قضايا

فراس السواح.. محرك الأحجار الراكدة للفكر الديني

تعلمت من خلال كتابتي في السير الذاتية، أن حياة المفكر مليئة بتفاصيل صغيرة وكبيرة، وعندما أكتبها أجد نفسي مستبعدا أمور كثيرة في حياته، فهي ليست مهمة بالنسبة لي أو لا تهم الناس كما أعتقد، وبالتالي فإن مثلي هنا كمثل النحات الذي ينحت قطعة من حجر، ينحتها كمن يكشف عن سر في منحوتته لاستخراج ما هو مهم بالنسبة لي، ثم أزيل الأجزاء غير المهمة كما أتخيل. وعندما أتحدث عن الدكتور فراس السواح، فإنما أتحدث عن اسم ذا جرس موسيقي، له وقعه على الأذن، وعلامة فارقة في تاريخ الفكر العربي الحديث، وباحث لا يباريه فيه مباري، ولا ينازله فيه أحد، حتى أنه يقول عن نفسه :" أنا باحث مهم لأني ولجت ميداناً لم يلجه الآخرون إلا قليلاُ"، وهو مجال تاريخ ودراسات الأديان والميثولوجيات والأساطير.

وفراس السواح من مواليد مدينة حمص عام 1941 وفيها درس وحصل على شهادة الثانوية، ثم انتقل بعدها للدراسة في دمشق، ونال شهادة البكالوريوس في الاقتصاد عام 1965م من جامعة دمشق.

استهوته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكراً، فكتب في الصحف والمجلات منذ عام 1958م، وقد نشر أبحاثه الأولي في مجلة الآداب اللبنانية في الستينات، وفي نهاية السبعينات، نشر كتابه المؤسس الذي عمده باحثاً رائداً تحت عنوان "مغامرة العقل الأولي – دراسة في الأسطورة في سوريا وأرض الرافدين.

في كتابه الأول اعتبر فراس السواح الأسطورة هي المغامرة الأولي للعقل الإنساني، ويري في كتبه المتعاقبة أن الأسطورة هي قفزة أولي نحو المعرفة، وهي مرحلة لاحقة على السحر بعد أن يئس منه الإنسان القديم.

وقد رصد فراس السواح في كتاباته المتعاقبة مثل " لغز عشتار"، " الرحمن والشيطان"، " الوجه الآخر للمسيح"، " القصص القرآني بمتوازياته التوراتية"، " الإنجيل برواية القرآن"، وهلم جرا، كما رصد فراس السواح التأثير الواضح بين الأساطير التي ورثناها عن الحضارة القديمة، ومجموع الأديان، ولا نقول أن فرج السواح يخلق في عمله الضخم الذي يزيد عن 23 مؤلفاً محاولة للتقريب بين الأديان، كي يبحر في المخيلة البشرية ونزعاتها الروحانية التي تترجم لأساطير وميثولوجيا.

صاغ فراس السواح نظريته الفلسفية ورؤيته للدين في كتابه المهم " دين الإنسان - بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني، وهي أن الدين هو أحد السمات الرئيسية التي ميزت الإنسان عن غيره من الكائنات، وأنه يعد محرضاً أساسياُ، وهاماُ في حياة البشر عبر عصورها.

ظل فراس السواح مخلصاً للبحث والكتابة، وتوجت مسيرته بدعوة جامعة بيجين له بأن يكون أحد محاضريها لسنوات طوال، وذلك بعد أن تُرجم كتابه " التاو تي –تشينغ- انجيل الحكمة التاوية في الصين"، يقول فرج السواح :" إن الدين ظاهرة ثقافية، وكل دين ينشأ في حاضرة ثقافية تطبعه بطابعها، من هنا علينا أن نعترف بتنوع الأديان مثلما نعترف بتنوع الثقافات، وكما أننا نرفض سيادة ثقافة معينة على العالم، علينا أن نركض سيادة دين واحد، لا يوجد في رأيي أديان حقيقية وأخرى زائفة فكلها طرقاً تؤدي إلى الله.

