قضايا

لا قيمة لكتابة تتنكر للاعتراف

القارئُ يبحثُ عن ذاته فيما يقرأ، أعذبُ كتابةٍ هي ما يرى فيها القارئُ محطاتِ حياته، وتتكشف فيها ملامحُ صورته، ‏ويتجلى فيها شيءٌ من الأعماق المختبئة في نفسه، وتفضح العقدَ الكامنة بداخله، ‏وتعلن أسئلتَه ومعتقداته المخيف ‏إعلانها. القارئ يفتش في الكتابة عن شخصيةِ الكاتب، وأحوالِه وانفعالاته وحساسياته وهشاشته وضعفه البشري، ويدقّق في كلِّ ما يسعى الكاتبُ لإخفائه. يريد القارئُ تمزيقَ ما يحجبُ شخصيةَ الكاتب من أقنعة، وما يتوارى خلفه وجهُه. لا يبحث القارئُ عن المكشوف الذي يعرفه الكلُّ عن الكاتب. أصدقُ سيرة ذاتية قرأتُها وتعلّمت منها ما كانت مرآةً لذات كاتبها، وما اعترفَ كاتبُها فيها بطبيعته بوصفه بشرًا لا ملاكًا، وتحدث عن شيء من ثغرات شخصيته، وأعلن عن شيء من وهنه وعجزه، وندمه على بعض أفعاله وآرائه الخطأ، بموازاةِ حديثه عن مزاياه ومنجزاته ومكاسبه ومواهبه.

لا نسمع من البشر إلا كلماتهم، ولا نرى إلا وجوهَهم، ولا نتحسّس إلا ما هو مُعلَن من مواقفهم وسلوكهم. يستعمل كثيرٌ من الناس مختلفَ الأقنعة لتغطية وجوههم، وتمويه كلماتهم، والمراوغة في مواقفهم. ‏نقع في الذهول أحيانًا حين ينكشف لنا شيءٌ مختزَنٌ في أعماق مَن نعرفه منذ سنوات وتربطنا به صداقةٌ قديمة، مما تفضحه المواقفُ الصادمة عند الغضب والانفعال الشديد، ومواقفُ الكيد والغدر والخيانة. مَن أراد تطهيرَ ذاته من أكثر العقد المترسبة في باطنها ينبغي أن يكون شجاعًا في الإعلان عن أخطائه وعثراته وإخفاقات مسيرة حياته، كما يقول علمُ النفس الحديث.

لا تكون الكتابةُ صادقةً إلا بالتحرّر من الوصايات، ومن أشدِّها وصايةً جماعةٌ أيديولوجية تُلزِم أفرادَها بالرضوخ لمعتقداتها وقناعاتها وشعاراتها، وتقحم أقلامَهم في صراعاتها ومعاركها. بعضُ الكتّاب يتنقل في محطات أيديولوجية واعتقادية وسياسية متنوعة، ويواصل الكتابةَ كلَّ حياته، من دون أن نعثرَ على جملةٍ واحدة تشير إلى أنه أخطأ يومًا ما في اعتناق واحدةٍ من أيديولوجياته، أو أخطأ في عناده وتشبّثه بآراء ومواقف قادته وغيرَه لعواقب مريرة، أو أنه كان لا يعلم شيئًا من قرارته، أو كان جاهلًا ببعض أفعاله وسلوكه. بعضُهم تراه في كلِّ محطةٍ يقع تحت وصاية جماعة أيديولوجية، لتصبح وجهتُها هي البوصلة المتحكّمة بمواقفه وغايات كتاباته.‏ أتحدث عن أولئك الذين يهرولون دائمًا نحو مَن يضمن لهم المزيدَ من المكاسب العاجلة، ومَن يعمل على تسويق كتاباتهم جماهيريًا، ويوفر لهم غطاءً وسلطةً تحميهم من أية ضريبة للكتابة. لا أتحدث عن أولئك الأحرار الذين تنشأ تحولاتُهم عن ذكاء، وضمير أخلاقي يقظ، ورؤية واعية، واستبصارات عميقة، وقدرة على تمحيص تجارب الحياة المتنوعة وغربلتها، والخلاص مما يتكشّف فيها من أكاذيب وأوهام زائفة. ‏

لا يمكن الوثوقُ بكتابةٍ يعجز فيها الإنسانُ عن الاعتراف بأخطائه، ومراجعة قناعاته، ونقد أفكاره. بعض الأشخاص تراه يقفز من أيديولوجيا إلى أخرى مضادة لها، من دون أن تقرأ له عبارةً واحدة يعترف فيها بخطأ في أفكاره أو مواقفه أو سلوكه،كأنه لا يدري أن كلَّ مَن يفكر يخطئ. الخطأ ضرورةٌ تفرضها طبيعةُ الإنسان بوصفه إنسانًا، لا يتحرّرُ الإنسانُ من الخطأ غالبًا إلا بعد أن يقعَ فيه، ويعترفَ بكونه خطأ، ويمتلك إرادةً جريئة تعمل بإصرار على الخلاص منه. مَن يمتلك شجاعةَ الاعتراف بالخطأ يمتلك القدرةَ على تغيير ذاته. الخوفُ من الاعتراف بالخطأ خوفٌ من التغيير.

