قضايا

التلفيقيّة في مقال: أمين الزاوي ناقد تنويري كسّر بفكره وقلمه كل الطابوهات

لست من الذين يحبّذون المعارك النقديّة، ويسعون إلى خوضها، بحقّ أو بغير حقّ، دفعا لباطل متوهّم، ودفاعا عن قناعة ذاتيّة، على مذهب العقاد والمازني في موقفهما من أمير الشعراء أحمد شوقي. لكنّ، لست من دعاة السكوت وغضّ الطرف – أحيانا – عن بعض الآراء والأفكار الشوكيّة الداميّة.

و أنا أتصفّح صحيفة المثقف – كعادتي يوميّا - في عددها الصادر يوم 05 / مارس / 2023 م، لفت انتباهي مقالا أدبيا للأستاذة علجية عيش، بعنوان:

(أمين الزاوي ناقد تنويري كسّر بفكره وقلمه كل الطابوهات)، تناولت فيه قراءة لرواية {الخلاّن}. للروائي الجزائري، الدكتور أمين الزاوي.

وقبل أن أغوص في متن المقال، أودّ أن أعلّق على عنوانه أو (عتبته)، وأقول: إنّ الفلسفة النقديّة (التنويريّة) وظاهرة (كسرالطابوهات) عند بعض الكتاب السرديين والشعراء والنقاد، لا تعنيان التجديد والعصرنة والتطوير والنهوض بالفكر والأدب والذوق العام السليم، بل تعني عندهم الخوض – باسم حريّة التفكير والتعبير - في عوالم موبوءة، لا صلة لها بالذوق السليم والكرامة الإنسانيّة، واردة من الثقافة الغربيّة العاريّة من أثواب الحياء والقيّم الأخلاقيّة والإنسانيّة. بل وصل الأمر عند بعض كتاب السرد والشعر إلى محاولة تأصيل (مجتمع الميم) والدعوة إليه، تحت عنوان "الحريّة الفرديّة" ومظلّة "حقوق الإنسان".

إنّ مصطلح " الإخوان " ليس مصطلحا سياسيّا، من وضع حركة الإخوان المسلمين " وابتكارهم، التي أسسها حسن البنا ورفاقه. بل هي مصطلح قرآني وتراثيّ. جاء في المقال قول الكاتبة علجيّة عيش: " الملاحظ أن أمين الزاوي آثر اسم "الخلان" على اسم "الإخوان"، الأول (الخلان) هو مفهوم عقائدي والثاني (الإخوان) مفهوم سياسي ابتكرته الجماعات الإسلامية في مصر قبل أن تستورده الجماعات الإسلامية في الجزائر بقيادة الشيخ محفوظ نحناح ". وهو رأي عار من الصحة، لا أدري، من أيّ مصدر أو مرجع فكريّ اعتنقته. فمصطلح " إخوان " قديم، قدم لغة الضاد، وهو ليس من ابتكار فلان أو علاّن. ورد في أشعار الجاهليين وسردهم. كما ورد في القرآن الكريم، وفي كتابات فطاحل الأدباء والشعراء لاحقا، أي بعد ظهور الإسلام.

قال تعالى: " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا " (سورة آل عمران / الآية 103). وقال تعالى: " إنّما المؤمنون إخوة " (سورة الحجرات / الآية: 10). وقال تعالى: " ولا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم " سورة أل عمران / الأية: 156. و(إخوان الشياطين " و" إخوان لوط ". وقد ظهر المصطلح كعنوان (إخوان الصفاء وخلاّن الوفاء). وهكذا ارتبطت كلمة (إخوان) بالإيمان، فكانت نقيض العداوة والبغضاء والكفر والتفرّق والتدابر.

أما مصطلح (الخلاّن)، فقد ورد عند جماعة إخوان الصفاء. وقد استمدوها ونحتوها من. الاسم (خليل) وجمعه: أخلاء، وخُلاّن (بضم الخاء)، والمؤنث خليلة، والجمع المؤنث: خليلات، وخلائل. والخليل هو صديق خالص، صفيّ خالص المحبة. والرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل. وخليل الله / خليل الرحمان: سيدنا إبراهيم. والخليلة هي الزوجة.

