يستطيع بهما أيضاً أن يمارس حياته ويشكلها وفق ما يمليه عليه عقله أو قلبه. وبناءً على هذا الموقف الفكريّ الذي ظل الدين هو مرجعه الأساس، تشكلت عقليّة وثوقيّه، أو دوغمائيّة تناولت التراث أو تعاملت مع الواقع ذاته، بمواقف جامدة سكونيّه مسكونة بهاجس المطلق والمقدس، والايمان والاستسلام، وبعيدة كل البعد عن التفكير النقديّ والشاك. أي أخذت تتكئ فكراً وممارسة على مرجعيات من خارج ذاتها، تعتقد أن هذه المرجعيات (النصوص) هي وحدها من يمتلك الحقيقة، وكل ما عداها هو حرام أو خطأ يسئ للحقيقة، وبالتاي يجب محاربته وإقصائه.

هذا وأن كل من حاول الخروج عن هذه العقليّة الوثوقيّة من فلاسفة وعلماء كلام وفقهاء حورب وشهر به وكفر وزندق أو حُرقت كتبه أو سجن أو قُتل. وفُسح في المجال واسعا لنشاط حملة الفكر القائم على النقل مدعوما من السلطات الحاكمة ذاتها منذ قيام الخلافة الأمويّة حتى اليوم.

أما أهم سمات وخصائص هذا الفكر الوثوقيّ الامتثاليّ الاتباعيّ فهي:

1- إن  هذا الفكر لم يزل له حضوره الفاعل، من خلال اعتماده على الماضي منطلقاً وجوديّاً ومعرفيّاً.

2- هو يعتبر الماضي النبع الصافي ممثلاً بأصوله التشريعيّة، وهي القرآن والحديث والإجماع والقياس.

3- كما اعتبر أن كل ما اشتغل عليه العلماء والفقهاء ولم يزالوا يشتغلون عليه عبر تاريخهم، هو ليس أكثر من تفسير واكتشاف لما هو موجود في هذا النص المقدس. لذلك فالكشوف العلميّة والقانونيّة وكل الأشكال الأدبيّة والفنيّة هي ليست أكثر من تجلي لما هو موجود أصلاً في هذا النص المقدس كما يعتقد بعض الأصوليين.

4- أن هذا التيار لا ينظر إلى طبيعة العلاقات القائمة في المجتمع وفق منظور مُسْتَغَلْ ومُسْتَغِلْ، بل وفق منظور دينيّ عقيديّ، (كافر ومؤمن وزنديق..).

5- إن هذا الفكر ينظر بريبة لأصحاب الديانات الأخرى بما فيها المسيحيّة واليهوديّة على أنهم كفار وليسوا مواطنين.

6- وهو فكر يحتقر المرأة ويعتبرونها ضلعاً ناقصاً أو كشاردة الإبل وحتى صوتها عورة، وبالتالي مكانها المنزل وتربية الأولاد وخدمة حياة الرجل وشهواته الجنسيّة.

7- هو يعتبر العمل في هذه الحياة يُبذل لكسب الآخرة وليس لتنمية المجتمع وتقدمه في هذه الحياة. وبالتالي فإن هذا التيار يرفض كل الأيديولوجيات الوضعيّة، أو الفكر الوضعي بعمومه، اليساريّ منه والقوميّ والليبراليّ، على أنه فكر تكفيريّ يراد به تقسيم المسلمين والإساءة لعقيدتهم.

8- هذا في الوقت الذي ظلت فيه السياسة عند دعاة هذا التيار الفكري تشكل أحد التوجهات الخفيّة والظاهرة. فالحاكميّة هي المصدر الوحيد للتشريع، وهي السبيل لوحدة المسلمين.

9-  لم يزل دعاة هذا التيار السلفيّ يتمسكون بسلوكيات السلف (الرسول والصحابة والتابعون وتابعو التابعين..)، من حيث اللباس والمسواك وتربية الدقون وحف الشوارب، والقطع القيميّ والأخلاقيّ في مسائل الضحك والعطاس ودخول الحمام وغير ذلك.