وبحسب فراس السواح لا يخضع الدين لقانون التطور الذي رأي أنه لا ينطبق على حياة الإنسان الروحية والعاطفية، وبناءً على ذلك لا وجود لأديان بدائية وأخرى متطورة،، أو قديمة وحديثة، فالتجربة الدينية واحدة بحسب فراس السواح، وأبرز تعبير عن جدتها هي "الصوفية".

ركز فراس السواح على فردانية التجربة الدينية مؤكداً أن الدين أي الجماعي، أو الذي تتبناه الشعوب، والجماعات ظاهرة جديدة في تاريخ الأديان والحضارات عبرت عن نفسها في المعتقد، وظهور المعتقد نقطة فاصلة في تاريخ الأديان، حين خرجت التجربة الدينية من حيز الانفعال العاطفي إلى التأمل الذهني.

وارتباطا بما سبق خرج فراس السواح باستنتاج جديد وهو أن الوحي ظل متصلاً دون انقطاع منذ فجر التاريخ، والبشر جميعاً عرفوا الله عبر تاريخه الديني، كل ثقافة بما يتناسب ووضعها في سياق الارتقاء الثقافي.

والسؤال الآن: هل الدين فعلا واحد ؟، وهل هو تجربة فردية في المقام الأولي ؟، لماذا وجود الشيطان أساسي ولا غني عنه في الأديان؟

يقول فراس السواح :" إن الإنسان يولد، ولديه دافع طبيعي للتساؤل، وهذه الدافع أخذه منذ البدايات في رحلة أزلية بحثاُ عن أجوبة لتساؤلاته، وكان الدين احدي المحاولات الأكثر نضجاً للإجابة عن أسئلة الوجود، فالأديان بحسب عالم الأنثروبولوجيا ماكس مولر هو سعي الإنسان في تصور ما لا يمكن تصوره، وقول ما لا يمكن التعبير عنه ".

بينما عرفها فراس السواح بأنها التعبير الجمعي عن الخبرة الفردية الدينية، وهو تعريف ينسجم مع تعريف فراس السواح للإنسان بأنه كائن متدين، وهناك من خالف فراس السواح في فردية بداية التجربة الدينية، حيث يري هؤلاء المختلفين بأن التجربة الدينية هي نتاج تشكل المجتمعات البشرية الأولي وليست سابقة لها، بينما لجأ فراس السواح إلى الأركيولوجيا ولعلم الآثار لتدعيم وجهة نظره، حيث استدل باكتشاف حفريات تدل على ممارسات دينية لدي البشر الأوائل، وحتى إنسان نياندرتال السابقي لوجود الإنسان الحديث، وأما المعتقد فيري السواح نتاج انتقال التعبير عن التجربة الدينية من الانفعال العاطفي إلى الـتأمل الذهني، فالدين يبدأ فردياً، ويتحول إلى معتقد حسب فراس السواح عندما تتشارك جماعة من البشر التجربة الدينية الفردية ذاتها، فالمعتقد يعطي للخبرة الدينية شكلها العقلاني ويضبط ويقنن أحوالها.

وأضاف فراس السواح: لقد قمت بدراسة الأديان منذ تشكل وجود الإنسان على الأرض، فدرست الأديان في العصر الحجري القديم ثم الحديث، وقدمت براهين على وحدة الأديان، أو وحدة التجربة الإنسانية في الدين، ولاحظت التأثير الواضح بين الأساطير التى ورثناها عن الحضارات القديمة ومجموع الأديان، ثم كشف لنا ذلك كيف تأثرت الحضارات ببعضها، الحضارة تأخذ مؤثرها الأول، أو محرضها الأول من حضارة أخرى، ثم تشق الحضارة الجديدة طريقها وحدها منفردة بسماتها، نحن نجد تشابهًا مثلًا في الآلهة القديمة مثل أبلو اليوناني وبعلو السورى، أيضًا نستطيع أن نشير إلى براعة الحضارة السومرية فى الكتابة والعمارة، ثم أخذت مصر منها ذلك، وأسست لحضارة لا مثيل لها فى العالم.