قال الشاعر ابن الرومي:

خليل من الخِلاّن أصفيه خلّتي

فأبدى لي السرّ الذي أنا كاتمه

و ممّا جاء في المقال: " إن مفهوم "الخلاّن " (بكسر الخاء) يفتح الباب على مصراعيه للتأويل والتفكيك بحريّة / فهي تدعو إلى ارتباط الأنا بالآخر ونبذ الانقساميّة، هي دعوة لجمع الشتات العربي / الجزائري. هي كما قال دعوة للتعايش والتسامح في وطن يسع الجميع ويتّسع للجميع بغض النظر عن معتقداتهم وأعراقهم ولغاتهم، وهو الجزائر ". لا أريد أن أعلّق على رأي الناقدة وقناعاتها، فهي حرّة في اعتناق الأفكار التي تؤمن بها. لكن، أودّ أن ألفت انتباهها إلى الغرض من هذه الإزدواجيّة بين (العربيّ / الجزائري) التي أوردتها في نصّها. وأسألها: هل في الجزائر شعبان، أحدهما عربي والآخر جزائري؟ أليست هذه النظرة التأويليّة، مثار فرقة منبوذة، وإيقاظ لفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها؟ ألا تناقض مفاهيم التعايش والتسامح التي ادّعت بأنّها من مقاصد رواية (الخِلاّن)؟

و ممّا جاء في مقال الكاتبة علجية عيش: " وهنا نتساءل إن كانت فلسفة أمين الزاوي مبنية على فلسفة إخوان الصفاء وهل هو متأثر بهم، ما جعله يختار "الخلان " عنوان لروايته، هل هو اعتراف ضمني بالإخوان الخلان؟ لا أحد له الحق طبعا في أن يشك في عقيدة الزاوي، فهو مسلم لكنه ذا منهج تنويري يفكك المسائل من زاوية عقلانية وموضوعية منية على الواقع، يحاول تجديد الفكر وتطهيره إن صح القول، وليس كل تنويري مجدد ملحدٌ بالضرورة، إذا قلنا أن لقاء الثلاثة في وهران كما قال الزاوي جمعتهم سلطة دينية، ولذا أطلق عليهم الزاوي اسم الخلان ".

وهنا تظهر الفلسفة التلفيقيّة عند الكاتبة علجية عيش. فقد جمعت شخوص الرواية سلطة عاطفيّة إنسانيّة وليس دينيّة. لأنه يستحيل أن يجتمع (دينيّا) الكافر والمؤمن على كلمة سواء. واحد يؤمن بوحدانيّة الله واثاني يؤمن بالثالوث والثالث مازال ينقّب عن هيكل سليمان تحت المسجد الأقصى ؟ قد يجمعهم التعايش السلمي في زمكانيّة واحدة، كما جرى في الأندلس، لكن يستحيل أن يتعايش الظالم والمظلوم، الغازي والمغزوّ، المحتلّ والمحتلّ، هلّم جرا..

هناك فرق شاسع بين مصطلحي الإخوان والخلاّن. لأن الأخوة مبيّة على النسب البيولوجي، وتنزاح إلى المفهوم الديني " إنّما المؤمنون إخوة "، بينما الخلاّن، قائمة على الصداقة والعاطفة فقط. وقد شهدت هذه الكلمة تفكيكات عدّة، إلى درجة ربطها بالحب الماجن والوجد والعشق والوله. الخلان كمفهوم يقودنا إلى الحديث عن إخوان الصفاء وخلان الوفاء.