تحدثُ تحولاتٌ في القناعات الفكرية والأيديولوجية والسياسية لمَنْ يمتلك عقلًا نقديًا، غير أن الإعلان عنها يتطلب ضميرًا أخلاقيًا حيًّا، ‏وإرادةً جريئة. يخاف أكثرُ الكتّاب الذين يعيشون في مجتمعات تقليدية مغلقة من البوح والاعتراف، عندما يكتبون يكرّرون ما يقوله غيرُهم بألفاظ أخرى. يعمد بعضُهم إلى عبارات زئبقية مموّهة، يريد أن تتنوع المواقفُ منها، تبعا لتعدّد تأويلات القراء وخلفياتهم.

طالما كانت الكتابةُ حجابا يخفي عاهات بعض الكتّاب الأخلاقية وعقدَهم النفسية. التجربةُ وحدها كفيلةٌ بتمحيصِ البشر، وفضحِ ما يحجبونه من عاهات بمهارتهم الحاذقة. الكاتبُ الأمين لغتُه صافية، بصمتُه واضحة في تعبيره وتفكيره. الكاتبُ الذي يعاند لغتَه، ويتمرّد على طريقة تفكيره وتعبيره ليس أمينًا.كلُّ كاتب يستنسخ توقيعَ غيره ويتلبّس قناعات تكذِّب قناعاتِه ليس وفيًا لمهنته. الكتابةُ هي الهويةُ المعرفية والأخلاقية للكاتب،كل ُّكتابةٍ تعاند لغةَ كاتبها وتغرق بلغةٍ مستأجرة كتابةٌ تخون قارئها وكاتبها. الكاتب الصادق مَن ترتسم سيرتُه الفكرية والأخلاقية في كتاباته، مَنْ تستمع بوضوح لإيقاع صوته، وترى بصمتَه الخاصة في الكتابة.

لا يحمي الكتابةَ والكاتبَ والقراء إلا يقظةُ الضمير الأخلاقي، الكاتبُ تحت الطلب لن يكون كاتبًا حقيقيًا. تسليعُ الكتابة يفتك بالقارئ، يخونُ الكاتبُ ضميرَه الأخلاقي عندما يزوّر قناعاته، ويظلّ قلمُه معروضًا للبيع يكتب لمن يدفع أكثر. أسوأ كاتبٍ ‏مَن يعمل كما يعمل البائعُ المتجول، البائع هدفُه بيعُ بضاعته والظفرُ بربحٍ عاجل من أيّ مصدرٍ كان. الكتابةُ الحقيقية هي تلك التي تثير نقاشًا جديًا (مع/ضد). يُكلّفُ الكاتبَ الإصرارُ على هذا اللون من الكتابة الكثيرَ من الإزعاجات، وهو موقفٌ يتكرّر مع كلِّ تفكيرٍ حر. باهضةٌ في مجتمعنا ضريبةُ كلّ تفكيرٍ ينشد الحرية، ويشتغل خارج إطار الأيديولوجيات والمفاهيم والقوالب المتداولة الجاهزة. لا جديدَ في كتابة لا تخرج على إجاباتٍ مكررّة وقناعاتٍ جاهزة. لا يشترط في الكتابة أن تنال إعجابَ الكلِّ وإجماعَهم، ‏الكتابةُ الذكية كتابةٌ خلافية، تثيرُ من الأسئلة أكثر مما تقدّم من الأجوبة، وتتمردُ على الكلمات والاجابات المملة. قوة الكتابة في اختلافِها، وفاعليتِها في إيقاظ الوعي، وتكريسِ الروح، وإيقاظِ الضمير الأخلاقي، وتهذيبِ الذائقة الفنية.

ليس هناك كتابةً جيدة لا تصطبغ بشيء من ذات الكاتب. الكتابةُ الجيدةُ يتكشفُ فيها شيءٌ من أعماق الكاتب، وتنهلُ من تجاربه الشخصية.كلُّ كتابة تعبر عن تجربة معاشة للكاتب ثريةٌ ومؤثرةٌ جدًا. الكتابةُ مفتاحُ قراءة شخصية الكاتب، كان أرسطو يقول: "تكلم لأراك"، ويمكننا أن نضيف لهذا الكلام: "اكتب لأراك". هناك صلةٌ وجودية بين الأثر وصاحب الأثر، الإبداع أعمق أثر تتجلّى فيه كينونةُ الإنسان الوجودية، الكتابة الجادة من أوضح أشكال الإبداع، وهكذا الشعرُ والرسمُ والنحتُ والموسيقى وأنواعُ الفنون السمعية والبصرية، يمكننا قراءةُ شخصية الكاتب واكتشافُ ما يرمي إليه عبر نصوصه، مثلما يمكننا قراءةُ شخصية المبدع عبر إبداعه.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

في المثقف اليوم