وأكد فراس السواح أن التشابه بين الإسلام واليهودية يقتصر على وجود الشريعة، والمسيح تحدى الشريعة اليهودية، واعتبرها بولس لعنة ويجب أن يتخلص منها فصنع قطيعة مع كنيسة أورشليم. والمنظومة الأخلاقية المسيحية موجودة بالكامل فى القرآن، فهو يحتوى على منظومة أخلاقية وسلوكية متكاملة لا تفوقها منظومة أخلاقية فى العالم.

وانتقل فراس السواح للحديث عن بنية الدين الإسلامي ولغته، فقال: إن كثرة التفاسير الموجودة حول معانى القرآن تدل على أن هناك إشكالية كبيرة في اللغة، فلغة القرآن غير لغة القرن الثاني والثالث الهجري، هناك مفردات في القرآن لم يعرف المفسرون معناها، ومن الجدير دراسة اللغة العبرية والآرامية، فلغة القرآن هي لغة قريش التي ضمت ألفاظًا مشتركة بين اللغات.

وقد أعجبني جدًا تفريقه بين الدين الفردي الذى يعبر عن خبرة الفرد النفسية بالقدسي، وبين الدين الجمعي والمؤسساتى الذى يتطور مع تطور التكوين السياسي والاجتماعي المركب، يبدو أننا الآن فى عصر غابت فيه الخبرة الفردية بشكل مقلق للغاية، وتولت المؤسسات الاجتماعية المركبة استبدال هذه المشاعر الدينية الحقيقية التي نحن في حاجة إليها بمشاعر أخرى مصطنعة زائفة هي التي صنعت من الدين عصابًا كما رأى فرويد... الديانة الجمعية هي التي تولت لعصاب لا الدين في حد ذاته، وهو الأمر الذى عجوز فرويد عن فهمه، لأنه نظر إلى الدين على أنه مجرد مشاعر نفسية في حاجة إلى الأب الحامي، في حين عرض فراس السواح أن فكرة الألوهة هي فكرة لاحقة أساسًا على الدين، وأن الدين أسبق من ذلك بكثير.

في الحقيقة فإن المؤسسة الدينية هي بنية اجتماعية حديثة نسبًا فى تاريخ الحضارة الإنسانية، فقد عاشت الجماعات البشرية وفقًا لمعتقداتها ومارست طقوسها وقصَّت اساطيرها لعشرات الألوف من السنين دون مؤسسة دينية تشرف وتوجه وتجعل من نفسها السلطة المرجعية العليا. ربما قام أفراد متميزون فى مجتمعات العصر الحجري والمجتمعات القروية الأولى بالإشراف على الطقوس الدينية والتوسط بين العالم الدنيوي والعوالم القدسية إلا أن هؤلاء لم يتخذوا صفة الكهان المرسومين ولم يتمتعوا بسلطة مطلقة على الحياة الدينية لجماعاتهم".

في الختام لا يسعني إلا التعبير عن الإعجاب بموسوعية فراس السواح في تحريك الأحجار الراكدة للفكر الديني، حيث عرفنا عن معنى الدين وعن بنيته ومكوناته، كما مر بنا على تاريخ الأديان القديمة وشخصياتها المؤسسة، وطاف بنا حول نظريات كبار مفكري الدنيا ممن حاول دراسة أصول الدين وبداياته، كما لم يتخلف عن إطلاع قارئه كذلك على أشهر وأدق النظريات الفيزيائية المعاصرة دون أن ينسى البسيكولوجيا حيث رافقت آراء "كارل يونغ" أهم أفكاره الدينية.

***

د.محمود محمد علي

.......................

المراجع

1- يوتيوب: الدين والمعتقد عند فراس السواح | يتفكرون.

2- يوتيوب: مختلف - عليه.. إبحار في الأديان والأساطير مع فراس السواح – الجزء الأول.

3- فراس السواح: التجربة الدينية للإنسان واحدة محمود عبدالله تهامي، البوابة نيوز، الاثنين 28/يناير/2019 - 09:28 م.

4- أحمد إبراهيم الشريف: اقرأ مع فراس السواح.. "دين الإنسان" المؤسسات الدينية حديثة عهد والتدين قديم، اليوم السابع، الأربعاء، 08 يناير 2020 11:00 م.

في المثقف اليوم