أمام هذا التيار الفكري السلفيّ الاتباعيّ نهض تيار آخر أكثر عقلانيّة، اشتغل فلاسفته ومفكروه في العصور الوسطى على المنطق الأرسطيّ الصوري، واتخذوا منه منهجاً في التعامل مع الدين عقيدة وفقها، فكان ابن رشد وابن سينا والفارابي والكندي وغيرهم، إلا أن العقل ظل عندهم يشكل منحة من الله يجب أن نستخدمه في فهمنا للدين، وبالتالي في تطبيق هذا الفهم على الواقع خدمة لمصلحة الإنسان، وبالرغم من أن "المنطق الصوريّ" هو منطق تأمليّ وحدسيّ وبدهي، وقليلاً ما يعتمد على التجربة، إلا أنه لم يستطع مواجهة أهل النقل وفلاسفته ومتكلميه الذين وجدوا في السلطات الحاكمة المستبدة عونا لهم، أو هم ذاتهم تحولوا إلى أدوات بيد هذه السلطات المستبدة، الأمر الذي أدى إلى محاربة حملة هذا الفكر التنويريّ والتنكيل بهم كما أشرنا قبل قليل. أما في عصرنا الحديث والمعاصر، فقد ظهر العديد من المفكرين العقلانيين التنويرين الذين اعتمدوا على مناهج بحوث علميّة ظهرت في الغرب. حيث تمت إعادة قراءة التراث والواقع المعيوش معاً قراءة اختلفت في مضمونها عن قراءات العصور الوسطى، فهناك من اعتمد المنهج الماديّ التاريخيّ والبعد الطبقيّ في دراسة التراث، وهناك من اعتمد المنهج البنيويّ، أو المنهج التاريخيّ، أو المنهج الوضعيّ، أو التاريخانيّ، أو الظاهري، أو الوصفي وغير ذلك. ومع ذلك ظلت معاناة هؤلاء الكتاب والمفكرين والفلاسفة لا تختلف عن معاناة من سبقهم في العصور الوسطى، فمنهم من كُفر وزُندق، ومنهم من طُرد من البلاد، ومنهم من مُنعت كتبه من التداول ومنهم من سُجن ومنهم من قُتل.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

........................

الهوامش:

1-  موقع موضوع. ما هو العقل.

2- الويكيبيديا.

3-   (العقل في الإسلام موقع ألوكة).

(4) – التيار الفلسفي والفكري الذي تعامل مع العقل والعقل كمصدرين وهبهما الله للإنسان، وبالتالي فالعقل هنا مستقل عن الواقع.

أبو بكر الرزي

" والقول بترجيح النقل على العقل أمر محال . لأن العقل أصل النقل . فلو كذبنا العقل لكنا كذبنا اصل النقل . ومتى كذبنا اصل النقل كذبنا النقل . فعلمنا انه لا بد من ترجيح العقل ."

ابن عربي

(العالم هو اعتراف متبادل بالوجود بين الله والإنسان، عبر العقل.)

هو يتعامل مع العقل على أنه معطى من قبل الله وليس معارفاً مكتسبة.

جابر بن حيان.

(إن الله هو الذي وهب الإنسان العقل والعقل علة كل شيء .. العقل نور والعلم نتيجة وهكذا كل علم نور. ) -

هو كذلك يتعامل مع العقل على أنه معطى من قبل الله وليس معارفاً مكتسبة..

- جلال الدين الرومي.

(أنتَ جوهرٌ والعالمان كلاهما عَرَض لك، والجوهر الذي يُطلَب من العَرَض ليس بذي قيمة، ابكِ على من يبحث عن العِلم في القلب، واضحك على من يبحث عن العقل في النفس.).

هو كذلك يتعامل مع العقل على أنه معطى من قبل الله وليس معارفاً مكتسبة..

(5) – التيار الفلسفي والفكري الذي تعامل مع العقل كمصدر للمعرفة المكتسبة تكون تاريخيا  فالعقل هنا مرتبط بالواقع.

(فإذا جازَ لعامّة الناسِ الاقتصار على معرفةٍ تخصصيّة ضيّقة، فإنّ القيادات الفكريّة لا بدّ أن تتسلّح بثقافةٍ واسعةٍ وعميقةٍ ومتنوّعة، لأن الاقتصارَ على فرعٍ واحدٍ من فروع العلم يصيب العقل بالضمور.)

إبراهيم البليهي

(عوّد نفسك الصبر على من خالفكَ من ذوي النصيحة، والتجرع لمرارةِ قولهم وعذلهم، ولا تسهلن سبيلَ ذلك إلا لأهلِ العقلِ والسن والمروءةِ، لئلا ينتشر من ذلك ما يجترئ به سفيهٌ أو يستخفُ به شانئ.).

عبد الله بن المقفع.

(و لو أني أصغيت إلى صوت الفطرة وتركت البداهة تقودني لأعفيت نفسي من عناء الجدل .. ولقادتني الفطرة إلى الله .. ولكنني جئت في زمن تعقد فيه كل شيء وضعف صوت الفطرة حتى صار همسا وارتفع صوت العقل حتى صار لجاجة وغرورا واعتدادا.).

مصطفى محمود

(زبدة قولنا، إن مفهوم العقل كما يتصوره الأستاذ الجابري، هو تلك الأداة المفكِّرة التي تتخذ شكلها من ثقافتها الخاصة. إنه أداة لأنه لا يدل على مجموع التصورات التي ينتجها بل هو تلك الميكانيزمات والنظم المعرفية التي توجع عقل ما نحو تصورات ضرورية حول عالمه الخاص.)

محمد عابد الجابري.

 

في المثقف اليوم