وترى الكاتبة، علجيّة عيش: " الفرق بين الخلان الذي تحدث عنهم أمين الزاوي هو أنهم يختلفون في فلسفتهم ورؤيتهم وحتى في "يوتوبياتهم " لواقع الشعوب وللحياة، حتى لو كان يجمعهم قاسم مشترك وهو مناهضتهم للاستعمار، إلا أن إخوان الصفاء يجتمعون على فلسفة واحدة ومنهج واحد وعقيدة واحدة وعقيدة واحدة، وهنا نتساءل إن كانت فلسفة أمين الزاوي مبنية على فلسفة إخوان الصفاء وهل هو متأثر بهم. " والحقيقة ليس هناك وجه شبه بين حياة " خلاّن " أمين الزاوي وأخلاقهم ومنهج " إخوان الصفاء " وفلسفتهم الأخلاقيّة. وليكن في علم الناقدة علجية عيش، بأنّ فلسفة الدكتور الروائي أمين الزاوي، معلومة سلفا. فهو قد بدأ حياته الفكريّة في مدرسة الفكر الشمولي، إلى جانب الفكر الوطني الرافض لفكرة الانتماء العربي، ورافضا " للوسطيّة " النقديّة، التي يرى فيها شرا مستطيرا ومحدقا بالمجتمع.

جاء في مقال له تحت عنوان: " الوسطيّة خطر على الفكر النقدي "، قوله:

"الوسطية" هي أكبر كذبة فكرية معمرة في تاريخ الفكر العربي، يصدقها المثقف والسياسي ورجل الدين، يصدقها المثقف الانتهازي والسياسي الذي لا يؤمن بفكر التناوب ورجل الدين الذي يسعى إلى خدمة السلطان مهما كان لونه وفكره "

وهو يدعو - بكل وضوح – إلى التحرّر من فكرة "الوسطيّة" في السياسة والثقافة والدين

وجاء أيضا في المقال نفسه قوله:

" كلما تحرر السياسي والمثقف النقدي ورجل الدين من "الوسطية" وتعامل كل واحد منهم بصدق وشفافية وانسجام مع مواقفه تمكن المجتمع من التقدم بثبات، وأصبحت الحياة السياسية والثقافية والدينية في صحة جيدة، معافاة من النفاق والمراوغة والفساد بكل أنواعه "

والمتأمّل لما جاء في دعوته هذه، يستشّف منها دعوة مبطّنة إلى التطرّف الفكري يمينا أو يسارا. وهو موقف ينافي مبدأ التسامح والتعايش السلمي بين فئات المجتمع الوطني والقومي والإنساني، وتكرّس سوأة الانقساميّة الإيديولوجيّة والعصبيّة الإثنيّة والتطرّف الديني في أوساط الأفراد والجماعات الأهليّة..

ومن المؤسف – حقّا - أن يمارس بعض النقاد عندنا سلوكا نقديا نلفيقيّا، تعسفيّا، بغرض خدمة الروائي بشكل متعمّد، نظرا لمكانته في المشهد الروائي، والحقل السردي، وهو ليس في حاجة إلى ذلك. بينا يجب أن تكون رسالة الناقد، في منأى عن التلفيق والمجاملة والمهادنة، مهما كان اسم المنقود لامعا ومتربّعا على عرش السرد الروائي.

إنّ النقد الموضوعي يعتمد على التحقيق لا التلفيق. فلينظر الناقد إلى معمار النص السردي، نظرة فاحصة وممحّصة، دون الوقوع فريسة لخلفيات سياسيّة أو إيديولوجية أو كيديّة، متجرّدا من الذاتيّة، التي لا تخدم النص الإبداعي.

بالإضافة إلى ذلك، فمن واجب الناقد أن يمتلك وعيا نقديّا، كي يتخلّص من النقد الانطباعي، الذي ساد فترة طويلة في تراثنا النقدي. وذلك باعتماد قراءة نقديّة موضوعيّة للعمل الإبداعي، دون الوقوع أسيرا في أغلال ذاته. ومن واجب الناقد – أيضا - أن لا يعطي للنص الإبداعي أكثر ممّا يستحقّ. إنّ الناقد الموضوعي مطالب بجعل النص الأدبي مسايرا للنص النقدي، لأن الثاني ينبني على الأول فإذا انطلق الناقد في نقده من خارج دائرة النص الأدبي، وبعيدا عن واقعه، وقع الناقد في التلفيق والحدث من أجل الحديث.

***

بقلم: الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

في المثقف اليوم